تساؤلات حول فيلم “مراسلات” لتورناتوري ومشكلة البحث عن العالمية

م أكن قد شاهدت “المراسلات”  The Correspondencأحدث أفلام المخرج الإيطالي المرموق جوسيبي تورنتاتوري، الذي كنت دائما أنتظر بشغف كبير كل فيلم من أفلامه منذ أن قدم للعالم التحفة السينمائية الكبرى “سينما باراديزو” (1988) التي رسخت في ذاكرة الجماهير.

أما فيلمه الروائي الطويل الأحدث “المراسلات” فهو ليس على مستوى معظم أعماله السابقة التي بدأت في الهبوط والتشتت بعد فيلمه البديع “مكتشف المواهب” The Star Maker(1995)، بل هو أقل أيضا من عمله السابق مباشرة “أفضل العروض” (2013) The Best Offer رغم التشابه الظاهري بينهما.

فيلم “المراسلات” يروي قصة حب غير عادية، بين رجل كبير في السن وفتاة شابة في عمر ابنته، وهناك الكثير عن “لوعة الحب” أو ما يسببه الحب من عذاب للحبيبين خاصة أن الرجل يصبح مهووسا بحبيبته الجميلة البريئة التي يبدو أيضا أنها أصبحت متفرغة له تماما، أي انقطعت عن أسرتها وماضيها وأصدقائها، وتفرغت للقيام بدور الحبيبة، ولكننا سنكتشف بعد قليل أن لديها دورا آخر.

“آمي” (تقوم بالدور الممثلة الأوكرانية أولغا كوريلنكو) كانت طالبة لدى البروفيسور المتخصص في علوم الفضاء، الدكتور “إد فورام” (الممثل البريطاني جيرمي أيرونز) ووقعت في حبه وارتبطت به منذ ست سنوات، وهي الآن تدرس الدكتوراه تحت إشرافه. لكنه يختفي لمدة ثلاثة أشهر، لا يكف خلالها عن التواصل معها عبر مراسلات عديدة يستخدم فيها وسائل الاتصال المتعددة: البريد الالكتروني والرسائل البريدية والاسطوانات المدمجة والسكايب والطرود والمكالمات التليفونية.. وهو يحرص على تذكيرها بوجوده في كل الأوقات، يرسل إليها بباقات الزهور، ومفتاح المنزل البديع الذي يمتلكه في الريف الإيطالي الرائع على ساحل البحر في شمال إيطاليا، يبثها لواعج قلبه، وسنعرف أيضا أنه أهمل أسرته: زوجته وابنته وابنه من أجل آمي. لكن آمي تُصدم كثيرا عندما تعلم بوفاة حبيبها فجأة أثناء غيابه.

المفاجأة أن رسائل إد المختلفة تستمر في الوصول إلى الفتاة، بل ويخاطبها هو بنفسه أيضا عبر برنامج سكايب، كما يبعث برسائل نصية قصيرة من هاتفه، ورسائل بريد الكتروني متعددة. ما الذي حدث تماما؟ هل توفي الرجل أم لايزال على قيد الحياة؟ وإذا كان حيا يرزق فلماذا اختفى؟ كل هذه التساؤلات تدفع أمي للبحث والاستقصاء، فتغادر الى مدينة إدنبره موطن حبيبها، تحاول مقابلة أي فرد من أفراد أسرته، تزور محاميه في مكتبه الذي يؤكد لها وفاة الرجل الذي ترك لها أيضا قسما من ثروته. وتتوصل الى أنه دبر أمر استمرار وصول رسائله المسموعة والمرئية والمكتوبة إليها بعد وفاته لكي لا تشعر أبدا بأنه تخلى عنها.

آمي أيضا لديها قصة أخرى خفية ربما تساهم في القاء الضوء على شخصيتها والسبب الذي جعلها ترتبط عاطفيا برجل يكبرها في العمر. كما أنها تقوم بالعمل كبديلة للممثلات في الأدوار الخطرة.

هل يبدو كل هذا الخليط مقنعا؟ وهل تصنع مثل هذه الحبكة عملا كبيرا يرقى الى مستوى الأعمال الأولى البديعة لتورناتوري؟

الإجابة ليست في صالح المخرج الإيطالي الذي لا شك في موهبته، فالفيلم يعاني من الاصطناع وعدم الإقناع والحبكة “المدرسية” الساذجة التي يتم دفعها دفعا لخدمة فكرة ذهنية مسبقة تشغل بال تورناتوري منذ 20 عاما حسبما صرح.

هناك صور جميلة في الفيلم تصل الى حد الكمال الفني: تكوينات مدهشة، ومناظر طبيعية تبدو كاللوحات الفنية، وشريط صوت محوره موسيقى إنيو موريكوني أحد أعظم مؤلفي موسيقى الأفلام في تاريخ السينما، واجتهاد كبير من جانب البطلين (كوريلنكو وأيرونز) في التقمص ومحاولة إقناعنا بجهد واضح يخذله السيناريو بحدوده الضيقة وتكراره الفكرة وتعمد لوي الحبكة دون مفاجآت مثيرة، بأن ما نشاهده “طبيعي” أي قابل للحدوث.

الفيلم يستخدم فكرة فلسفية بسيطة حول إمكانية استمرار الحياة بعد الموت، والاستمرار الأبدي للحب وقدرته على مقاومة الزمن والشيخوخة بل والموت، ولكن في سياق أسلوب سرد تطغى عليه كثيرا صور الكومبيوتر وشاشات التليفون المحمول ونصوص الرسائل البريدية التي تظهر مكتوبة على الشاشة وبل وظهور البروفيسور الذي يبدو وقد أصبح يحاصر حبيبته ولا يترك لها مجالا للتنفس فيصبح عبئا عليها وعلينا أيضا!

المشكلة هي أن تورناتوري اختار منذ سنوات (على الأقل بعد فيلمه الطموح “باريا” (2009) الذي لم يحقق نجاحا يذكر رغم ميزانيته الطائلة، الابتعاد عن بيئته الطبيعية التي يعرفها جيدا، أي البيئة الإيطالية: الناس والشوارع والحارات والحانات والبيوت ووجوه القرويات الطيبة وأيدي الرجال المعروقة الخشنة، ورائحة التربة التي تختلط بالأزهار، والأهم بالطبع، القصص التي ترتبط بذاكرته الخاصة: البصرية والسمعية.

لقد فضل تورناتوري أن يبحث عن الطابع “الكوزموبوليتي” أي إخراج أفلام ناطقة باللغة الإنكليزية (التي تبدو للأسف مترجمة بشكل مدرسي عن الإيطالية)، لكي يقوم ببطولتها مشاهير الممثلين في العالم الناطق بالانكليزية، وذلك للوصول -أساسا- إلى السوق الأمريكية الأكبر في العالم، وهو في ذلك ينهج نفس السبيل الذي سبقه إليه مخرج إيطالي آخر مرموق هو برناردو برتولوتشي، مما أدى إلى تراجعه الفني وتراجع الاهتمام بأفلامه (التي صنعها خارج إيطاليا) بغض النظر عن جوائز الأوسكار التي حصدها “الإمبراطور الأخير”. فهل يمكن مثلا المقارنة بين “الإمبراطور الأخير”، و”التانجو الأخير”؟

لم يحقق “المراسلات” نجاحا يذكر. وربما يدفع ذلك الفشل المتكرر مخرجه الى مراجعة اختياراته والعودة إلى موطنه الأصلي في صقلية، ليستوحي ويصنع الأفلام المدهشة التي نترقبها وننتظرها منه.


Visited 187 times, 1 visit(s) today