“المسافة صفر”: ذاكرة بحجم النسيان

أن يجد الإنسان جثة في بيته لهو أمر مروع للغاية، ويزداد الوضع تعقيدًا إن كان يُعاني من داء الزهايمر.

ماجد (خالد صقر) مصوّر فوتوغرافي في قلب العاصمة الرياض، له تاريخ لا يرغب كثيرا في تذكّره، تشتبك أيّامه مع ذلك الماضي حينما كان متعصّبًا دينيًا، فيذهب مع صديقه مروان (أسامة صالح)، لإحراق محل تصوير لأنّه يُجسّد  “ذوات الأرواح”، و”ذوات الأرواح” مصطلح له وقع الأمواس في ذاكرة من عاصروا زمن “الصحوة” الدينيّة، حيث الحقبة الأكثر لمعانًا لفتاوى تحريم التصوير، والنحت، والرسم، مما دفع عوائل كثيرة لإتلاف إرثها الفوتوغرافي عن بكرة أبيه حرقًا وتمزيقًا وإذابة بالكيماويات، بغض النظر عن مدى عمر الصور ومكانتها، بل كلما زادت “غلاوة” تلك الذكريات المُجمّدة، زادت الرغبة في الإتلاف حتى يتحقق الأجر كاملًا.

في ذلك الزمن المخنوق زُرعت بذرة القصة، يُسجن مروان، ويفر ماجد إلى حياته، وبعد سنوات يجد الأخير جثة رجل لا يعرفه (أو لا يتذكّره) في صالة بيته.

“المسافة صفر” (تأليف مفرج المجفل وإخراج عبد العزيز الشلاحي) عن حيوات غير عاديّة، في مدينة غير عاديّة.. فتاوى، ومجاهدون قُدامى، وسجون، وإرهاب، لكن كل ما سبق يتوارى في الخلف لصالح الدراما.

كل ما في البطل يقول أنّ لديه ألزهايمر، وعمله كمصوّر فوتوغرافي يخنق كيانه الدرامي أكثر، فلا يُمكن فصل الصور عن الذاكرة، لذا فإنّ إصابة مصوّر بالنسيان تحمل معانٍ ساخرة ومؤلمة، لكن هل كان ماجد مريضًا في ذاكرته فعلًا؟

يظل المشاهد يتساءل طيلة الوقت حتى الدقيقة الأخيرة مشتتًا بين حدس الحبيبة والتفاصيل اليومية (عامل الدليفري، والصديق القديم، والرصاصة الناقصة من المسدس وغير ذلك)، ونتائج الفحص الطبي، الذي عرض فيه الطبيب صورًا على ماجد منها صورة د. غازي القصيبي، ونجم نادي النصر في الثمانينيات ماجد عبد الله، والمطرب الكبير طلال مدّاح، الذي ظل موضوعًا مُحببًا عند أصحاب ترّهات “حدّثنا أحد الإخوة” لأنّه فقد وعيه أمام الجماهير وهو على مسرح المفتاحة في أبها مُحتضنًا عوده، قُبيل وفاته في المستشفى.

أراد المُخرج أن يقول أنّ نجوم الفن والرياضة والأدب هم الأبقى في الذاكرة، وللمُشاهد أن يضيف: “مع الصور وبدونها أيضًا”!

كأدوار زملائها تمامًا، مُعلّمة من طبقة متوّسطة، النقاب والعباءة فوق الرأس عند الخروج، وملابس العمل في المدرسة، والوقت المُتاح للحديث مع الحبيب سرًا، هكذا ببساطة، دور مرسوم بقدر القصة، لا ترويج، ولا دعم، ولا دفاع، ولا تبرّؤ، بل قصة حقيقية وواقعية، واتساق مع الملامح الاجتماعية والنفسية في رياض بداية الألفينيات، بدءًا بالاسم (أبرار) ونهايةً بالمخاوف وشكل العلاقة العاطفية. 

قامت بالدور الفنانة إلهام علي، وهي ممثلة بملامح مُعبرة تحبها الكاميرا. وإلهام علي ليست الموهوبة الوحيدة في الفيلم، فهناك بالطبع النجمان الكبيران إبراهيم الحساوي وعلي إبراهيم، مع شجاع نشاط، وأسامة صالح، وعبد الله الزيد الذي أدّى دور إمام المسجد الشيخ سعد بإتقان مُدهش، بالإضافة إلى يعقوب الفرحان، الاسم المتألق في الدراما السعودية، يذكّرنا الفرحان ببدايات النجم عبد المحسن النمر، بملامحه البدوية الوسيمة التي تتحدّث بمفردات الصحراء وتليق على كل الأدوار.

جاءت بعض مشاهد الفيلم مغبشة وغير صافية بطريقةٍ جاذبة، ليس فقط للدلالة على الذاكرة المشوشة، بل للإشارة إلى أجواء الرياض، إذ تتعرض المدينة سنويًا إلى موجات غبار بحكم موقعها الجغرافي.

تنوّعت زوايا التصوير بين اللقطات المقربة، واللقطات العالية، التي تُظهر تفاصيل المكان، ومنها قصر المصمك التاريخي، وهو من أبرز المعالم التي شهدت تحوّلات البلاد، بُني المصمك حصنًا في القرن التاسع عشر، ثم حوّله الملك عبد العزيز إلى مخزن سلاح، ثم صار سجنًا، وأخيرًا أصبح متحفًا مفتوحًا للزوّار.

 بجانب زوايا التصوير اعتمد المخرج طريقة الـ”فلاش باك” وهي أسلوب سردي فرضته الطبيعة الدراميّة للفيلم، حيث الرجوع إلى الوراء للتذكّر، والمقارنة، والنجاة بالماضي أو الهرب منه.

إن “المسافة صفر” كأي فيلم “ثريللر” أو دراما نفسيّة، لابد أن يحمل جينات من أفلام سيّد هذا المجال ألفريد هيتشكوك، دون أن يقلدها أو ينسخ منها، ومن شاهدوا فيلم ” غرباء في قطار” سيفهمون القصد، والسلالم أيضًا أحد العناصر المتكررة لدى المخرج البريطاني الكبير، بما تعنيه من دوران، وحيرة، وتصاعد التوتر مع كل خطوة، ومن سلالم بيت ماجد هناك ثوانٍ يُمكن اعتبارها أحد أجمل المشاهد: عندما يطل البطل ليتأكد من وصول الشرطة فيسقط عقاله من رأسه.

من ناحية أخرى، شاب الفيلم بعض المشاكل التقنية في الصوت إذ لم يكن واضحًا أغلب الأوقات، خاصةً أنّ طبيعة الفيلم تتطلب الهمس في بعض الأحيان، مع وجود قليل من الارتباك في مَنتَجة المشاهد الختامية، بالإضافة إلى أنّ اختيار ماجد لوظيفة مصور فوتوغرافي بعد اشتراكه في إحراق محل للتصوير فيه شيء من المُفارقة المُفتعلة.  

الظالم والمظلوم

“المسافة صفر” فيلم عن الغضب، والعدالة، ومعايير الخير والشر في مصائر البشر، حيث دائرة الظالم والمظلوم تدور دون توقف، ودون تمييز بين الضحايا، فيحصل الجميع على التعاطف.

يظهر تمكن المُخرج عبد العزيز الشلاحي في عدة نقاط، أهمها المحافظة على وتيرة السرد المشدودة، إلى جانب خلو الحبكة تقريبًا من الثغرات الكبيرة، وطبعا الأداء المتميّز للممثلين حتى الذين ظهروا في مشهد واحد مثل ظافر الشهري، وعمر المحسن، علمًا بأنّ “المسافة صفر” هو فيلم الشلاحي الطويل الأوّل، وهو أمر يزيد من رصيد الفيلم بلا شك.  

“المسافة صفر” فيلم إذا نزعنا منه خلفيته الاجتماعية والسياسية، رأينا فيلم “ثريللر” غربياً، بإيجابيات هذا الوصف وسلبيّاته، وإذا أعدنا له مذاقه المحلي، رأيناه فيلمًا سعوديًا يستحق المشاهدة والإعجاب معًا.

Visited 5 times, 1 visit(s) today