“الشيء” (الفصل الثاني) فنُّ الرُّعب بالتلوين

Print Friendly, PDF & Email

فيلمنا هو “It” الذي قد يُترجم إلى “الشيء”؛ ليعبِّر عن “كيان” لا تحديد لكُنهِهِ وحقيقتِهِ. كان قد عرض الجزء الأول من الفيلم في العام 2017، مُحقِّقًا نجاحًا كبيرًا. أمَّا الجزء الثاني فالفيلم من إنتاج 2019. عن رواية للروائيّ الشهير “ستيفن كينج”، تأليف جاري دوبرمان. وإخراج آندي موشستي. تكوَّن طاقم التمثيل من مجموعة كبيرة من الممثلين منهم: جيسكا شاستين”، جيمس ماكفوي، آندي بين، ومجموعة من الأطفال هم أنفسهم الذين قاموا بأداء الأدوار في الجزء الأول ومنهم: “جيرمي تيلور”، جاك ديلان. وقد حقَّق الفيلم -حتى اليوم- ما يقارب 450 مليون دولار، في ظل ميزانيَّة لمْ تتعدَّ 80 مليون.

تدور أحداث الفيلم عن ذلك الكيان الشرير الذي يظهر في شكل مُهرِّج يُدعى “بيني ويز”، في مدينة صغيرة “ديري”. هذا الكيان يظهر كل 27 عامًا في تلك القرية؛ ليرعب الناس، ويتغذى على خوفهم. يتصدى له مجموعة أطفال يافعين عام 1989م حتى يستطيعوا دحره في الجزء الأوّل. ويتعهدوا عهدًا بالدم أنهم سيقفون ضده متى ظهر مرة أخرى. وتمرّ الأيام والسنوات ولا يعير أيّ منهم اهتمامًا بالأمر. وفي الجزء الثاني ومع حلول دورة قدومه كان عامنا 2016م، وها هم الأطفال قد استقرَّ كل منهم في طريق حياة ناسين كل شيء. وفي غمرة نسيانهم يتلقى كل منهم اتصالاً من صديقهم الوحيد الذي بقي في المدينة؛ مُخبرًا كلاً منهم بعودة الكيان، مُذكِّرً إيَّاه بعهد الدماء الذي قطعه. وفي المدينة يجتمع أبطالنا ليواجهوا مصيرهم.

ومن هنا تتمثل إحدى مرتكزات الفيلم حيث “أطفالنا” قد صاروا “أبطالاً”، أتى صانع الفيلم بممثلين ذوي خبرة وظهور بل نجاح ضخم مثل “ماكفوي” (صاحب فيلم “انقسام” الشهير)، وجيسكا شاستين (صاحبة عدد من الأفلام ذات النجاح الكبير منذ 2011)، ومجموعة من أصحاب الظهور وخفَّة الظلّ. وقد كانوا ذوي شبَه كبير بالأطفال، وحافظ كل منهم على سمات شخصيته القديمة. ولعل العدد الكبير يفسِّر لنا الطول الزمني للفيلم الذي يقارب ثلاث ساعات.

وهذا الفيلم يتأرجح بين عوامل النجاح وعوامل الإخفاق. لكنّ به ما يجعله محل اهتمام السيد المُشاهِد. لأنَّه في تصنيف الرعب؛ هذا الصنف الذي ينتج منه الكثير الكثير من الأفلام في كل عام، ويكون غالبها تحت خط الفشل لأسباب عديدة، وينجح بعضها القليل في النجاة من هذا الخط.

فالتأليف لمْ يضف الكثير فبعيدًا عن الخلطة العاديَّة التي يستخدمها مؤلفو الرعب، واستخدمها المؤلف في الجزء الأول، وأكملها في الجزء الثاني لا تجد شيئًا غير محاولة لتدعيم الفكرة، وإطالة عُمرها بالبحث عن أصل هذا المخلوق، وطرق التخلص منه نهائيًّا لا مجرد تأجيله لدورة أخرى بعد 27 عامًا. وبالعموم هذا الفيلم ليس فيلم تأليف إنَّما فيلم إخراج. الإخراج هو بطله الحقيقيّ.

الإخراج حقق نجاحا لا بأس به. وواضح من مجرد المشاهدة أننا أمام مخرج له وجهة نظر، ولديه قدر من الإبداع (من صنوف الإبداع المختلفة)، ولديه كفاءة في التنفيذ العاديّ، والتنفيذ ذي الخدع المتعددة. وسأعرض هنا في نقاط واضحة عمل المخرج في الفيلم.

أما عن الإخراج فقد تفوق في نواحٍ. هي:

أولاً: الألوان:

جميلٌ أنْ تكتشف للأشياء فوائد أخرى، أنْ تجرِّب أقصى مداها، أنْ تقف على ما تستطيع تقديمه. وهنا للتلوين بعض الفوائد -لصنَّاع الأفلام فقط؛ لأنَّك لن تكون سعيدًا وهي تمارس عليك- التي قد يعرفها المشاهد؛ وهي التأثير بالإيحاء اللونيّ. ومعناه أن للألوان إيحاءات متعددة تختلف باختلاف اللون المُفرَد نفسه، أو من مجموع الألوان مما يصنع “مُكوَّنًا لونيًّا”. وهذا أمر معروف -عمومًا؛ مثل تأثير اللون الأحمر، وتأثير اللون الأبيض-، ومعروف بشدة في مجال “فن الرسم”، وكثيرًا من مدارسه تتمحور حول الألوان وصفاتها. وهناك أيضًا علم لها يسمى “علم الألوان”، وكما لها دراسات مستفيضة في علوم “الفيزياء”؛ من حيث كونها تعدادًا من الموجات، يتغير اللون حسبها، وهناك أمور أخرى كثيرة تتعلق بالألوان. كل هذا يعطيك فكرةً عمَّا قد تضيفه لك الألوان.

أما في مجال الأفلام فلها أيضًا التأثير الأعظم غير المُباشر. ودائمًا يكون أثرها الأكبر غير مباشر؛ أيْ أنه “أثر إيحائيّ”. وهناك لكل صنف من الأفلام تكوينات لونيَّة معينة يختار المخرج من بينها ما يناسب جو الفيلم الخاص. وتتمثل فائدتها في خلق الجو العامّ للفيلم الذي يقوم بدوه بتدعيم الفكرة العامَّة للمشاهد. فمثلاً تجد أفلام الرومانسيَّة لها مساحات لونيَّة معيَّنة، وأفلام الدراما القاتمة (السوداء) لها مساحات أخرى، كما تمتاز أفلام الرعب بمساحات لونيَّة غالبها يدور في فلك الأسود، وألوان الإظلام بدرجاتها.

وقد استطاع ببراعة أن يفيد منها مخرج الفيلم ويزيد عليها مستوى ثانيًا في تجربته الأولى، واستمرّ ذلك في تجربته الثانية. ليس التلوين هو المحور الرئيس وحده في الرعب، لكنه عنصر بارز جدًّا في هذا الفيلم. وتتمحور الفلسفة اللونيَّة في الفيلم حول:

1-   المستوى العاديّ وهو استخدام المساحات اللونيَّة الشائعة في أفلام الرعب، وهذه لمْ تكنْ المؤثرة في الأمر.

2-   المستوى الثاني ويتمثَّل في إحداث تباين ضخم بين ألوان المشاهد. وهنا يجب أن نتعرف على تلك المدينة المسالمة الرائعة التي تدور في جوها الأحداث. أنَّها تشبه قرى الفلاحين في أوربا. حيث كل شيء يمتاز بالنصوع، والبراءة، والتقرُّب بل الاعتماد الكليّ على الطبيعة. وقد استفاد المخرج كل الاستفادة من أماكن التصوير التي اختارها. حيث صنع ما يمكن -إذا جُمع وحده- أن يكون واحدة من أجمل الأفلام عن الطبيعة والهدوء النفسيّ. وقد حرص كل الحرص على وجود الشمس في كل المشاهد تقريبًا، دون اللجوء لليل إلا عرضًا واستثناءً فقط. وقد قام بعمليَّة “تشبُّع الأوان” في غالب المشاهد أيضًا ليحرص على نصاعة الصورة. فعل هذا ليخلق التباين الذي سيصدم المشاهد فيما بعد عند التحول من كل هذا الإشراق إلى أجواء الرعب بألوانها التي تضاد الألوان في عالم الطبيعة. مما يحدث للإنسان خوفًا فوق خوفه، وهو تبدل الكون المرئيّ على الشاشة بكل ما فيه من عناصر، ما بين مشاهد الرعب والمشاهد غير المُرعبة. ولا ننسى كذلك أنّ الكيان المرعب يتمثَّل في “مُهرِّج” بتلك الألوان المتعددة التي يصبغ بها وجهه، وتلك الألوان على ملابسه. وهذه الألوان دائمًا كانت مثار البهجة، لكنَّها هنا ليست إلا مثارًا للرعب. ولا أنسى مشهدًا يستحق الذكر في الثلث الأول من الفيلم حينما يهبط المهرج من فوق أحد التماثيل مُحدثًا الرعب لأحد الأبطال؛ حيث غيَّر المخرج الهيئة اللونيَّة للشاشة كاملةً ببراعة وتناغم.

ثانيًا: صنع الكثير من إبداع مشاهد الرعب الجزئيَّة:

حيث نجح المخرج في إبداع عدد كبير من مشاهد الرعب الفيلم. وتمثَّل هذا في:

1-   اختلاقه لتنويعات جديدة على الأشكال المعروفة في أفلام الرعب من السنوات الأخيرة. ومحاولة الإبداع وإطلاق الخيال في غيرها.

2-   امتازت هذه المشاهد بانضباط في الإيقاع الذي يناسب مشاهد الرعب.

3-   كما امتاز بخلق لقطات ذكيَّة وبها بعض الرمزيات.

أما عن الإخفاق فقد أخفق في عناصر أهمها على الإطلاق:

1-   سبك كميَّة المشاهد الجزئيَّة التي صنعها في إطار كُلِّيّ أيْ في إطار الفيلم العام. وهذا شاركه فيه التأليف -بالأصالة- حيث يشبه الفيلم في مجمله ما يُسمَّى في الأدب “قصَّة الإطار”. أيْ وجود سياق عام تروى فيه الكثير من القصص الفرعية. وفي حالتنا هذه هناك أفلام صغيرة تمثلها مشاهد طويلة. لكن يعيبها قلَّة الترابط بالإطار العام. ولعل هذا ما قد يسبب للمشاهدين والنقاد التأرجح بين اعتبار الفيلم ناجحًا أوفاشلاً. فالسبب نفسه الذي قد ينجح فيه هو ما ولَّدَ إخفاقه العام.

2-   النمطيَّة التي إنْ حاول الفيلم تجاوزها في المشاهد الجزئيَّة لكنه لمْ يفلح في الإطار العام خاصّةً.

لقد تفاعل الجمهور مع الجزء الأول لكونه صراعًا بين كيان وبين “أطفال”؛ فهل سيتحوَّل هذا التفاعل إلى غيره مع صراع بين كيان وبين “أبطال”؟


Visited 107 times, 1 visit(s) today