الفيلم المصري في مهرجان كان: “عائشة لا تستطيع الطيران”

أمير العمري- كان
“عائشة لا تستطيع الطيران” هو الفيلم الروائي الطويل الأول الذي عرض في تظاهرة “نظرة ما” بالدورة 78 من مهرجان كان السينمائي. ومخرجه مراد مصطفى، أخرج ستة أفلام قصيرة قبله. وقد صرح عند تقديم فيلمه في كان- بأنه لم يدرس السينما، لكنه تعلم الإخراج من ممارسة العمل كمساعد مخرج كما تلقى تدريبات في بعض الورشات.
لأول وهلة، قد يبدو الفيلم من الخارج، كما لو كان عملا واقعيا، شديد الصرامة، إلا أن النظرة المتأنية، خصوصا بعد أن تكتمل مشاهدة الفيلم، تظهر أننا أمام “رؤية” خاصة متخيلة، وحشية للواقع في مجتمع القاهرة “السفلي”، وهو العالم الذي تعيش فيه بطلته “عائشة”.
إلا أن واقعية الفيلم هي ما يطلق عليه في الفن hyperrealism أو الواقعية الفائقة، الفنية، المصنوعة، التي تعلو فوق الواقع نفسه.
وقد اختار مؤلفه ومخرجه، مراد مصطفى، من البداية، أن يظل ينتقل بين الواقعي والمتخيل، وأن يجعل حتى المشاهد التي تدور في الشارع، مشاهد العنف والشجار بين الشباب المهمش الذي يبحث عن أي وسيلة كانت للحصول على المال، ضاربا عرض الحائط بكل قيمة، مشاهد ليست “واقعية” بقدر ما تعكس رؤيته الخاصة وخبرته الشخصية في الحي الذي ينتمي إليه الفيلم (حي عين شمس)، من زوايا معينة، وطبقا لترتيب محدد لمكونات الصورة كما رسمها في ذهنه.

ينتقل الفيلم من الدراما التي لا تنبع من الصراع بين الشخصيات بقدر ما تنبت من خلال معاناة بطلته، “عائشة” (بوليانا سيمون) وما تمر له من محن متكررة. وعائشة هي فتاة الستة والعشرين عاما، التي لجأت من السودان (غالبا من مسلمي جنوب السودان) إلى مصر، فهي قد تستر رأسها بغطاء الرأس، ونراها في أولى مشاهد الفيلم وهي تؤدي الصلاة، ثم تتحرك طوال الوقت، تنتقل من مكان إلى آخر، تصعد السلالم، تجوس داخل الأزقة، تمارس أعمالا شاقة في رعاية الرجال العجائز المرضى، المعاقين وشبه المعاقين، ترعاهم وتقضي حاجياتهم وتنظف مساكنهم، وتتعرض خلال ذلك لكثير من المشاكل، منها كما يمكن أن نتوقع، الانتهاكات الجنسية.
وعندما تشكو لمدير مكتب التشغيل الذي يسند إليها ما تقوم به من أعمال ويرسلها إلى أماكن العمل في الشقق المختلفة، من ما يطالبها به السيد “خليل” المريض المقعد الذي ترعاه، من تقديم “خدمات” جنسية، يخبرها أنه يستمع يوميا الى شكاوى كثيرة مماثلة، وأن من الأفضل لها الاستجابة والاستمرار في العمل واعتبار ما يطلب منها جزءا من “العلاج”. أما مكتب التشغيل نفسه فيستغلها، ويخصم لنفسه قسطا كبيرا من راتبها المفترض. وعندما تحتج تنال عقابا صارما: أقبح الشتائم بل والاعتداء بالضرب، وفي الفيلم يتردد الكثير من أقبح وأقذع الشتائم التي نسعمها في الشارع.
والحقيقة أن اختيار شخصيات الممثلين هي في حد ذاتها من أكثر من يجعل للفيلم مصداقية، فهي شخصيات “حقيقية” تماما، تنتمي إلى “المستنقع” الاجتماعي الجهنمي الذي يصوره الفيلم.
“عائشة” تقيم في منطقة عشوائية، تسود فيها الفوضى الجريمة، ويتحكم في فيها شاب بلطجي، يتزعم عصابة من الشباب هو “زوكا” الذي يمارس العنف ضد كل من يتحدى نفوذه، خصوصا وأنه متورط أيضا في توزيع المخدرات. وهو يضغط على عائشة التي تقطن في شقة حقيرة تابعة له، ويهدد بطردها إلى الشارع بال إن لم تستجب له وتأتيه بنسخ من مفاتيح الشقق التي تعمل فيها لكي يقوم مع عصابته، بالسطو عليها.

ولدى عائشة صديقة، لاجئة من بلدها أيضا، تساعدها وتتضامن معها بل وتقوم بتزويدها بنسخ من مفاتيح الشقق التي تخدم فيها لكي تعطيها لزوكا، إلا أن صديقها الحقيقي هو “عبده” الطاهي الذي يعمل في مطعم يمتلكه شقيقه الفظ. وعبده يرحب دائما بعائشة، يطهو لها وجبات خاصة ويقدم لها الطعام، ليس لديه دافع سوى الرفقة الإنسانية. ربما يرى أنه مثلها، منبوذ معزول وحيد، خاضع. ولكن ربما كانت هذه الشخصية تستحق أن تنال عناية أكثر من جانب السيناريو. لكن عبده سرعان ما يختفي، كما ستخبرها صديقتها أنها وجدت طريقة للعبور من مصر إلى أوروبا في أحد القوارب وأنها لن تستطيع مساعدتها بعد ذلك.
بين حين وآخر، تتأمل عائشة جسدها، وتلاحظ أن هناك بثورا كثيرة انتشرت في منطقة البطن، وبعد قليل تحولت تلك البثور والبقع إلى “ريش”. هل هي تتحول تدريجيا إلى “نعامة” في تماه مع النعامة التي تتبدى لها بين وقت وآخر، تقف أمامها دون حراك؟ وهذه النعامة نفسها ستتراءى لعائشة وقد انتقمت لها أـشع انتقام من “خليل”، فقد نهشت أمعاءه وتركته غارقا في دمائه.
وهكذا يغادر الفيلم باستمرار، الواقعية المفترضة، إلى ما يشبه “الواقعية السحرية” التي تكتسب معان رمزية، فعائشة مثل النعامة، وهي من الطيور لكنها تعجز عن الطيران، كناية عن عجز عائشة عن الخروج من مأزقها.
الجحيم هنا هم الآخرون بالمعنى المادي أيضا.. فجميع شخصيات الرجال هنا، استغلاليون، همجيون، متوحشون، لا يقيمون وزنا لأي اعتبار أو قيمة إنسانية، من أول من يقوم بتشغيلها في مكتب العمل، إلى مخدوميها من الرجال، إلى البلطجية الذين يحاصرونها في المنطقة حيث تقيم، وخصوصا زوكا الذي يتعامل معها باعتبارها جزءا من ممتلكاته. وحده عبده هو الذي يشفق عليها، لكنه يختفي من حياتها ومن الفيلم.
لا شك أن مهمة المصور السينمائي مصطفى الكاشف لم تكن سهلة، فهناك الكثير من الحركات الطويلة للكاميرا، تتابع عائشة في سيرها داخل الحارات والأزقة التي تبدو في أدنى درجات التدني، مما يجعل الصورة أقرب إلى السوريالية، كما تتميز الصور بألوانها الشاحبة الرمادية، وتبدو غير مسواة، محببة، مع إضاءة خافتة تضفي أجواء الكآبة العامة على حياة عائشة. ولعل المشاهد الوحيدة التي تتضح فيها الألوان، وتصبح إضاءتها أكثر سطوعا، عندما تذهب عائشة لزيارة أقرانها من الفتيات والنساء اللاجئات، ولكن مرة أخرى، تبدو الأماكن التي يقمن فيها كأنها خارج الواقع تماما، أشبه بالمغارات والكهوف والحفر البدائية، حيث يرتفع صياح وصراخ الأطفال، وتحاول الأمهات التشبث بالحياة.
هناك تركيز على الوجوه، من خلال لقطات الكلوز أب، خصوصا لوجه عائشة للكشف عن انفعالاتها وتقريبها من المشاهدين، لكن مشاعر عائشة تظل محكومة، فهي تخفي أكثر مما تظهر، ورغم ما يحيط بها من عنف بصري وسمعي، إلا أن الفيلم لا ينحرف قط في اتجاه المبالغة أو الضغط من أجل توليد أكبر شحنة عاطفية، بل يظل عملا محكوما، صارما، مشدودا بقوة كما لو كان مصورا في لقطة واحدة ممتدة، خصوصا مع الأداء المثير للإعجاب من جانب “بوليانا سيمون” التي لم يسبق أن رأيناها على الشاشة من قبل، والفضل في اكتشاف قدرتها يرجع دون شك، إلى مراد مصطفى وفريقه.

ولا شك أن التجربة نفسها جيدة، وتبشر بوجود مخرج يعرف كيف يتعامل مع الأماكن الصعبة، ويستخرج من الممثلين كل ما يمكنهم التعبير عنه في تلقائية ويسر، ومعه فريق متمكن لابد أنه شارك في هذه التجربة المثيرة بحماس وحب، انعكس على مفردات الفيلم وباقي عناصره.
هذا فيلم شديد القسوة، يتراجع فيه الأمل كثيرا، ويوحي بأن بطلته الغريبة عن الواقع، ربما لا يكون أمامها سوى أن تندمج مع من حولها، وتودع كل ما كانت تعرفه عن الدنيا، لتصبح جزءا من هذا التدني.. طالما أنها “لا تستطيع الطيران”!
ولابد أن تكون نهاية الفيلم أيضا، نهاية متخيلة، للفوضى التي يمكن أن ينتهي إليها مجتمع متحلل، ساقط في العنف والاستغلال، يتغاضى عن الكثير من الخطايا ويدفن رأسه في الرمل، كالنعامة. وهذا المجتمع نفسه ربما أيضا، لا يستطيع الخروج بسهولة من أزمته، تماما مثل عائشة!