تاركوفسكي.. التماهي مع الألم والصورة الأخيرة

(في هذه المقالة، تسرد ليلا ألكسندر جاريت، مترجمة ورفيقة السينمائي الروسي العظيم أندريه تاركوفسكي، انطباعاتها عنه، وعن اللحظات الحميمة التي اختبرتها في حضوره المشع قبل أن يغادر عالمنا)

13 ديسمبر  

عدنا لتونا من المستشفى حيث خضع تاركوفسكي إلى فحوصات عديدة من دون أن يقرّر الأطباء شيئاً، أو يصدروا الحكم النهائي. لكن تاركوفسكي كان يهجس بخطورة الأمر، وأن المسألة تتجاوز في الخطورة الإلتهاب الرئوي أو مرض السل.

“إعتدت أن أتفاءل بالرقم 13″، غمغم تاركوفسكي مبتسماً في كآبة وقنوط.

لكن يبدو أن الحظ قد خذله هذه المرّة.

منفى الروح

كتب مؤلف الدراما الأغريقية يوريبيدس: “ليس هناك على الأرض محنة أشدّ من فقدان المرء لوطنه”.

تلك المحنة أصبحت جزءاً من منفى تاركوفسكي. لقد صرّح مراراً بأن الأجانب عاجزون عن فهمه. لكنه اعترف بتواضع أنه بدوره كان عاجزاً عن فهم القيم الأوروبية الغربية.

“أحياناً أنسى بأنني الغريب الأجنبي وليسوا هم”..

يقول هذا وهو يطلق ضحكة خافتة لا تخلو من حزن وانقباض، فيما يشدّ شاربه الكث.

كان يحب أن يستشهد بكلام نيتشه: “ليتني أستبدل كل سعادة الغرب بسر الحزن الروسي”.

المفارقة أنه خلال أربع سنوات فقط في الغرب (من 1982 إلى 1986) نجح تاركوفسكي، على نحو خلاق، في إبداع فيلمين (نوستالجيا والقربان)، وفيلم وثائقي (وقت للسفر)، بالإضافة إلى مسرحية “بوريس جودونوف”، كما نشر كتابه في السينما “النحت في الزمن”.

بينما في روسيا، وخلال عشرين سنة، لم يستطع أن يحقق غير خمسة أفلام، وأخرج مسرحية واحدة هي “هاملت”.

المثقل بالندم

اليوم، من الصعب تخيّل أن فناناً روسياً أراد أن يعمل في الخارج، فاضطر منذ عشر سنوات إلى ترك فرد عزيز من أسرته (إبنه أندريوشا) كرهينة، لضمان عودته إلى السلطة المركزية.

كل تلك السنوات في إيطاليا، ألمانيا، بريطانيا، السويد.. عاشها تاركوفسكي في خوف: أن لا يرى ابنهأندريوشا مرة أخرى. كان ذلك يشكّل رعباً يومياً. كم كان محزناً، بشكل مدمّر، النظر إلى وجهه الشاحب بعد مكالماته الهاتفية، اليومية تقريباً، مع ابنه في موسكو، وحتى مع كلبه.

كم شعرت بالعجز والإحباط حين جعلني تاركوفسكي أستمع إلى أنين كلبه، في الطرف الآخر من الخط، فيما كان يصيح بمزيج من البهجة واليأس: “كلبي لا يزال يتذكرني. لماذا يحدث لي هذا؟ لماذا لا أستطيع أعيش مع ابني؟ لم أر أندريوشا منذ أكثر من ثلاث سنوات، وأنا أحبه أكثر من أي مخلوق في العالم”.

وراء كل الألقاب الفخرية والشهرة، يعيش رجل معقّد جداً، مثقل بالشكوك والندم. باستمرار كانت تزعجه فكرة أنه سبّب التعاسة للعديد من الأفراد الذين تركهم في روسيا.

“الكثير من الديون غير المدفوعة”.. وغالباً ما كان يقول: “لو أستطيع فقط أن أمحو من ذاكرتي الألم الذي سبّبته للأشخاص الذين أحبهم”.

كان مثقلاً بالإحساس بالذنب لأنه ترك ابنه الأكبر أرسيني وأهمله، معيداً بذلك تاريخ طفولته الخاصة المحرومة من الأب.

عندما شبّ تاركوفسكي أقسم بأنه سوف لن يدع ابناً له يكبر بعيداً عن أبيه. إبنه الأصغر (والذي سماه ألكساندر تيّمناً بجده) لم يره على الإطلاق.

الإغواء الخلاق

في أكتوبر 1984 كنت أعمل كمترجمة لفيلم “القربان”. ذهبنا – أنا وتاركوفسكي ومدير الإنتاج السويدي – إلى لندن، حيث تم الاتفاق مع القناة الرابعة (التلفزيون البريطاني) على الدخول كطرف مموّل بعد انسحاب المنتجين اليابانيين. والقناة الرابعة اشترطت مشاركة ممثل أو ممثلة من بريطانيا.

الممثل الذي كان من المفترض أن يؤدي دور الطبيب كان غير مناسب بسبب صغر سنه، فكان علينا أن نختار ممثلاً آخر. (في الواقع، أخضع تاركوفسكي نفسه لتجربة الأداء لهذا الدور، ولا بد أن معهد الفيلم السويدي يحتفظ بنسخة من هذا الشريط).

أما بخصوص دور أديليد، الزوجة الهستيرية، فقد يأسنا من العثور على ممثلة تصلح للدور، إلى أن تعرّفنا على الممثلة البريطانية سوزان فليتوود. لقد دخلت سوزان وكانت تبدو مشعّة ورشيقة ومتحمسة.. إمرأة واثقة من نفسها ومتحكمة.

كان أمراً مثيراً مراقبة فعل الإغواء المتبادل.. والخلاّق. كان واضحاً أن تاركوفسكي فخور بهذا الإكتشاف وهو يقدّمها إلى السويديين، فخور بموهبة سوزان وتفانيها وطبيعتها الاحترافية، وحتى بظرفها وسخريتها اللاذعة.

سوزان لم تتذمر أبداً من الطقس، أو من إهدار تاركوفسكي للوقت وهو يختبر برك المياه الناشئة عن تجمع الأمطار، أو يعيد ترتيب الأحجار ناسياً تماماً ممثليه المتجمدين.

دور أديليد كان يشكّل تحدياً بالغاً للممثلة سوزان فليتوود. كانعليها أن تؤدي دور الزوجة المسكونة بالهواجس، التي لا تراعي مشاعر الآخرين أو ظروفهم، مع ذلك لا يمكن لأحد أن يقاومها.  

ذات مرّة، وكنا نشاهد المشهد المروّع للزوجة وقد انتابتها نوبة هستيرية، صاح تاركوفسكي: “هذا شيء خارق! كيف عرفت؟! كيف عرفت سوزان ذلك؟”

من الواضح أن هذا المشهد كان يذكّره بشيء شخصي وموجع بعمق.

في 29 سبتمبر 1995، توفت سوزان فليتوود. لقد علمت بمرضها بعد عرض فيلم “القربان” بفترة قصيرة. ولا أحد، غير عائلتها، كان يعلم  بأنها مريضة.

النعمة الإلهية

غالباً ما أعود بذاكرتي إلى ساحل جوتلاند، إلى رحلاتنا المنتظمة بالدراجات الهوائية مع تاركوفسكي، إلى أحاديثنا، مناقشاتنا، السباحة، قطف التوت وجمع الحصى. كانت طاقة تاركوفسكي المتشعبة تستدعي محاورين يثيرونه ويحفزونه ويلهمونه. وكان يتعيّن عليّ أن أكون يقظة باستمرار في حضوره.

ذات مرّة قال لي بأنه سيقتل نفسه إذا تثاءبت امرأة في حضوره. حتى لو قال ذلك كمزحة، فإنه يكشف عن حالات التطرف في شخصيته. لقد قال بأنه نادراً ما يشعر بالإطمئنان والراحة والابتهاج كما حدث في ذلك الصيف السويدي أثناء تحقيق فيلمه “القربان”.

كان يومياً يجعل الفريق الفني بأكمله يستغرقون في الضحك بدعاباته ونكاته.. ربما كان ذلك تخفيفاً لحدّة المرض، أو ربما عطيّة إلهية قبل الخاتمة المأساوية.

نشوة الحب

النسخة الأولى لفيلم “القربان” كان بعنوان “الساحرة”، حيث الساحرة تشفي البطل من مرض السرطان.

لفترة طويلة كان تاركوفسكي يتساءل كيف بإمكانه أن يصور مشهد الحب بين الكسندر والساحرة..

“أعرف مخرجاً واحداً فقط نجح تقريباً في التعبير عن نشوة الحب. هل تعرفين من أعني؟”.. سألني على نحو غامض، ثم أجاب نفسه: “لقد فعلت ذلك في فيلم المرآة. الحب معجزة، إنه يتجاوز جاذبية العالم المادي. العشاق يجب أن يرتفعوا ويسبحوا في الجو لفرط خفّتهم”.

الحياة بوصفها حلماً

فيلم “القربان” كان يهجس بالكارثة. قبل عرضه في مهرجان كان بفترة قصيرة، انتشر رعب شيرنوبل (في 26 أبريل 1986) فوق أرجاء أوروبا كلها. النقاد وجدوا في التزامن أو التطابق شيئاً خارقاً.

عندما عملت في ما بعد في المسرح الدرامي الملكي في استوكهولم، التقيت بإنجمار بيرجمان عدة مرات. ولم أستطع منع نفسي من الكلام عن تاركوفسكي وكيف أنه كان يرغب في الإلتقاء به.

بعد فترة قصيرة كتب بيرجمان ثناءً رائعاً، معبّراً عن احترامه وتقديره لتاركوفسكي، حيث قال: “تاركوفسكي، في نظري، هو الأعظم. هو الذي ابتكر لغة جديدة مخلصة لطبيعة الفيلم حيث تأسر الحياة بوصفها انعكاساً، الحياة بوصفها حلماً”.

الملئ بالتناقض

ذات مرة، قال تاركوفسكي: “أنا أشبه إنسان ليوناردو.. المصلوب في دائرة الحياة”.

التناقض ملازم لشخصية تاركوفسكي. يمكن أن يزعم بأن الأحلام مجرد تجليات فيزيائية لدماغه، وفي الدقيقة التالية يزعم بأن الأحلام أثّرت على حياته بأسرها. وهو يعتبر نفسه مؤمناً حقيقياً وفي الوقت نفسه يبحث بنهم عن السحري والخفي. وهو يحتقر ثقافة الوجبات السريعة الأمريكية لكن بوسعه أن يتحدث لساعات عن الفيلم الأمريكي The Terminator.

إن موقف تاركوفسكي من النساء يتسم أيضاً بالتناقض الظاهري. هو يشعر تجاههن بالحب والحنو، بالشفقة تقريباً. ضعفهن وهشاشتهن تحرّك مشاعره، لكنه لا يميل إلى الراكضات وراء المهنة، الحاملات حقائب يد مصنوعة من جلد التمساح.

إنه ينجذب إلى النساء اللواتي يتحكمن في مصيرهن. وهو يتحدث طويلاً عن أمه وحياتها الشاقة وموقفها الرزين من المعاناة والألم.

كان يتحدث وهو لا يعلم أن المرض الغادر الذي سلب حياة أمه بدأ يتسلّل إلى جسمه ليسلب حياته أيضاً.

الصورة الأخيرة

كان تاركوفسكي يقول بأنه دائماً يتماهى مع الألم لا السعادة.

حياته وأفلامه تتعاشق في درب قدري.

لو اتبع تاركوفسكي خطى بطله واقترب من الساحرة بدلاً من العودة إلى بيته “المتهدم”، وإلى “الجو السام السائد في الأسرة وتأثيره المميت”، فلربما كانت هناك نهاية مختلفة.

تاركوفسكي اختار الحياة- التضحية. لقد كان الرجل المصلوب في دائرة الحياة. لكن ما هو مهم، أنه غادر هذا العالم تاركاً الأمل، تاركاً صورة طفل يسقي شجرة ميتة.

Visited 21 times, 1 visit(s) today