تاركوفسكي: ذاكرة الماضي المعاش والحاضر الواقعي


التقابل المزمن

قيس الزبيدي

(“إن قراءة كتاب جيد صعبة تمامًا ككتابة آخر جيد”-غوته)

كان دبلوم تخرجي من فرع المونتاج في المعهد السينمائي العالي في المانيا عن مبادئ المونتاج في فيلم تاركوفسكي الروائي الأول “طفولة إيفان” وحين انجزت الدراسة لم يكن قد اخرج فيلمه الثاني”اندريه روبليوف”. وحاولت وقتئذ البرهنة على أن البناء  المونتاجي لأحلام إيفان التي تعبر عن طفولته الضائعة يطور طريقة مونتاج اعتمدها إيزنشتين في دراسته (المونتاج- 1938) التي حاول فيها أن يعيد النظر في مفهوم المونتاج وسماها:”تقابل/ Gegeuberstellungبين جزئي صورتين متتابعتين (مونتاج أفقي) ينتج عنهما معنى جديد غير موجود في أي صورة “لقطة” منفصلة وأوضحه على الشكل ألتالي جزء (أ) من العناصر التي يتم اختيارها من موضوع  يتطور الى  جزء (ب) المشتق من نفس المصدر يولدان في “تقابل” ذلك التعميم الصُوري الذي يجسد بدوره مضمون الموضوع العام بشكل واضح.

أين تكمن هذه الخاصية ؟

على ما يحدد بذات القدر مضمون الصورة إضافة إلى التقابل التكويني للمضامين المفردة، أي على مضمون الكل: علينا أن نعني أكثر بطبيعة المبدأ الموحد ذاته الذي يحدد ماهية الصور/اللقطات كما يحدد في الوقت ماهية مضمون تتابع اللقطات نفسها.

إذا ما تم تركيب أي (لقطتين) – يتابع إيزنشتين-،  فإنهما يتوحدان في تصور جديد، وينشا من تقابلهما دلالة جديدة حتما: إن جمع قطعتي مونتاج “لقطتين” لا يساوي حاصل جمعهما، بل هو أكثر من ذلك، نتيجة جديدة نوعيا تولّد “معنى ثالثاً”.

تبين في تحليلي أن تاركوفسكي أقام في السرد عملية “تقابل” بين مشاهد زمنين: زمن احلام إيفان الأربعة، ومشاهد زمن الحكاية التي يؤدي فيها إيفان دوره ككشاف حربي خلف خطوط العدو بحيث يستغل سنه الطفولي ليكشف لجنود الجيش الأحمر مواقع الألمان الى أن انتهى مصيره بالقتل في النهاية.

في أحداث الحكاية يبدو إيفان ابن الثانية عشرة اكبر من سنه الحقيقي ولا يتمتع بأي طبيعة طفولية. ونحن نتعرف في أحلامه على الطفل الذي اصبح كما يسميه سارتر في دراسته عن الفيلم: “المسخ الأمثل الجميل للغاية والكريه للغاية الذي لا يمكن اعادته الى طفولته الضائعة إلا في احلامه فقط”. وفي عملية مونتاج الفيلم (تتقابل) احلام الصبي و(تتناوب) مع حاضر حياته كمقاوم في ظروف الحرب.  وبعد نجاح الفيلم أصبح تاركوفسكي معنياً، كما يقول: “عليَّ أخيرا أن أفهم ما هي السينما”؟ “لأن حالة السينما المعاصرة تلتمس منا أن نفكر المرة تلو المرة الأخرى في مزاياها كشكل فني، تمكن خصوصيتها وإمكاناتها، طرقها وصورها، ليس في الجانب الشكلي فقط، إنما أيضا في الجانب الروحي”.

أثناء بحثه السينمائي لم يقم تاركوفسكي وزناً للمونتاج وصرف اهتمامه لعملية الرصد والمتابعة في الفيلم التسجيلي وتعرف بعدئذ على مفهوم الناقد الفرنسي اندريه بازان الذي دعى بتفليم واقعي للواقع على شاكلة أفلام أخرجها مورناو وشتروهايم: “فبدلاً من توليف وتغريب الواقع عبر أسلوب التصوير لجعله يتكلم في أسلوب جديد، يحق لنا، بدافع واقعية أكبر ومصداقية أمتن، أن نترك الواقع سليماً، خصوصاً في استمراريته الزمنية “. سينطلق، إذن، تاركوفسكي من وجهة نظر بازان وسيتَعمّق في فهمها ويطور نظريته “نحت الزمن” الخاصة.

ان معرفة الطريق الذي سار عليه تاركوفسكي ليفهم ما هي السينما التي سيحققها في افلامه الخاصة هو في الواقع الطريق الذي يمكن للنقاد السير فيه لفهم ما يسمىيه الناقد امير العمري: “المفتاح الذي نحتاجه لفتح أبواب أفلامه المُغلقة، لأن المرء يخرج عقب القراءة النقدية عن أفلام تاركوفسكي، ليزداد غموضه غموضاً” ورأى العمري حاجتنا إلى عبقرية نقدية عربية كعبقريته، لتضع بين أيدينا ذلك “المفتاح”! وأنا اعتقد ان مفتاح كهذا مفتاح خاص يسمى (Master key) أي مفتاح رئيسي يستعمله “حارس البناية” ليتمكن عند الضرورة بوساطته من فتح كل ابواب شقق البناية العديدة. كنت وقتئذ أبحث بدوري عن «المفتاح» اثناء ما كنت اكتب دراستي المطولة “تحنيط وطباعة الزمن”وذلك  بالعودة ايضا  إلى أغلب المصادر المترجمة إلى العربية أو التي ظهرت بالألمانية، علني اجد ذلك «المفتاح» الماستر؟

لا يوجد في كل فن يرتبط بالبصر وبالعلامات الأيقونية سوى زمن فني واحد ممكن: الحاضر وأي فعل يدرك بالرؤية غير ممكن إلا تحت صيغة واحدة: الحاضر. ويُعد القديس أوغسطين أَوَّل من نَظَّر حول الزمن كخبرة أو فكرة أو شيء حاضر ووجد إن بناء أي تسلسل زمني ذي مغزى، يعلل الماضي بواسطة الذاكرة كشيء معين مضى ويعلل المستقبل، بواسطة التوقع كشيء مُقبل. وبين في كتابه “اعترافات” أن الزمن وليد الانقطاع المتواصل بين مظاهر ثلاثة للحاضر:

  • الإنتباه: حاضر الحاضر
  • التذكر: حاضر الماضي
  • التوقع: حاضر المستقبل

تتعدد في السينما مستويات الزمن الحاضر فنحن نرى كل ما يحدث في الحاضر. غير اننا اصبحنا نرى بوعينا المتزامن ما نشاهده حاضرا على الشاشة ينتمي الى الماضي أو الى المستقبل. من هنا صارت المهمة التي تواجه صناع السينما هي كيفية بناء الزمن السردي: اختزال الزمن الواقعي الى زمن فني وتنسيق الحكاية وتنظيم أحداثها الدرامية وفقا لخيار زمن معين ونسب سردية للمشاهد المختارة.

إن القدرة الفريدة في دفع الزمن للأمام والوراء، أو في إعطائنا فكرة عما يجري في مكانين مختلفين في آن واحد، أو في إمكانية تبطيئ أو تسرع الزمن، هي التي تجعل السينما غير مقيدة بتقاليد المسرح المتوارثة، بل وأكثر من ذلك، تتمكن من معالجة المشاعر والأفكار بأسلوب جديدتماماً،يثير فينا انفعالات واستجاباتلم يسبق أن اختبرناها.وبالقدر الذي يظهر في الصورة إحساس مبدع العمل بالزمن، تكون بصْمته الخاصة مرئية في المونتاج.

أين المفتاح؟

يتحدث تاركوفسكي كثيراً عن الزمن وبالكاد يذكر المكان، مع أنه لمْ يتسنَّ لأي إنسان أنْ أدركَ مكاناً ما من غير إدراكه في الزمان، ولا زماناً ما من غير إدراكه في المكان. إلا أن  انجاز تاركوفسكي هو ما يمكن ان يشكل مفتاحا لفهم افلامه العسيرة لأنه يجمع بشكل مبتكر خاص بين صورتين في المكان نفسه: صورة ذاكرة مضت تتجسد في الحاضر وصورة حاضر يتزامن مع صورة الماضي: علاقة حضور لزمنين يتزامنان في مكان واحد بنفس الدرجة.

لقطة من فيلم “المرآة”

“ثنائية” حدثين يتركب من زمنين ويتقابل في (مونتاج عمودي) في استمرارية لقطة/ مشهد واحد: زمن ماضي/ ذاتي وزمن حاضر/ موضوعي: “يتقابلان” في مشهد مكاني واحد: توليف بين صورتي زمنين  “تتقابل” فيهما ذاكرة الماضي المُتَخيَّلة في أحداث الحاضر المُمَثلة: وكأنه يريد أن يلغي مرجعية مكان ماض لينقله إلى مكان حاضر.

ويقدم سرد الزمن بهذا حلا “شعريا” يعني بمعنى الوجود الإنساني ويضفي عليه تصورا جديدا، أو اذا صح القول – حسب ريكور- يُحَوِّل صورته لكي نتأوَّل وجودنا المتأثر بالماضي. ويطبق رولان بارت مثل هذا التصور على العمليات الدلالية التي تُنْعَت عادة بلفظي التعيين DENOTATIONأي المعنى المباشر الحرفي والتضمين CONNOTATION  أي المعنى الثاني الإيحائي. والتضمين في الأدب عادة استعمال دلالة اللغة بطريقة تدل بها على ما تقوله، بينما التضمين استعمال دلالتها  بطريقة تدل بها على غير ما تقوله. ويحدث التضمين عندما تصبح نفس العلامة، الناتجة عن علاقة بين الدال والمدلول، دالا على مدلول جديد.

بوسعنا ان نقول أن تاركوفسكي يجد حلا سينمائيا جديدا للتزاوج الثنائي بين التعيين والتضمين عبر علاقة “تقابل” متزامن بين ذاكرة الماضي المعاش وبين حدث من الحاضر الواقعي، انطلاقا من طاقة قيم روحية- لا مكانية، يجعلها تدل على الذكريات والأحلام والتصورات وخيال اليقظة، بل حتى أحيانا علفى مادة بصرية وثائقية قديمة كما في “المرآة/1975” ليجعل عالم شخصياته الداخلية مرئياً، بالتساوق مع مجرى أحداث زمنهم الذاتي الذي يولفه عموديا من الحاضر/ الماضي و«يحنطه» في زمن حاضر واحد؟

يعترف تاركوفسكي أن: “المرآة”عمومًا هو أكثر أفلامه تعقيدًا، ليس باعتباره جمع لقطع مُنفصلة، لكن بالتحديد كبناء، لكنه يجده في الوقت نفسه، قريبا بمعنى معين أو من زاوية بذاتها من مفهومه النظري عن السينما: اعتبر أن “المرآة ” بالضبط هي التي تُصلح ما تمزق في مجرى الزمن، إنها تقوم بترميمه بالمعنى الروحي والثقافي (…) الفنان يعيش دائما ليس فقط في لحظته الآنية، بل إنه،إن جاز التعبير، المراكبي الذي يتولى نقل الماضي إلى المستقبل”.

لم ينطلق تاركوفسكي من وظيفة الزمن بوسائل خصائصه المجربة المحسوسة بل من دوافع ذاتية تماماً، انطلاقاً من اعتبار السينما فنا لإعادة إنتاج سريان الاحساس الزمني وسعيَّه لخلق عالم داخلي روحاني خاص. وسوف يلجأ الى مثل هذا الدفق الروحاني القلق الذي سيغمر كل أفلامه القادمة. ومع أنه بقيَّ يخضع أفلامه لموقف نظري يتطور، لكنه في الجوهر لا يتغير، إلا أنه استطاع أن يجانس بموهبة فريدة ونادرة بين نظريته الخاصة عن “نحت الزمن” وممارسة الفنية في مونتاج تقابل عمودي تتنوع في كل فيلم وتغتني في عملية تصادم خلاق أثناء ما كان يجهد في خلق عالم داخلي روحي ليبتكر مشاهد حكاياته البصرية المُتغيرة وكأنها لمْ تَتغير، والمُكتمَلة وكأنها لمْ تَكتَمِل.

Visited 94 times, 1 visit(s) today