السينما الجزائرية ليست بخير

Print Friendly, PDF & Email

بات المخرج الجزائري الذي يستفيد من الدعم المالي الممنوح من قبل المؤسسات الحكومية، لا يبحث عن الطريقة الفنية المثلى لتقديم فيلم جيد، يمكّنه من تحقيق الحد الأدنى من الجانب الجمالي، بل بات يبحث عن طريقة لتبرير أموال الدعم الذي أخذه، حيث يتم تقديم تقارير مغلوطة، وفواتير مضخمة لا تعكس المبلغ الرسمي، ولأن القانون يفرض عليه عرض الفيلم بعد انتهائه، فيقوم على الأقل معظم المخرجين في إجراء سباق مع الزمن لعرض الفيلم، حتى لو كان هذا السباق على حساب فنية الفيلم وجماليته، من هنا يصبح المخرج ملزما بعرض الفيلم بأي طريقة كانت، المهم أن يتمم الجانب القانوني، ويذكر في التقرير بأنه تم تسليم الفيلم والموافقة على عرضه، إذ بات الأمر أقرب إلى تبييض المال، بدل تبييض وجه السينما.


قبل نصف قرن من الآن، تقدم شاب في الـ33 من العمر، بفيلم من 95 دقيقة، لأعرق وأهم مهرجان في الدنيا، وهو مهرجان “كان” السينمائي، وهذا سنة 1967، أي بعد 5 سنوات من الاستقلال، حيث قبل فيلمه في المسابقة الرسمية، وأكثر من ذلك خرج بجائزة العمل الأول، وحتى أنه اقترب من حصد “السعفة الذهبية”، غير أن المخرج السينغالي صمبان عصمان عضو لجنة التحكيم وقتها امتنع عن إعطاء صوته للفيلم، ما حال دون حصد الجائزة الكبرى، هذا الفيلم هو “ريح الأوراس” لمخرجه محمد لخضر حمينة، وقد نافس وقتها كبار المخرجين العالميين، من بينهم ميكل انجلو انتنيوني، وفرنسيس فورد كوبولا، وغيرهم، وخرج بجائزة الكاميرا الذهبية، التي تقدم للعمل الأول، وقد أسمع حمينة صوت الجزائر السينمائي للعالم أجمع، وهنا أعيد وأكرر أنجز هذا الفيلم بعد حوالي 4 سنوات من الاستقلال، أي أن الميزانية وقتها، وكذا الوسائل التقنية والبشرية، متواضعة، حتى المخرج تعلم وتمرس وأخذ مبادئ السينما في الغابات أثناء الثورة، وقد تنبأ وقتها العديد من الخبراء ونقاد السينما العالميين، بأن تكون الجزائر واحدة من أقطاب السينما الرائدة عالميا، على ضوء ما قدمته “الجزائر الفتية” وقتها من أفلام وتجارب ملفتة، مكّنتها من افتكاك “الأوسكار” بأمريكا، و”السعفة الذهبية” بكان، و”الأسد الذهبي” بفنيسيا…إلخ.
بعد عقود من الزمن، عاد مؤشر جودة السينما الجزائرية إلى الوراء، أي على عكس مبدأ التطور الذي يأتي عن طريق التجربة والخبرة، حيث ولدت السينما كبيرة ثم بدأت تصغر وتتقهقر، إلى أن وصلت إلى ما هي عليه في 2016، هذه السنة التي يليق بها هذا التوصيف دون غيره “سنة الأحزان” بامتياز، وسنعرف هذه الحقيقة الموجعة إذ ما ابتعدنا عن الكذب على أنفسنا، ونظرنا إلى المرآة، التي تنقل الصورة الحقيقية لواقع سينمانا المتردي، بعيدا عن لغة الخشب، وقتها يصبح بالإمكان تشخيص العلّة، التي نخّرت جسدها الطري.

أفلام “قسنطينة عاصمة الثقافة العربية”، الميلاد والوفاة

التهمت دائرة السينما، بمناسبة “قسنطينة عاصمة الثقافة العربية” 2015، حوالي 150 مليار سنتيم، خصصت لإنتاج 15 فيلما، منها 5 أفلام روائية، واحد منها قصير، والبقية وثائقية، أما الروائية الأولى، وبما أننا نتحدث عن حصيلة 2016، فإن كل الأفلام التي تم الانتهاء منها، عرضت في السنة المذكورة، أي أنها تدخل في صلب حديثنا، وهو حصيلة السينما الجزائرية في 2016، بما أن تاريخ إنتاج الفيلم يعود دائما إلى أول عرض له، ما عدى فيلم واحد، لم يُعرض لحد اللحظة، وهو فيلم “العشيق” للمخرج عمار سي فوضيل.
أول عمل عُرض بمناسبة التظاهرة المذكورة، هو فيلم “وسط الدار”، لسيد علي مازيف الذي أسال الكثير من الحبر، بعد أن أطاح بوزيرة الثقافة السابقة نادية لعبيدي، التي هاجمها نواب رئيسة حزب العمال لويزة حنون في البرلمان، على خلفية الشبهة حول طريقة دعم فيلم سيد علي مازيف، وعليه نال دعاية كبيرة ومجانية، جعل الكل يترقب عرضه، لكن بعد مُشاهدته تبين بأن المخرج سيد علي مازيف قدّم فيلما مفككا، مليئا بالثرثرة والإطناب والحشو، والمشاهد الغير مترابطة، وعليه لم يلقى أي ترحيب من قبل الصحافة الثقافية، التي هاجمته بشدة، وقد تم العرض الشرفي للفيلم بقسنطينة، حيث تم استقدام شاحنتين من العاصمة، محملتان بآلة العرض والتجهيزات التقنية، وهذا ما أسقط وعود المسؤولين الذين قالوا بأنه سيتم تجهيز قاعات السينما بقسنطينة بوصفها مدينة الفعاليات بأحدث التجهيزات، خاصة بآلة العرض “الدي سي بي” وترميمها، لكن للأسف لم يتحقق هذا، وبقيت القاعات مغلقة إلى غاية اليوم.


لتتوالى بعدها عروض الأفلام الروائية، في الثلاثي الأول من سنة 2016، أي مع العد التنازلي لنهاية التظاهرة، من بينها فيلم “البوغي” لعلي عيساوي، الذي عاد بالمُشاهد إلى القرن الـ18، في محاول منه لإحياء أحد أجمل قصص الحب، التي يتم تداولها بكثرة بين العشاق، لكن للأسف ضعف المعالجة والاستسهال، والسيناريو المشتت، كلها معطيات قتلت قصة “البوغي”، التي تحمل معاني سامية في المُخيال الشعبي القسنطيني، وهذا ما حدث أيضا مع فيلم “لالة زبيدة وناس”، ليحيى مزاحم، الذي قدم هو الأخر عملا لم يكن راضيا على الكثير من تفاصيله، أما العمل الرابع فهو فيلم “العشيق”، الذي اسند إلى المخرج عمار سي فوضيل، لكن للأسف لم يعرض إلى غاية اللحظة، بالإضافة إلى الفيلم الروائي القصير “جسر إلى الحياة” لمحسن عادل، ناهيك عن الأفلام الوثائقية الأخرى، التي تعالج قضايا وأحداث مرتبطة بقسنطينة وتاريخها، وأهم المعطيات التي جمعت الأفلام المذكورة، هي أنها منتجة تحت مظلة “قسنطينة عاصمة الثقافة العربية”، ومن الأشياء الأخرى المشتركة، هي أن كل فيلم عرف عرضين فقط، واحد في قسنطينة سُجّل من خلاله شهادة الميلاد، والثاني بقاعة الموقار بالعاصمة سجل بها شهادة الوفاة.

السينما الإستعجالية وتبييض المال

بعيدا عن التظاهرة، قدم المخرج الجزائري رشيد بن حاج منتصف شهر مارس 2016، العرض الشرفي الأول لفيلمه “نجم الجزائر”، الذي دعمته وزارة الثقافة الجزائرية ماليا، حيث تبيّن وبعد مرور 102 دقيقة وهي المدة الزمنية للعرض، بأن المخرج قدّم عملا استعجاليا، غارقا في العديد من الأخطاء التقنية وحتى التاريخية، وقد تعجب كل من شاهد الفيلم من عدم احترام المخرج للمشاهد الجزائري، بل ذهب أكثر من ذلك واستغباه، من خلال اختياره لفترة التسعينات كحيز زمني في الفيلم، لكن العديد من التفاصيل كبعض الأزياء والديكور لم تكن تعكس تلك الفترة، من بينها مثلا الجرائد، العملة المالية، الخلفيات، وكأن المخرج أراد فقط تقديم الفيلم لتبرير الدعم المالي، ناهيك عن استعانته بتقنيين وممثلين أجانب، تم دبلجة أصواتهم، ناهيك عن جملة من الأخطاء الأخرى التي لا يقع فيها حتى مخرج هاوي.


وفي نفس اتجاه التسرع والاستسهال والضحك على المشاهد، قدم المخرج عبد الرحيم العلوي فيلم “ذاكرة الأحداث”، بداية سنة 2016، وهو عمل يحتوي على العديد من الثغرات، أما عمار تربيش فقدم هو الآخر فيلمه “قصص بدون أجنحة”، عُرض شرفيا منتصف سنة 2016، بعد انتظار دام حوالي 7 سنوات، والفيلمين من دعم وزارة الثقافة الجزائرية، لكنه خرج فيلما ميتا، وقد برر المخرج هذا الأمر بأن الفيلم تحصل على مليارين فقط، متناسيا بأن الأغلفة المالية لا تصنع فيلما جيدا، وقلتها لا تقدم فيلما رديئا، ولب الأمر وسره يكمن في طريقة المعالجة، واختيار القصة والرؤيا، وهذا ما افتقده المخرج والفيلم، وفي نفس خانة الإستسهال دائما، قدم سيد علي فطار فيلمه “المعاناة”، الذي عاد من خلاله للعشرية السوداء وقضاياها، لكن بطريقة لم ترق للكثيرين، وهو عمل آخر مدعوم من وزارة الثقافة.


أما مهرجان عنابة للفيلم المتوسطي 06/12 أكتوبر 2016، فقد قام هو الأخر بعرض فيلمين جزائريين في المسابقة الرسمية كعرض شرفي، الأول بعنوان “اللوحة المثقوبة” للمخرج جمال عزيزي، وهو فيلم من الصعب أن يتم تنصيفه في خانة السينما، لكثرة المطبّات الفنية التي واجهها، أما الفيلم الثاني فيعود للمخرج المغترب كريم طرايدية “وقائع قريتي”، الذي دُعم ماليا في إطار خمسينية الاستقلال، من الناحية الفنية جاء الفيلم متواضعا، بديكور وملابس لا تعكس الزمن الذي تدور فيه الأحداث، ما جعل المشاهد يحس بالضياع وعدم اهتمام المخرج، ورغم هذا فقد شارك الفيلم في المسابقة الرسمية بمهرجان القاهرة الدولي السينمائي في طبعته الـ38.


وفي نفس حصيلة انتاجات 2016، قدم المخرج رشيد بوشارب فيلم “الطريق إلى اسطنبول”، أما الأفلام التجريبية فقد عكسها المخرج حميد بن عمرة، الذي قدم فيلمين في غاية الأهمية، الأول بعنوان “هواجس الممثل المنفرد بنفسه” الذي شارك به في العديد من المهرجانات، والثاني “بعنوان “حزام” الذي قدّم عرضه الشرفي الأول بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي الـ38، وأكثر ما يُميز العملين أنه تم انجازهما بطريقة مستقلة تماما من الناحية المالية وحتى الفنية، أي بجهد مالي وفكري خاص من المخرج، وقد حضيا بالعديد من الاهتمام النقدي والصحافي، كما لا يمكن إغفال بعض الأفلام الروائية القصيرة، على غرار “قنديل البحر” للمخرج داميان أونوري المدعوم ماليا من وزارة الثقافة، ناهيك عن أفلام بعض الهواة.

من يتحمل المسؤولية/ من يُحاسب على الفشل

من الأشياء التي تحز في القلب وتدميه، أن تغيب الأفلام الجزائرية سنة 2016، عن أهم المهرجانات والفعاليات السينمائية التي نظمت بالمنطقة والعالم، من بينها أيام قرطاج السينمائية، ومهرجان دبي السينمائي الذي عرض العشرات من الأفلام العربية ولم يكن فيها ولو فيلم جزائري واحد في كل التصنيفات، ومهرجان مراكش السينمائي، بالإضافة إلى المهرجانات الأخرى التي تحمل قيمة سينمائية كبيرة، على غرار مهرجان “البندقية”، “برلين”، “كان”، “لوكارنو”، “كارلوفي فاي”، ناهيك عن تسجيل هذا الغياب حتى في مهرجان من صنف “ب” وأخرى بدون تصنيف حتى، وقد كانت الأفلام الجزائرية قبل سنوات مرحب بها في الكثير من المهرجانات، ويتم انتظارها دائما، نتيجة إلى النقاشات التي تفتحها، والإضافة التي تشكلها لهذه الفعاليات.


من هنا وجب طرح العديد من الأسئلة، التي جعلت السينما الجزائرية في هذه المرتبة السحيقة، بعد أن كانت رائدة عربيا، لكن سرعان ما تم إزاحتها، بعد أن تجاوزتها العديد من السينمات العربية الأخرى، التي بات حضورها ملفتا في أكبر المهرجان، على غرار الجارة تونس، التي باتت أفلامها حاضرة بقوة في أعرق المهرجانات السينمائية التي سبق وذكرت بعضها، رغم الموارد المالية المحدودة جدا لهذا البلد الشقيق، على عكس الجزائر التي أنتجت سنة 2016، العشرات من الأفلام، التي تم اقتطاع ملاييرها من أموال الشعب، لكي ترفع راية الجزائر في المحافل الدولية، وتعكس صورتها الفنية والثقافية والحضارية، لكن للأسف ولا فيلم واحد من الأفلام المذكورة المدعومة حقق هذا الهدف، بل لا تزال بعيدة عن المشاهد الجزائري، والأجنبي على السواء، أي أنها لم تحقق أي غاية ثقافية، من هنا يتم طرح السؤال المنطقي، هل هناك مؤسسة أو جهة تتحمل مسؤولية هذا الفشل الكبير؟، من سيفتح تحقيقا لمعرفة الآلية التي يتم من خلالها اختيار سيناريوهات الأفلام؟، هل هناك جهات خارج المؤسسات الرسمية تفرض تلك الأعمال على لجان القراءة والمسؤولين في وزارة الثقافة، وهل سيتم تحريك الآلية القانونية لمحاسبة المخرجين الذين قدموا أعمالا باهتة لا ترقى إلى مستوى السينما، أو على الأقل هل سيتم وضع أسماؤهم في الخانة الحمراء لمنع أي دعم مالي يقدم لهم مستقبلا.


بات المخرج الجزائري الذي يستفيد من الدعم المالي الممنوح من قبل المؤسسات الحكومية، لا يبحث عن الطريقة الفنية المثلى من أجل تقديم فيلم جيد، يمكّنه من تحقيق الحد الأدنى من الجانب الجمالي، بل بات يبحث عن الطريقة المثلى لتبرير أموال الدعم الذي أخذه، حيث يتم تقديم تقارير مغلوطة، وفواتير مضخمة لا تعكس المبلغ الرسمي، ولأن القانون يفرض عليه عرض الفيلم بعد انتهائه، فيقوم على الأقل معظم المخرجين في إجراء سباق مع الزمن لعرض الفيلم، حتى لو كان هذا السباق على حساب فنية الفيلم وجماليته، من هنا يصبح المخرج ملزما بعرض الفيلم بأي طريقة كانت، المهم أن يتمم الجانب القانوني، ويذكر في التقرير بأنه تم تسليم الفيلم والموافقة على عرضه، إذ بات الأمر أقرب إلى تبييض المال، بدل تبييض وجه السينما.

عن جريدة “الحياة” الجزائرية، عدد 984، السبت 14 يناير2017

Visited 28 times, 1 visit(s) today