برناردو برتولوتشي من روما: كلّنا ننسخ من بعضنا البعض والأهم ألا نُفضَح

ننشر هنا من الصحافة العربية المقال البديع الذي كتبه هوفيك حبشيان ونشرته جريدة “النهار” اللبنانية عما دار في اللقاء الذي دار معه على هامش مهرجان روما السينمائي وأداره كلّ من مايكل بنيا ومدير المهرجان الفني أنتونيو موندا مع المخرج الإيطال يالكبير برناردو برتولوتشي…

بابتسامة مطمئنة تختزن حنان رجل أصبح في منتصف السبعينات، دخل برناردو برتولوتشي إلى صالة “بتراسّي” الضخمة تحت وابل من التصفيق، ليقدّم لقاء منتظراً جداً مع الجمهور، ضمن نشاطات “عيد روما السينمائي” الحادي عشر الذي بدأ في العاصمة الايطالية الخميس الماضي، ويستمر حتى نهاية هذا الأسبوعبعد “الحالمون” (٢٠٠٣)، تعرّض هذا الذي يُمكن اعتباره آخر معلّم على قيد الحياة من العصر “ما بعد الذهب” للسينما الإيطالية لانتكاسة صحيّة خطيرة جعلته مسمّراً في كرسي متحرّك لا يستطيع المشي من دونه، على غرار جان رونوار في أيامه الأخيرة. ومع ذلك، ظلّ طليق اللسان، وبقي على هيبته ونشاطه الذهني الذي يستحضر تفاصيل من عمق التاريخ الذي يمثله. نتذكّره في كانّ، قبل أربع سنوات، عندما جاء ليقدّم فيلمه “أنا وأنت”، بعد نحو عقد غيابآنذاك، أعلن أنّه بدأ يتأقلم مع ظرفه الصحي الجديد ويعتاده ويتقبّل حتميته التي تفرض عليه أن يكون مقيّد الحركة. لا بل كان يؤمن أنّ انجاز فيلم جديد سيشفيه من المرض. الرجل الذي عمل مساعداً لبيار باولو بازوليني (يعتبره والده الثاني بعد والده البيولوجي وكان الاثنان جارين في بناية واحدة)، عاد إلى الحياة فجأة بعدما اقترح عليه صاحب “أنا وأنت”، نيكولو أمّانيتي أفملة روايته. هو الذي لم يكن صوَّر فيلماً بلغته الأمّ منذ نحو ثلاثين عاماً، أجاد كيف يعود إلى الينبوع ويُمسك مجدداً الحبل الذي يربطه بماضيه وتيماته الآثرة، من خلال قصة مراهقين تجري فصولها في قبو أحد المنازل. منذ عودته إلى الحياة والشاشة، نال برتوللوتشي تكريمات عدة أهمها إسناده “سعفة” فخرية في كانّ عن مجمل أعماله (٢٠١١)، وأيضاً استعادة لأفلامه في السينماتيك الفرنسية.

بدأ برتوللوتشي مسيرته العام ١٩٦١، وبعد انقضاء أكثر من نصف قرن على هذا التاريخ، لا يزال يعلن أنّ الشيء المفضّل لديه في هذه السنة، هو تصوير الأفلام، ولا شيء سوى التصوير. والده الشاعر أتيليو برتوللوتشي (١٩١١– ٢٠٠٠ضخّه بحبّ السينما منذ سنّ مبكرة، إذ كان يصطحبه إلى الصالات المظلمة. وعيه السياسي بدأ بالتكوّن يوم شاهد بعينيه المفجوعتين رجلاً يسقط أرضاً أمام عيارات الشرطة النارية. كان حينها في العاشرة، ولم يكن الضحية المغدور سوى المناضل الشيوعي أتيلا ألبرتي. حادثة جعلته ينخرط لاحقاً في الحزب الشيوعي الإيطالي.

عمل برتولوتشي مساعداً لبازوليني في “أكاتونيه” عندما كان في التاسعة عشرة. اقتصرت مهمته على اصطحاب السينمائي الملعون بالسيارة ومراقبته وهو يصوّر. منه تعلّم أنّ لا شيء مستحيلاً. مع داريو أرجنتو، كتب سيناريو “ذات زمن في الغرب” (١٩٦٨). أول فيلمَيْن له نُبذا في إيطاليا، إلا أنّ مجلة دفاتر السينما” سارعت في تلقّف الموهبة القادمة من بلاد روسيلليني، كما كانوا يفعلون مع المخرجين المهملين في بلدانهم. برتوللوتشي كان متيّماً بالحركة الفرنسية، يعتبر الفرنسية لغة السينما، ولم يكن يُقسم إلا بغودارفي النهاية، تحرّر من سطوة والديه الروحيين – بازوليني وغودار – عبر قتلهما رمزياً

.

برتولوتشي (على اليسار) عندما كان يعمل مساعدا للاخراج مع المخرج الايطال يالكبير بازوليني

قال المخرج المقعد خلال اللقاء الذي أداره كلّ من مايكل بنيا ومدير المهرجان الفني أنتونيو موندا: “المرحلة التي بدأتُ أعمل فيها كانت مرحلة تغيير جذري وزمن شغف عظيم. السينما أخذت منعطفاً آخر، نزلت الكاميرا إلى الشارع. حبي لـ”الموجة الجديدة” كان بتلك القوة التي تجعلني أتعدّى جسدياً على أحدهم إذا علمتُ إنه لا يحب غودار. في صيف ١٩٦٩، أخرجتُ “المحافظ“. تلقيتُ الضوء الأخضر لإخراج هذا الفيلم المقتبس من رواية لألبرتو مورافياغيّرت نهاية الرواية لأنني لم أكن مقتنعاً بها. لم يكن النحو الذي أنهاها فيه مورافيا روايته مقبولاً. في الراوية، المحافظ الذي يضطلع بدوره جان لوي ترانتينيان، يرحّله الألمان مع زوجته وأولاده في نهاية العام ١٩٤٣. وجدتها جدّ رمزية، فقررتُ أن أختم الفيلم بكلوز آب على وجه جان لوي، لنشعر أنّه فجأة فهم ماضيه وحياته برمتها. إنّها شخصية جدّ معقدة؛ فهو شخص يعتقد أنّه مختلف عن الآخرين، لذلك يريد أن يكون “طبيعياً”. حوادث “المحافظ” تجري في الثلاثينات، في عزّ صعود الفاشية، فيختار أن يعمل جاسوساً للفاشية. اخترتُ لكم هذا المشهد، لأنه يُظهر بالنسبة إليّ التلصّص. ترانتينيان يصبح متلصّصاً. قد تكون دومينيك ساندا رأته وهو يتلصّص، لا أعرف، أقول “ربما“. التلصّص يثيرني. لا أدينه عندما أتكلّم عنه. في لحظة، يتحوّل إلى متلصّصوالأمر نفسه ينسحب على التصوير بالكاميرا، خصوصاً إذا قاربناه بالتحليل الفرويدي. بالنسبة إليّ، عندما أنظر من منظار الكاميرا، أجدني أتلصّص من ثقب الباب. في الطفولة، كنّا دائماً نعتقد أنّ والدينا يمارسان الحبّ خلف الباب. عندما كبرنا، صرنا نعتقد إنّهما يتعاركان. التلصّص حالة نفسية. في الحياة، لستُ متلصّصاً. طالما اعتقدتُ أنّ السينما هي روبير بروسون، المخرج الفرنسي العظيم. عمله يتّسم بالصرامة. ثمة أيضاً ماكس أوفولس وستانلي دونن. شخصياً، يصعب عليّ إنجاز فيلم بلقطات ثابتة، لا بد أن أحرّك الكاميرا. لا أتحدث عن حركات استعراضية ضخمة، إنما عن بعض التعديلات في مسارها“.

الحوار المتقطع بمَشاهد من بعض أفلامه، حمل برتولوتشي خلال اللقاء إلى الحديث عن تحفته “التانغو الأخير في باريس” الذي أحدث صدمة كبيرة لدى عرضه في العالم العام ١٩٧٢. الفيلم من بطولة مارلون براندو وماريا شنايدر التي عانت أزمة نفسية ظلت ترافقها طويلاً جراء مضاجعة براندو لها من الخلف في مشهد “الزبدة” الشهير من دون إخبارها بذلك مسبقاً. “موزع غير معروف يعمل في نيويورك قال لي في العام ١٩٧٠ إنه يعتزم دخول الإنتاج ويريد دعمي مالياً إذا وجدتُ قصة لأفلمتها. كنت قرأتُ حكاية رجل وامرأة يلتقيان في شقّة باريسية فارغة فقط لممارسة الجنس، والشقة ليست لهما ولا يعرف أيّ منهما اسم الآخر. وعدم معرفة الاسم هو نوع من الانفصال عن الهوية الاجتماعية، خارج كلّ اعتبار للمحيط. حاولتُ بداية مع باراماونت” ولكن لا استجابة، لم يكن يعلم الأغبياء الذين في إدارتها إنه سيكون في تصرّفهم العراب. ثم حاولتُ مع “يونايتد أرتستس”، فصارحني مديرها إنه مستعدّ لدعم الفيلم في حال لم تتجاوز كلفته المليون دولار، فقبلتُطرقتُ باب ألبرتو غريمالدي الذي كان أنتج أفلام وسترن في هوليوود. لم أعرف من أي طرف التقط المشروع. ولكون الحوادث في باريس، أردتُ إسناد الدور إلى جان بول بلموندو، إلا انه طردني من بيته عندما عرضتُه عليه، قائلاً انه لا يشارك في فيلم إباحي. غضبتُ كثيراً لأنني كنت أعشق “منقطع النفَس” لغودارثم اقترحته على آلان دولون الذي وافق بشرط أن يشارك في الإنتاج. رفضتُاقتُرح اسم براندو خلال اجتماع لمنتجين. التقيته في فندق “رافاييل” في باريس. كان عائداً للتو من لوس أنجليس ويبدو متعباً. بانكليزيتي الرديئة جداً، رويتُ له القصة. تجنّب النظر إليّ. عندما انتهيتُ، سألته لِمَ لا يحدق بي؟ فردّ: أريد أن أرى متى ستكفّ عن هزّ قدمك؟ عندما باشرنا في التصوير، زرنا معرضاً لفرنسيس بايكون في الـ”غران باليه”. كنّا براندو وفيتوريو ستورارو (مدير التصوير) وأنا. ونحن نتأمل اللوحات، فهمنا أهمية أن يتضمّن الفيلم كلوز آبات. كانت بورتريات بايكون يائسة. صوّرتُ براندو وفي بالي هذا. هو لم يكن يعرف حتى مَن هو بايكون”.

لقطة من فيلم “1900” لبرتولوتشي

في العام ١٩٨٧، قدّم برتولوتشي “الأمبرطور الأخير”، بموازنة بلغت وقتها الـ٢٣ مليون دولار. ملحمة فاز عنها “أوسكار” أفضل مخرج وأفضل كاتب سيناريو مقتبس (فاز الفيلم بـ٩ “أوسكارات”). “في البداية، قرأتُ سيرة بوئي (الأمبرطور الثاني عشر للصين وآخرها)، وتركت فيّ انطباعاً هائلاً. ذهبنا إلى الصين مع فيتوريو. كان هذا في العام ١٩٨٤. كلّ شيء كان لا يزال كما يكون عندما تعتزم السينما الأميركية تصوير فيلم عن كيف كانت حقبة ماوصوّرنا الفيلم بعد عامين من الزيارة الأولى. كان في المشهد عندما يركض الأمبرطور الطفل إلى الباحة في المدينة المحرّمة آلاف الكومبارس. اليوم، يمكن ابتكار هذا كله بالديجيتال. عشية التصوير، حدث معي أمرٌ مريبٌ: كنت أتجوّل في الشارع، فرأيتُ حلاقين يحلقون رؤوس آلاف الجنود الذين أُرسلوا خصيصاً للظهور في فيلمي. كانت على الأرض أكوامٌ من الشَعر. هربتُ. أفكار مرعبة خطرت إلى بالي. أحياناً، إنجاز فيلم يضعك في حالات نفسية مرعبة. كلّ هؤلاء الجنود مستعدون للموت… يا له من عالم كريه نعيش فيه“.

“لي علاقة طيبة جداً بالممثلين”، يقول برتوللوتشي الذي تعاون مع أسماء كبيرة في فنّ التمثيل، مثل براندو ودو نيرو ودوبارديو ولانكستر وترانتينيان. “أقترب منهم أدنى اقتراب؛ يمكنهم مناقشة شخصياتهم وجلب الأفكار الجديدة، ولكن أيضاً إجراء بعض التعديلات. براندو كان يأتي بالكثير من القوة لـ”التانغو الأخير”. كان أجمل رجل على الأرض باعتراف الجميععندما سأله أنتونيو موندا عن السينمائيين الذين كان لهم التأثير الأكبر في حياته، أجاب: “جميع السينمائيين الذين أثّروا فيّ لا يزالون في داخلي. كان عليّ هضم تأثيرهم. روسيلليني لم يكن مكرّماً في إيطاليا، “الموجة الجديدة” هي التي أعادت اكتشافه وردت إليه الاعتبار. أعدتُ إكتشافه عندما طالعتُ دفاتر السينما”. هناك الكثير من المخرجين الذين ألهموني. إذا قال لي أحدهم أنّه يرى المخرج الفلاني في أفلامي، فسأكون سعيداً. كلّ المخرجين الذين أحببتهم سرقوا من مخرجين آخرين. كلنا ننسخ من بعضنا البعض، الأهم ألا يتم القبض علينا (ضحك). أحببتُ غودار جداً. كان أحدنا قريباً جداً من الآخركان يزورني في روما وأزوره في باريس. عندما بات ماوياً، تعكّرت الصداقةكنّا على أشد خلاف بالنسبة لهذا التوجه. عندما جرى العرض الأول لـ”المحافظ”، دعيته. أعطاني موعداً في منتصف الليل أمام “دراغستور سان جرمان” قرب مقهى “فلور”. انتظرته، جاء. كانت تمطر. لم ينطق بكلمة واحدة بل وضع ورقة في جيبي وغادر. في الورقة التي كانت على قفاها صورة ماو، كتب: “يجب النضال ضد الأنانية والفردية”. كان فيلمي هراء بالنسبة له. حزنتُ كثيراً ومزّقتُ الورقة“.

برتولوتشي الذي يقول عن نفسه بأنّه “متشائم سعيد ومتفائل حزين” (قول مستعار)، يُنهي اللقاء الذي حضره أكثر من ألف شخص بالحديث عن الأسلوب: “في زمننا، كانت ثمة طريقتان لصناعة فيلم: بروسون وميزوغوشي. كنتُ أشعر نفسي أقرب إلى الثاني، لكونه ملحمياً ورومنطيقياً يستخدم الكثير من حركات الكاميرا في أفلامه. تستهويني أيضاً أفلام ماكس أوفولس لجهة استخدام الكاميرا التي لا تهدأ البتة. أهمية هذه الأفلام إنها تضع المُشاهد في عين الحركة. ثم ثمة اللقطة الطويلة المستمرة. هذه اللقطات حيلة للتخلّص من المونتاج. أحبّ التكنولوجيا، ولكن لا أعرف إذا تبقّى لي ما يكفي من الوقت كي أستكشف كلّ احتمالاتها. في فيلمي الأخير، “أنا وأنت”، حاولتُ الهجرة إلى التقنية الرقمية. ثم فكّرتُ: أحياناً في السينما، تحتاج إلى صورة مغبّشة قليلاً، إلخ. الرقمية تقدّم صورة منقّحة جداً. فقرّرتُ التصوير بالشريطالديجيتال شديد الدقة لدرجة أنّه يدمّر تقليداً عريقاً من الانطباعية في الصورة

االمصدر:  جريدة النهار بتاريخ 17 أكتوبر 2016

Visited 66 times, 1 visit(s) today