الفيلم الإيطالي “في جلدي”: واقعية تسجيلية ودراما تنتهي إلى ذروة مأساوية
كان الفيلم الإيطالي “في جلدي” On My Skin هو الفيلم الذي افتتح به قسم “آفاق” في مهرجان فينيسيا السينمائي، الذي ينظم بدوره مسابقة موازية للمسابقة الرسمية. وبعد انتهاء المهرجان مباشرة عرض الفيلم عبر شبكة نتفليكس الأميركية في نسخة ناطقة بالإنكليزية.
“في جلدي” هو الفيلم السينمائي الثاني لمخرجه الإيطالي أليسيو كريمونيني (أخرج فيلمين للتليفزيون). وهو يستند إلى حادثة حقيقية وقعت في إيطاليا قبل تسع سنوات ومازالت تثير الكثير من الاهتمام لدى الرأي العام، عندما مات شاب كان في الحبس الاحتياطي في انتظار المحاكمة تحت رعاية الشرطة. هذا الشاب هو ستيفانو كوكي (30 سنة) الذي ينتمي لأسرة ميسورة من الطبقة الوسطى، وكان يعمل مع والده وهو مساح يقوم بعمل دراسات لتقدير الحالة الفنية للمباني. لديه شقيقة وحيدة هي “إيلاريا” وهي متزوجة ولديها طفلان وتعيش حياة جيدة في إحدى ضواحي روما. على الرغم من هذه البيئة الطبيعية المستقيمة انحرف ستيفانو نحو إدمان المخدرات، وأنفقت أسرته لكي تعالجه من الإدمان في احدى المصحات المتخصصة، وبعد خروجه واتمام شفائه، اشتروا له شقة خاصة، لكنه سرعان ما عاد إلى تعاطي المخدرات.
يبدأ الفيلم بدخول طبيب على ستيفانو الذي يرقد فوق سرير داخل مستشفى السجن. يناديه الطبيب لكنه لا يجيب. أغلب الظن أنه قد فارق الحياة. بعد ذلك يعود الفيلم الى الوراء، في “فلاش باك” طويل إلى ما حدث قبل سبعة أيام لنرى ستيفانو وهو يعمل في مكتب والده، ثم يحضر قداسا داخل الكنيسة، ثم وهو يمارس الملاكمة مع أصدقائه، وعندما يختلي بنفسه داخل شقته نراه يرص قطع الحشيش التي اشتراها مؤخرا.
مساء 15 أكتوبر 2009، يجلس ستيفانو مع صديق له داخل سيارته، يعطيه سيجارة من الحشيش. تمر دورية من رجال الشرطة العسكرية أو الحرس الوطني (الكاربونيري). يهبط ضابطان في الملابس العسكرية وسرعان ما ينضم إليهما ضابطان في الملابس المدنية، يقتادون الاثنين الى مقر الشرطة العسكرية في الليل، وتبدأ الرحلة المخيفة التي تبدو كما لو كانت كابوسا يظل يتصاعد إلى أن يصل إلى الذروة التراجيدية.
يتهمه الكاربونيري بالاتجار في المخدرات بعد أن يعثروا معه على 20 غراما من الحشيش وغرامين من الكوكايين، ويشهد صديقه بأنه كان يزوده بانتظام ومنذ فترة طويلة بالمخدرات.
يقر ستيفانو بأنه يتعاطى المخدرات وبأنه كانت لديه سابقة من قبل (غالبا في التشاجر مع بعض الأشخاص أمام المصحة) ولكنه ينفى دائما وبقوة الاتجار في المخدرات. ولا يوضح الفيلم ما إذا كانت شهادة صديقه بغرض أن ينفذ بجلده، أم أنه كان يقول الحقيقة. لكن ما يحدث أن تقتاد الشرطة ستيفانو إلى السجن ويزجون به داخل زنزانة مع ثلاثة أشخاص آخرين. ثم ينقل الى محبس آخر حيث يدفعونه بقوة داخل غرفة لا نرى ما يحدث فيها فالفيلم يتعمد عدم تصوير الاعتداء عليه، وعندما يخرج ستيفانو من الغرفة مقيدا لنقله الى قسم الشرطة العادية في الصباح تبدو على وجهه علامات التعرض لاعتداء شديد، كما نرى أنه أصبح غير قادر على السير بشكل طبيعي وأنه يتحامل على نفسه تحت وطأة الألم الشديد.
في مقر الشرطة يتسلمه ضابط يبدو متعاطفا معه، يريد أن يعرف سبب إصاباته، لكنه يرفض الاعتراف بوقوع أي اعتداء عليه مصرا على أن ما به من إصابات حدثت بسبب سقوطه على الدرج قبل اعتقاله. وعندما يأتي الضابط له باثنين من رجال الاسعاف لنقله الى المستشفى يرفض تماما أن يكشف لهما وجهه أو أن يقبل عرضهما. يبدو سلوكه هذا غير مفهوم تماما. إنه غالبا يخشى ما يمكن أن يفعله به ضباط الكاربونيري الذين يمكنهم تلفيق تهمة تودي به الى قضاء عشر سنوات في السجن.. وهو سيعبر عن خوفه فيما بعد في غمرة شعوره بالغضب وانفجاره في وجه الممرضة في مستشفى السجن. إنه يسخر وسيتنكر أن الجميع يسألونه عن سبب الإصابات كما لو كانوا يتجاهلون الحقيقة الواضحة وهي أنه تعرض لاعتداء عنيف من جانب الشرطة.
تتدهور حالة ستيفانو، وبعد اجراء الأشعة له يتضح اصابته بكسر في فقرتين من فقرات الظهر، كما يعاني من متاعب شديدة في الكلية، ثم من الاحتباس البولي، ويعجز عن تناول الطعام أو الشراب. لقد أصبح الآن شديد النحافة والضعف، يجد صعوبة بالغة حتى في نطق الكلمات. وهو يطلب فقط طوال الوقت، الدواء الخاص بمرض الصرع الذي يقول إنه يعاني منه.
وعندما يقف أمام قاضية التحقيق المبدئي يعترف بالتعاطي وبأنه كان يعاني من الإدمان، لكنه ينفي أنه يتاجر في المخدر. القاضية تلاحظ بوضوح عجزه عن الكلام والوقوف بصورة طبيعية لكنها رغم ذلك لا تهتم بأن تسأله عن السبب. وبعد الاستماع له وقبول توكيله المحامي الذي أتت به المحكمة، تقضي باستمراره في الحجز على أن يمثل امام المحكمة بعد شهر. وتستمر تلك الحالة الكابوسية العبثية. تحاول أسرته مرارا زيارته لكنها تواجه الكثير من العقبات البيروقراطية التي تحول بينها وبين رؤية ستيفانو. لا يزوره محاموه فالشرطة لا تهتم بالاتصال بالمحامي كما طلب وهو لا يملك الاتصال به بعد مصادرة هاتفه. والمعالجون يكتفون بتسديد الخانات في أوراقهم الرسمية بقبول تبريره الشخصي بأنه سقط على الدرج، رغم علمهم بأنه يكذب.
قضية ستيفانو كوكي وما حدث له معروفة في إيطاليا وقد شغلت الرأي العام ومازالت، وهي لاتزال منظورة أمام القضاء ضد الضباط الأربعة والمسؤولين في مستشفى السجن الذين تتهمهم أسرة ستيفانو باستخدام العنف مما أدى إلى موته، وتتهم السلطات الطبية بالتقصير والإهمال. ولكن رغم ذلك ومنذ القاء القبض على ستيفانو في الفيلم، لا يمكننا سوى أن نتابع بلهفة، كل ما يمر به ستيفانو، ونظل منتبهين حتى اللحظة الأخيرة، إلى أن نعرف أنه قد مات بالفعل تحت وطأة سلسلة ممتدة تبدأ بالاعتداء القاسي العنيف ثم تمتد إلى الإهمال الذي يصل لدرجة التواطؤ، شاركت فيها مؤسسات الشرطة والسجن والقضاء والمستشفيات. ويخبرنا الفيلم في نهايته أن ستيفانو كوكي كان السجين رقم 172 الذي يموت وهو في الحجز في عام 2009.
تكمن براعة الفيلم أولا في السيناريو الجيد المنسوج جيدا الذي كتبته ليزا نور سلطان مع مخرجه، والذي يقوم على التشويق والإثارة البوليسية والتدرج الزمني في السرد، وهو يتبع خطا شبه تسجيلي في سرد ما وقع بالتفصيل وبدقة متوقفا أمام الكثير من التفاصيل والأحداث، محددا تاريخها، منتقلا بين الأماكن المختلفة مع السجين الذي تتدهور حالته يوما بعد يوم. ثانيا: من أكثر العناصر تأثيرا في هذه الدراما التسجيلية المشحونة بالتوتر، الأداء البليغ من جانب الممثل الإيطالي الشاب اليساندرو بورغي الذي يقوم بدور ستيفانو، معبرا عن شقائه ومحنته وآلامه ومعاناته الجسدية التي تصل إلى ذروتها بحيث يجعلنا كمتفرجين نشعر بألمه ونشاركه ارتجافه داخل زنزانته الباردة الضيقة، كما نشعر بتمزقه النفسي وبين إيمانه الديني بمصيره المكتوب، وتطلعه إلى الخلاص ولو بالموت، وفي الوقت نفسه طلب الغفران من والديه اللذين يرى أنهما لم يكونا يستحقان ابنا مثله جلب لهما ما جبله من متاعب في حياته.
يميل أسلوب الإخراج إلى الإبقاء على التوتر ورفع وتيرة الرغبة في معرفة ما حدث مع الميل إلى أن يخفي أكثر مما يظهر، مستخدما الإضاءة الخافتة، والألوان الباردة للممرات والردهات وغرف التحقيق والزنازين وقاعة المحكمة الأولية وغرف المستشفيات. ويستخدم المخرج اللقطات الثابتة الطويلة حينا التي تركز على وجه ستيفانو وجسده، مع الاهتمام بحضور الممثل في معظم مشاهد ولقطات الفيلم لا يغادرها سوى في القليل النادر، كما يستخدم اللقطات المتحركة التي تشعرك بحالة الدوار وفقدان الوزن التي يعاني منها ستيفانو مع تدهور حالته الصحية.
“في جلدي” عمل يوجه إدانة قوية لمؤسسات دولة ديمقراطية يتهمها بإنكار حق المتهم في محاكمة عادلة، في النظر الى ظروفه الشخصية بجدية، في ضمان عدم الاعتداء عليه، في السماح له بالاتصال بمحاميه، والسماح بزيارة أسرته له واتصاله بها. وكونه قد فضل البقاء صامتا يرفض الاعتراف بما وقع عليه لهو أكبر دليل على بطش السلطة البوليسية. إنه يعترف فقط لزملائه في السجن عبر القضبان بحقيقة ما تعرض له. ونهاية ستيفانو كوكي المأساوية حتى لو عرفنا في النهاية أنه كان يحتفظ في شقته بكمية كبيرة من الحشيش، أدت إلى صحوة كبرى في الرأي العام الإيطالي الذي اعتبرها جريمة جماعية تستحق محاكمة النظام نفسه، ولكن ما بالنا ومثل تلك الجرائم بل وأفدح منها، تحدث يوميا بالآلاف في بلدان أخرى تعتنق الشرطة فيها التعذيب منهجا، والاعتقال المفتوح من دون تحقيق، أمرا طبيعيا!