تجربة المخرج السينمائي الإسباني أليخاندرو أمينابار

وضع المخرج الإسباني أليخاندرو أمينابار، قدميه بقوة على طريق عظماء السينما، مع فيلمه “أجورا”- Agora (2010). وقد بلغ هذا المستوي بعد أن خاض تجارب عديدة في الفيلم الروائي الطويل. وكانت البداية بفيلم “الأطروحة” Thesis (1996) وهو من نوع أفلام الرعب والجريمة والإثارة كان يتمثل فيه أفلام هوليوود، خصوصا وانه عبر عن إعجابه الكبير بالمخرج ستيفن سبيلبيرج.

لكن اليخاندرو امينابار ومنذ فيلم “داخل البحر” The Sea Inside (2004) ومن بعده “أجورا” بدا أنه صحح مساره الفني ولم يعد يهتم بأفلام الاثارة واقترب من السينما الفنية تجد لها مكانا في للمهرجانات السينمائية الكبري وتحصل علي الجوائز.

وُلد اليخاندرو امينابار في شيلي عام 1972، لأب من شيلي وأم إسبانية، وعندما كان عمره سنه واحدة رحلت عائلته الي اسبانيا، وكان هذا قبل خمسين يوما فقط من الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرال بينوشيه.

ويقول امينابار: مازلت اتذكر غناء أمي على الجيتار، لكن عندما وصلت إلي اسبانيا توقفت عن العزف والغناء، وتستدعي ذاكرتي ايضا أغنية قديمة لجيميني كريكت، وعندما كنت في السادسة عشرة، اشتريت جهاز تسجيل – ولم يكن لدينا في منزلنا في مدريد جهاز تسجيل حتي ذلك الوقتووقتها وجدت الاغنية نفسها”.

بدأ امينابار دراسة السينما في عام 1990، في جامعة “كومبلوتنس” في مدريد، وكانت الدراسة تتركز علي تقنيات الصورة والصوت، لكنها كانت تفتقر الي التدريبات العملية، ولذلك فقد ترك الدراسة بعد أن رسب عدة مرات بشكل تعسفي، ثم شرع في إخراج الأفلام القصيرة، ثم انفتحت الدنيا أمام هذا السينمائي الصغير.

في عام 1991 وكان عمره 19 عاما، عرض أول افلامه القصيرة وهو فيلم “الرأس”، الذي نال جائزة جمعية صناع السينما الهواه المستقلين، كما كان هذا الفيلم كان بداية زمالته مع ماتيو جيل – كاتب السيناريو والمخرج الإسباني – الذي سيصبح شريكا فنيا له في مشواره الفن، ثم قدم فيلمه القصير الثاني في عام 1992، وهو “الاجنحة الغشائية”، الذي فاز بجائزة أحسن فيلم في مهرجانيين بأليكانتي ومدريد.

قال أمينابار فيما بعد: “أردت من البداية أن أصبح مخرجا رغم أنني لم أكن أدرك متطلبات الإخراج، لكن في عامي المهني الأول كمخرج ادركت المعنى الحقيقي للإخراج، لقد كنت انا وصديقي ماتيو جيل، نحقق أول افلامنا”. وفي عام 1994 كتب أمينابار وأخرج ثالث افلامه القصيرة، وهو فيلم “القمر” الذي فاز بجائزة لويس جارسيا بيرلانجا لأفضل سيناريو، وجائزة أفضل شريط صوت.

اشتهر اليخاندرو امينابار بتعدد وظائفه في الفيلم الواحد، فهم يكتب السيناريو ويخرج ويقوم بعمل المونتاج، كما يمثل ويؤلف الموسيقي. وقد عمل ايضا مصورا ومونتيراً ومؤلفا للموسيقى في أول افلام صديقه ماتيو جيل، وهو فيلم “قبل القُبلة كنت أحلم أني قتلتك”.

بعد هذه الافلام القصيرة الناجحة، قرأ المخرج جوزيه لويس كويردة سيناريو من تأليف أمينابار وماتيو جيل، وهو سيناريو فيلم “الاطروحة”. الذي أصبح أول أفلامه الروائية الطويلة، هذا الفيلم نال سبع من جوائز “جويا” السنوية في اسبانيا عام 1996، ومن بينها جائزة أفضل سيناريو مكنب للسينما مباشرة، وأفضل إخراج.

عن هذا الفيلم قال أمينابار: “كنت اقرأ عن أفلام القتل، وكان الشئ الوحيد الذي كنت علي ثقة فيه، هو أنني أريد أن أحكي قصة عن كلية جامعية تزدحم بأشخاص تافهين مغرمين بالسينما، بينما الأساتذة حفنة من الأشرار”.

والفيلم يحكي عن انجيلا التي تدرس في اكاديمية السينما، وهي تعد أطروحة عن العنف في الافلام، وكعون لها في عملها فان معلمها “فيجيورو” يعدها بأن يبحث في المكتبة السينمائية عن أكثر الأفلام عنفاً، وفي نفس الوقت فان زميل دراستها “شيما” يدعوها لمشاهدة العديد من أفلام العنف والجنس في منزله .

وفي المكتبة الفيلمية يكتشف فيجيورو عن طريق الصدفة، تجاويف تؤدي إلى قاعات تحت الأرض مملوءة بمئات من أفلام الفيديو، ويختار واحدا من هذه الأفلام ثم يخرج. وفي الصباح تكتشف أنجيلا موته في قاعة العرض السينمائي، فتسرق شريط الفيديو الذي شاهده الأستاذ ثم تأخذه معها الي بيتها، ونظرا لحالة الخوف الشديد التي انتابتها، تقرر الاستماع الي الصوت فقط الذي تكتشف أنه عبارة عن صرخات إمرأة .

ويكتشف “شيما” وجود شريط الفيديو ويقرر مع انجيلا ان يُشاهداه، فيتضح أنه عبارة عن أحد افلام الجريمة، والقاتل هو الذي يصور الفيلم، وتشاهد انجيلا في الفيلم عملية تقطيع اجزاء من جسد القتيلة، ويقوم “شيما” بتحليل الصورة ويكتشف نوع الكاميرا التي استخدمها القاتل في تصوير الفيلم. وبعد عدة ايام تتقابل انجيلا في المعهد مع شاب يُسمي “باسكو” الذي يحمل نفس نوع الكاميرا، وتكتشف انجيلا ان هذا الشاب صديق حميم لـ “فانيسا” أي الفتاة المقتولة في الفيلم.

وبعد ذلك تكتشف انجيلا ان عددا من الكاميرات من نفس نوع الكاميرا اشتراها المعهد منذ سنوات، وتقابل أنجيلا البروفيسير “كاسترو” لمناقشة أطروحتها وبعد محادثة يشوبها التوتر بينهما، يكشف لها (كاسترو) شريط فيديو آخر، فتري نفسها في هذا الشريط وهي تقوم بسرقة شريط فيلم القتل من غرفة العرض السينمائي، ويطلب منها تسليمه له لكنها تهرب، وتُدرك انجيلا انها دخلت عالما محفوفا بالمخاطر أنها ربما تكون الضحية القادمة التي ستظهر في فيلم القتل التالي، لكنها تقرر أن تنأى بنفسها عن هذا الخطر.

أليخاندرو امينابار لم يكمل تعليمه الجامعي، فقد رسب في مادة التأليف السينمائي، والطريف أن الاستاذ الذي تسبب في رسوب اليخاندرو في هذه المادة كان اسمه كاسترو. ومن المفارقات أيضا، أن امينابار والذي رسب في مادة التأليف السينمائي اصبح واحدا من افضل سينمائي العالم بفضل كتابته لسيناريوهات افلامه بنفسه وبمشاركة أحيانا مع ماثيو جيل .

في فيلمه الطويل الثاني “افتح عينيك” عاد الاثارة السيكولوجية مُضافا اليها عناصر من الخيال العلمي، واستحدث اساليب جديدة غير معروفة في السينما الاسبانية .

في ظلمة زنزانة سجن تخص الامراض النفسية نري “سيزار” وهو شاب في الخامسة والعشرين من عمره، يبدأ في قص أسباب مجيئه الي الطبيب النفسي “انتونيو”، وهو يتمتع بالوسامة وله اسلوبه الخاص في استمالة النساء، كما أنه ورث ثروة كبيرة.  وإذن فكل شيء في حياته يكفل له الشعور بالسعادة.

وفي إحدى الليالي فانه يتعرف على “صوفيا”، يعرفه عليها صديقه “بيلايا”، ويقع سيزار في حب صوفيا من أول نظرة، ولا يجد غضاضة في أخذها من صديقه بيلاي، من دون أن يحدث أي توتر مع صديقه.

وفي نفس الليلة يذهب سيزار الي نوريا التي أصبحت مغرمة به حد الهوس، كما أنها تشعر بالغيرة، وعندما يحاول صرفها تصر علي البقاء معه فيقوم بتوصيلها بسيارته لتصطدم السيارة فتموت نوريا في الحادث ويتشوه سيزار الي حد اختفاء ملامح وجهه كلها .

وبعد عدة أشهر يعجز الجراحون عن استعاده ملامح سيزار بالرغم من ان سيزار وعدهم بدفع أي مبلغ يطلبونه، وفي أحد الايام يري صوفيا التي لم يرها منذ الحادث، انها تغيرت، فقد أصبحت باردة تجاهه وغير قادرة حتى علي رؤية وجهه.

ويدرك سيزار مقدار التغير الكبير في ملامحه، وكيف ان حياته انقلبت رأسا علي عقب، وينتابه الشعور باليأس الشديد ويلجأ الي الخمر ويصل الي حد أن ينام في الشارع، لكن في الصباح التالي يجد شيئا يغيره تماما، فهو يرى صوفيا تعود اليه، وتقول له انها تحبه، وبعد عدة أيام يُخبره الاطباء انهم يستطيعون استعاده ملامحه بعملية جراحية .

ويعود الحظ مرة أخري اليه، لكن صوفيا تختفي ذات ليلة، وتحدث مفاجأة، فالفتاه نوريا التي سبق وعرفنا انها قٌتلت في حادث السيارة، نراها في منزل سيزار تدعي انها صوفيا، ويتحول الموقف الي كابوس لأن سيزار لا يستطيع اخبار الشرطة أن نوريا – الميتة من وجهة نظرهم – مازالت علي قيد الحياة.

ان نوريا معها اوراق رسمية تُثبت ادعاءها بانها صوفيا، وبيلايا ايضا يقف بجوارها ويؤكد ادعاءها، ويشعر سيزار باليأس ويذهب لطبيب نفسي يلتمس العون، فهو يتخيل ان ثمة عملية احتيال كبيرة تُحاك ضده، ويتمني ان يكون كل ما حدث عبارة عن حلم وليس حقيقة.

يقول امينابار: “إن فيلم “افتح عينيك” هو فيلم عن العزلة، العزلة بكل اشكالها، ما الذي نعرفه عما يحيط بنا؟ وكم عدد الاشكال التي يتشكل بها الواقع من حولنا؟ وانطلاقا من هذا المعني فإنني أعتبر أن الفيلم كان أكبر تحدٍ لي وقت اخراجه، مع الاخذ في الاعتبار وضع الكاميرا وكيف أستطيع ان اعبر عن وجهة نظري كمخرج. هذا الفيلم يعبر عن قدرتي علي الملاحظة في أفضل صورة “.

بعد هذه التجربة، قدم امينابار لتوم كروز سيناريو فيلم “الآخرون”، ثالث افلامه الطويلة، وقرركروز أن ينتج الفيلم للسينما الامريكية من بطولة نيكول كيدمان، ليصبح اكثر افلام أمينابار تعبيرا عن منهجه السينمائي الخاص بأفلام الرعب الكلاسيكية، لقد انتقده النقاد كثيرا لكنه حقق نجاحا جماهيريا كبيرا. ويروي الفيلم قصة عن امرأة تدعي جريس، تعتزل الحياة مع طفليها في قصر، والاحداث تدور في نهاية الحرب العالمية الثانية، وتعيش جريس في انتظار زوجها الذي يحارب علي الجبهة، أما ابنتها وابنها فيعانيان من مرض غريب، فهما لا يمكن لهما أن يريا ضوء الشمس والا تعرضا لتداعيات مرضية خطيرة.

تسيطر على جريس مفاهيم دينية غريبة، وهي توظف مجموعة من الخدام لرعاية اطفالها. وحضور الخدم الي القصر يؤدي الي مواجهة بينهم وبين جريس حول مفاهيمها الدينية، لكن هذا يقود الي تداعيات غير متوقعة.
ويبرر اليخاندرو أمينابار إقدامه على اخراج هذا الفيلم فيقول:

“بينما كنت أخرج فيلم “افتح عينيك” منتقلا بين تلك الأماكن الكثيرة المتنوعة وبين الأزمنة، فكرت انني لابد لي أن أقدم موضوعا مختلفا تماما، لقد اردت ان اضع الممثلين في بيت ثم أغلق عليهم الباب واتخلص من المفتاح. أردت ان أخلق تشويقا بواسطة عناصر قليلة. وفكرت ايضا ان هذا الفيلم لابد ان يكون فيلم رعب جيدا لأنني أحب هذه الافلام وافتقد المخرجين الذين كانوا يخرجون هذه الافلام بجدية “.

وفي عام 2004 ادهش امينابار العالم مرة اخري عندما عرض فيلمه “داخل البحر” الذي حصل علي الجائزة الكبري في مهرجان فينيسيا السينمائي في عام 2004، وحصل ايضا علي اوسكار أحسن فيلم اجنبي في عام 2005، كما حصل نفس الفيلم علي ثمان جوائز (جويا) من بينها احسن مخرج واحسن سيناريو مُعد خصيصا للسينما واحسن موسيقي .

يدور الفيلم عن الظرف المرضي العصيب الذي يعيشه رامون سامبدرو (خافيير بارديم) فهو عاجز تماما عن الحركة ولا يتحرك من سريره ويتعين ان يحصل مساعدة الاخرين. ورامون هادئ وشجاع وقادر على مواجهة المتاعب دون ان يفقد ابتسامته، وقد اعتاد ان يردد: “عندما لا تجد لنفسك طريقا للهرب، تعلم ان تصرخ وانت مبتسم”.

ان رامون يرقد في الفراش منذ ثلاثين عاما، وتقوم عائلته برعايته، بينما نافذته الوحيدة التي تطل على العالم تشرف على البحر، وقد سبق لرامون ان سبح فيه عندما كان سليما، انه نفس البحر الذي اصابه بالعجز من جراء حادث.. ومنذ هذا الحادث الاليم الذي مضي عليه ثلاثين عاما، فان رغبة رامون الوحيدة هي ان ينهي حياته لان كرامته لا تسمح له بالعيش عاجزا عن الحركة.

إلا أن عالم رامون ينهار مع وصول امرأتين، الأولي هي جوليا، وهي محامية تريد أن تساعده حتي يُنهي حياته، والثانية هي روزا، جارته، التي تحاول ان تشجعه لكي يعيش ويواصل حياته.

وموقف رامون الحكيم يُسعد المرأتين، فهو يستخلص منهما افضل المواقف الأخلاقية، ويعرف ان المرأة التي ستساعده حتي آخر لحظة في حياته ستكون هي التي تحبه اكثر .

أما فيلم ا”أجورا” (2010) فهو يصور الصراع بين الوثنية والدين المسيحي في نهاية القرن الرابع وبداية القرن الخامس الميلادي، وهذا التاريخ تحديدا يُشار اليه على انه بداية التاريخ الحديث في العالم مع نهاية الوثنية. واشتهرت في هذه الاثناء شخصية “هيباتيا” الفيلسوفة وعالمة فلك ومخترعة جهاز الاسطرلاب الذي يسمح بمعرفة مواضع الاجسام السماوية، والفيلم يتمحور حول شخصية هيباتيا واعتمادا ويصور سيرتها زكفاحها من أجل التنوير. ومن خلالها نري الاسكندرية في زمنين، أحدهما قبل تخريب المكتبة عندما كانت الوثنية هي الدين والثقافة السائدة في الاسكندرية، ثم الزمن التالي بعد عشرين عاما ، بعد أن انتصرت المسيحية بشكل نهائي.

يتميز هذا الفيلم بالإبهار، سواء علي مستوي الديكور أو الملابس أو المجاميع، كما ان بلاغة السيناريو تجعله فيلماً ملحميأ بينما هو في نفس الوقت فيلما دراميا عن شخصية هيباتيا التي لا تتنازل عن ثقافتها الوثنية وتجد نفسها في مواجهة مع المجتمع كله وينتهي الصراع بمقتلها

ولا شك أن الفيلم بموضوعه هذا يحمل إسقاطات معاصرة على الواقع الحالي في بلدان كثيرة، وهي ميزة هذا النوع من الأفلام “التاريخية” التي لا تتوقف عن الماذي فقط من أجل الإبهار، بل تعكس أفكارا ممتدة لايزال لها صدي في حياتنا.

Visited 9 times, 1 visit(s) today