ثلاثية الأب الروحي .. سيرة ذاتية لزعيم مافيا

نحن أمام ملحمة سينمائية في ثلاثة فصول تضاهي تراجيديات شكسبير الكبرى. وإذا كانت شخصية “فيتو كورليوني” التي أداها العظيم “مارلون براندو” قد جذبت الاهتمام في جزئها الأول، واشتعلت كشمس حجب ضياؤها نجومية باقي الأبطال، الذين بدوا بجواره نجوما باهتة؛ فإن شمس “آل باتشينو” كانت تتوهج منتظرة لحظة انطفاء شمس “مارلون براندو”؛ لتملأ الفصلين التاليين حرارة ولهيبا.

على الرغم من أن الفيلم لم يكن مخططا له أن يكون مكونا من أجزاء؛ فإن النجاح  الساحق لجزئه الأول، إذ كان أول فيلم أمريكي تتخطى إيراداته حاجز الـ 100 مليون دولار، الذي جعل من إنتاج أجزاء أخرى له ليس فقط إمكانية، بل ضرورة ملحة تضغط الشركة المنتجة به على مخرجه وكاتب الرواية التي أخذت عنه الثلاثية، وشاركه المخرج في كتابه السيناريو الخاص به.

 واجه الفيلم مشكلات ضخمة لم تكن لتسمح له بالخروج لعالم السينما، فالشركة المنتجة لم تكن متحمسة لإنتاجه؛ فقد كانت لديها اعتراضات على مخرجه الشاب وقتها “فرانسيس فورد كوبولا”، وكانت تميل لمخرج مخضرم “إيليا كازان” الذي كان يجيد التعامل مع بطله “مارلون براندو” الذي كان في طور أفول فني نتيجة تحاشي الشركات المنتجة للعمل معه؛ نظرا لما يثيره من مشاكل في مواقع التصوير، كما أن “آل باتشينو” لم يكن اختيارا مناسبا من وجهة نظر شركة الإنتاج، فلم تكن قدراته كممثل قد ظهرت بعد، كما أنه فشل – وياللعجب – في اختبار الممثل لدور “مايكل كورليوني” الابن الأصغر لزعيم المافيا “فيتو كوليوني”.

حكاية تحول

يمكن اعتبار الثلاثية حكاية لكيف تحول مايكل كورليوني الشاب الوديع الجامعي، المتطوع لخدمة بلاده في الحرب العالمية الثانية والحاصل على وسام التضحية العسكرية لآلة قتل قاسية لا ترحم، وكيف استطاع وهو القادم من خارج المشهد أن يصير محرك الأحداث في عالم الجريمة المنظمة ويتسع باستثمارات عائلته من حدود أمريكا على اتساعها لدول أخرى والعالم أجمع.

فكبطل تراجيدي يتم دفعه إلى مصير لا يتمناه ولا يريده، يتم دفع “مايكل كورليوني” إلى عالم الجريمة، فكما لم يختر أوديب – مثلا – أن يقتل أباه ويتزوج أمه، كذلك لم يختر مايكل كورليوني (قام بدوره: آل باتشينو) أن يصبح أكبر زعماء عائلات المافيا في عصره، وتبدو محاولاته للهرب من مصيره عبثية وغير جدية، بعد أن تشوهت روحه وفقدت براءة البدايات.

يحكي الجزء الأول سيرة مايكل كورليوني الشاب، والجزء الثاني سيرته رجلا، والجزء الثالث سيرته شيخا هرما فقد كل شيء: سطوته وقوته وحتى عائلته؛ بحيث يمكن النظر إلى الثلاثية في مجملها باعتبارها سيرة ذاتية له باعتباره زعيم عائلة مافيا، وهذه السيرة الشخصية تتضمن – إلى جانب التطور على المستوى الشخصي لمايكل كورليوني – تطور مدى قوة وتأثير عصابات المافيا في السيطرة على أمريكا واتساع نطاق تأثيرها باضطراد حتى تشمل العالم كله، بل وتدخل في شراكة مع الكنيسة الكاثوليكية في روما في الجزء الثالث!

برع السيناريو في إيجاد الدوافع المنطقية لتحول كورليوني ودخوله لعالم الجريمة المنظمة، فمحاولة اغتيال أبيه الفاشلة أثرت على صحته، واغتيال أخيه الأكبر المرشح لوراثة زعامة العائلة وعدم صلاحية الأخ الأوسط للزعامة قد جعلت رئاسته للعائلة حتما مقضيا، خاصة بعد أن تورط في عملية اغتيال بنفسه لشرطي فاسد، وزعيم آخر من زعماء المافيا حامت حوله الشبهات في اغتيال والده، بعد رفض الأب لعرضه بالإتجار في المخدرات التي اعتبرها “كورليوني الأب” تجارة غير أخلاقية لا ينبغي التورط فيها!

هذا التخطي للأخوة الأكبر – إلى جانب تأثيره النفسي على الأخ الأوسط؛ مما يدفعه للتحالف مع أعداء العائلة في الجزء الثاني؛ الأمر الذي لا يغفره له مايكل، ويحكم على أخيه بالقتل، مؤخرا التنفيذ لما بعد وفاة والدتهما- يتلاقى مع ما هو قار في الميثولوجيا التوراتية أحد مكونات الثقافة الغربية الحديثة؛ فنحن نجد في التوراة هذا التخطي دائم الحدوث؛ فقابيل يتم تخطيه لصالح هابيل، وإسماعيل لصالح إسحق؛ وعيسو لصالح يعقوب، وهارون لصالح موسى، بل وعلى المستوى الرمزي نجده في تخطي الإله التوراتي إبليس – الابن البكر رمزيا – لصالح آدم: الابن الأصغر رمزيا للإله! كما يتلاقى مع مثيله في تاريخ منطقتنا العربية في نظم الحكم الاستبداية الجمهورية، التي تورث للأبناء؛ فبشار الابن الأصغر لحافظ الأسد تم الإتيان به من خارج المشهد السياسي السوري ليتولى الحكم باعتباره من عائلة – نفس الاسم الذي يطلق على عصابات المافيا – الأسد، بعد مصرع أخيه باسل، الابن البكر الذي كان يتم إعداده لتولي الحكم باعتبار الحكم ميراثا عائليا!

ولكننا نجد ميزة أخلاقية لعائلات المافيا لا نجدها في تلك النظم الجمهورية العائلية؛ فبينما لا نجد في تلك النظم من تقاعد من حكامها وتنازل عن الحكم لوريثه في حياته؛ نجد ذلك قد حدث من “فيتو كورليوني” لـ “مايكل كورليوني” في حياته، كما تكرر ذلك من “مايكل” لـ ابن أخيه الأكبر غير الشرعي “فينسينت”.

كما برع المخرج في العديد من المشاهد في إيجاد المعادل الموضوعي للتحولات الطارئة على شخصية “مايكل كورليوني”؛ فلحظة دخوله عالم الجريمة كانت مصاحبة للكمة تلقاها من شرطي فاسد أصابت وجهه بالتورم والتشوه؛ كأنها معادل موضوعي لما أصاب شخصيته من تشوه عالم الجريمة، ونجد مشهد التعميد لحفيد “فيتو كورليوني” متزامنا مع مشاهد الاغتيالات التي يجريها “مايكل” لزعماء العائلات المنافسة، كأن تعميده أبا روحيا يتم بدم ضحاياه!

الجزء الأول

يمكننا اعتبار الجزء الأول إذن رحلة صعود – أو سقوط – “مايكل كورليوني”؛ حتى يجلس على كرسي الأب الروحي مثبتا بجرائمة جدارته بهذا المقعد، كما يمكن اعتبار الجزء الثاتي بحثا في جذور العائلة، وقصة صعود “فيتو كورليوني” – قام بدوره شابا في هذا الجزء الممثل “روبرت دي نيرو” – حتى تحول من طفل يتيم مات والده نتيجة تحديه لزعيم المافيا في بلدة كورليوني الصقلية، ومات أخوه الأكبر وهو يحاول الثأر للأب، وماتت أمه وهي تحاول حمايته من بطش زعيم المافيا، وهاجر إلى أمريكا وحيدا؛ إلى زعيم مافيا واسع النفوذ، ولكن هذا ليس السبب الوحيد، بل هو محاولة ترينا الفرق في الأساليب ما بين الأب والإبن؛ فالأب لا يلجأ للعنف إلا في أضيق الحدود ولأسباب يمكن التعاطف معها رغم عدم قانونيتها – كقتله زعيم المافيا الذي قتل عائلته – بينما يبدو القتل هو أول الحلول وأيسرها عند الابن، بحيث لا يمكن التعاطف معه.

الجزء الثاني

الجزء الثاني من الثلاثية يبدو لنا كمرايا متجاورة لحياة كل من كورليوني الأب والابن؛ إن احتفاظ الأب بقدر من الأخلاقية في قصة صعوده، ضمنت له بقائه أبا محبوبا لعائلته، حتى ولو قُتل ابنه الأكبر؛ فإن له حفدة يقضي معهم شيخوخة هادئة وموتا في سلام، أما “كورليوني الابن” فلا يهتم في قصة صعوده بالحفاظ على زوجته ولا رابط الدم بينه وبين أخيه، وهو وإن بدا قويا في نهاية الجزء الثاني، وقد حرم زوجته من أبنائهما أو وهو يعطي الأوامر بقتل أخيه؛ إلا أن الجزء الثالث يرسمه لنا شيخا مريضا مهدما يملؤ قلبه الشعور بالإثم ويفتك به الألم، ويبحث عن التكفير والغفران وإضفاء شرعية على ثروة آل كورليوني؛ تلك الأمنية التي وعد زوجته بتحقيقها في خلال خمس سنوات من تزعمه العائلة، ولم تتحقق قط.

الجزء الثالث

في الجزء الثالث تبدو حرفية السيناريو إذا تذكرنا أن الثلاثية لم يكن مخططا لها أن تكون سوى الجزء الأول فقط؛ فقد أخذ السيناريو تفصيلة بسيطة جدا من الجزء الأول وهي علاقة غير شرعية بين الأخ الأكبر لمايكل وبين فتاة عابرة؛ أخذ السيناريو هذه التفصيلة وجعل منها خيطا دراميا فائق العذوبة؛ فقد تخيل أن تلك العلاقة نتج عنها طفل غير شرعي، وأبت المقادير إلا أن يكون هذا الطفل هو الوارث لزعامة العائلة بعد أن صار شابا يافعا وحاز على ثقة عمه مايكل بعد أن أنقذ حياته من محاولة اغتيال؛ فقد اختار ابن مايكل حياة الفن ونجح فيما فشل فيه مايكل في شبابه، وهو الابتعاد عن عالم الجريمة وعدم التورط في صراعات المافيا.

ولا يمكن ألا نكون قد أدركنا المفارقة؛ فالعائلة التي بحثت طوال عمرها عن العمل بأساليب شرعية يرثها في النهاية ابن غير شرعي!

لقد صار “مايكل كورليوني” عالما بفداحة الثمن الذي دفعه في بحثه الوحشي عن السطوة والنفوذ بالقتل والتعذيب وشراء ذمم البوليس والقضاء ورجال الكونجرس، لذا فقد تنازل عن زعامة العائلة لابن أخيه وحاول أن يجمع شمل أسرته مرة أخرى، ولكن رصاصة قتلت ابنته الوحيدة قضت على حلمه بشيخوخة هادئة يلعب فيها مع أحفاده ليموت بينهم كما مات والده؛ فمات محطما نفسيا دون أن يكون قربه سوى جرو صغير.

ثلاثة أوجه لعملة واحدة

“فيتو” (مارلون براندو) .. “مايكل” (آل باتشينو) .. “فينسينت” (آندي جارسيا)؛ ثلاثة أجيال تزعمت عائلة “كورليوني” وجلست على كرسي “الأب الروحي”، ولم تكن قد اختارت هذا المصير أو سعت إليه.

يبدو هذا المصير مفاجئا وغير متوقع، ودخيلا على اختياراتهم الحياتية الأصلية وبراءة البدايات (في حالة: “فيتو”، و”مايكل”) أو تلوثها (فنسنت، كونه طفلا غير شرعي لبكر “فيتو” والأخ الأكبر لـ “مايكل”).

في تتبع المسارات الحياتية للأبطال الثلاثة؛ سنجد بدايات لا تبشر أو حتى تنذر بالخواتيم:

  • “فيتو” الطفل الهارب من بلدته الصقلية “كورليوني” إلى العالم الجديد (أمريكا) في مطلع القرن العشرين بعد مصرع عائلته على يد زعيم مافيا محلية، يصير هو نفسه زعيم عائلة من عائلات المافيا في العالم الجديد.
  • “مايكل” أول شاب في عائلته يحصل على الشهادة الجامعية، والبطل الوطني الحاصل على وسام لشجاعته في الدفاع عن وطنه أمريكا في الحرب العالمية الثانية، والحريص على عدم التورط في نشاطات عائلته المشبوهة؛ يصير هو دون إخوته الأكبر منه وريث والده على كرسي الأب الروحي.
  • “فنسنت” الابن غير الشرعي لـ “سوني” ابن “فيتو” البكر، وشقيق “مايكل” الأكبر، يصير هو وريث “مايكل كوليوني” والأب الروحي للعائلة.

تبدو مسارات الثلاثة متطابقة أيما تطابق، تحكي في جوهرها آلية واحدة لسلطة تقوم ببسط سلطانها بالقوة وتوسع رقعتها بالدماء.

كانت إراقة الدماء لكل منهم نقطة تحول في مسيرتهم في عالم الجريمة المنظمة، كانت تعميدا بالدم تجعل من استحقاقهم للقب “الأب الروحي” أمرا مفروغا منه.

وبينما تختلف دوافع كل منهم لإراقة الدماء؛ فإن النتيجة واحدة، وما يذيقونه للآخرين يذوقون هم أيضا مرارته.

يمتلك “فيتو” مفهومه الخاص عن العدالة، ولذا لا يعتبر نفسه خارجا على القانون، بل يعتبر نفسه منفذا للعدالة كما يراها، ولذا حين يقتل زعيم مافيا منطقته وهو شاب، أو يعود للثأر ممن قتل عائلته في مسقط رأـسه؛ فإننا نتعاطف معه ولا نجد في تصرفه ما يشين؛ لأنه يتبع ذلك القانون الطبيعي الذي مرت عليه البشرية يوما، وهو وإن كان يهدد بالقتل وهو ما سماه: “العرض الذي لا يمكن رفضه”؛ فإنه لا يلجأ للقتل إذا كانت هناك سُبُل أخرى؛ فهو يرفض طلب “بوناسيرا” الحانوتي أن يقتل شابين عذبا ابنته وكانا يريدان اغتصابها، ورأى أن قتلهما ليس عدالة؛ لأن ابنة “بوناسيرا” لم تمت.

وعلى الرغم من أن “فيتو” ابنه البكر، تعرض لاغتيال في حرب العصابات التقليدية، ولكنه يحظى بتقاعد مريح وشيخوخة هادئة، ويموت وهو يلعب مع حفيده. ولم يمر بمرحلة الندم والشعور بالذنب التي مر بها “مايكل” في شيخوخته، بعد أن تسممت حياته بالكامل؛ لقد ورث كرسيا مخضبا بالخطايا، تعمد بالدم، وارتكب خطيئة قتل الأخ، ولعل محاولته شراكة الفاتيكان هي محاولة أخيرة للتطهر، واعترافه للبابا بذنوبه هي محاولة أخيرة لطلب الغفران، لكن ميراث الدم لا يمكن أن تبدده صلاة استغفار واحدة.

لقد اتخذ “مايكل” قراره بالصعود للقمة بكل الوسائل دون أن يعبأ بتأثير ذلك على حياته وعلى عائلته؛ فتوالى عليه الفقد؛ ففقد زوجته الأولى التي أحبها من أول نظرة، في تفجير استهدفه هو وكانت هي ضحيته، ثم فقد زوجته الثانية التي أفقدته ابنا ثالثا حين أسقطت جنينها بعد أن قررت فراقه؛ لأنه لم يعد الشاب البريء الذي أحبته يوما، وفي النهاية فقد ابنته التي قتلت في محاولة اغتيال كانت تستهدفه هو، وذلك بعد أن تصور أنه من الممكن أن يدير عنه هذا الكأس الدموي بأن يتنازل عن كرسي الأب الروحي لابن أخيه غير الشرعي “فينسنت”، الذي بدا مستعدا لدفع ثمن ذلك الجشع للقوة والنفوذ بأن يتنازل عن حبه لابنة عمه “مايكل”، وذلك رغم تحذير عمه له، من أنه متى دخل اللعبة فإنه لن يستطيع الخروج منها.

وتبدو المفارقة الختامية لتلك الملحمة السينمائية، أن الحفاظ على العائلة ومصالحها بالعنف والقوة؛ قد أدى بدلا من ذلك إلى تدميرها، وهو مسار لا يبرأ منه “فيتو”؛ فهو واضع مسار الالتجاء للعنف كخيار أخير، فجاء من بعده من جعله الخيار الأول.

لقد قال مخرج الثلاثية “فرانسيس فورد كوبولا” متحدثا عنها قائلا: لقد اجتمع لي في هذه الثلاثية أفضل فريق عمل يمكن أن يحصل عليه مخرج، وحين سُئل: وماذا فعلت أنت إذن؟ قال فخورا بنفسه: أنا الذي اخترتهم.

وقد صدق فيما قال، وحُقَّ له أن يفخر بنفسه.

Visited 102 times, 1 visit(s) today