الزمن الذي يتدفق: حوار عن فيلم “الأبدية ويوم”

كتابة: جيديون باخمان

ترجمة: محمد هاشم عبد السلام

يسعدنا أن نقدم للقاريء هنا النص المهم الي ترجمه الأستاذ محمد هاشم عبد السلام للحوار الممتع الي أجراه جيديون باخمان مع المخرج اليوناني ثيو انجلوبولوس الذي رحل أخيرا عن عالمنا، عن فيلمه “يوم واحد والأبدية”، وهو السينمائي الي أثرى سينما الفن والفكر الرفيع بأفلامه…

الفرامل تطلق صرخات طويلة حادة. تتوقف السيارات لفترة قصيرة في إشارة حمراء في الاختناق المروري المجنون للبلدة في مدينة “سالونيك” شمال اليونان، كانتسالونيك ذات مرة مكانًا تاريخيًا، وقد صارت الآن مركزًا تجاريًا.

من الجهات الأربع انقضّت فجأة مجموعة من الأولاد على الواجهات الزجاجية المترَّبة للسيارات الواقفة. يتنافسون مع بعضهم البعض على تلميعها بخرق قذرة. البعض يحمل أدوات ممتازة وحديثة: ممسحة مطاطية مثلاً. تندلع منافسة صاخبة بين من هم في سن الرابعة والعاشرة من العمر.

تصل سيارة شرطة مسرعة، أبوابها تنفتح قبل وقوفها، مجموعة من رجال الشرطة تنتشر للقبض على هؤلاء المخالفين الضعاف صغار السن. واحد منهم فقط يستطيع الهرب: يفتح له قائد سيارة باب سيارته، من دون دافع فيما يبدو، مجرد بادرة، لمسة إنسانية. برونو جانز قائد هذه السيارة، يرصد معنى حياته بالذات في ذلك اليوم، الذي قد يكون اليوم الأخير له. يتوقع في ذلك المساء دخول المستشفى. إنه ليس على يقين إن كان بإمكانه مغادرتها.

س: نتقابل مرة في السنة على الأقل، لكن فقط في كل عشر سنوات نسجل محادثة. حتى الآن، صار لدينا عشرون عامًا من الحالات المزاجية المتغيرة والأفكار المتطورة. ما الذي تشعر به حيال المشاكل المستعصية لحياتنا اليومية المعاصرة؟ قلت لي منذ عشرين عامًا إن لم يكن بوسع المرء أن يصنع أفلامًا، فبإمكانه على الأقل أن يزرع الطماطم، أو يُربي النحل، يجني عسلاً. منذ عشر سنوات بدوت أكثر تشاؤمًا عما رأيتك عليه اليوم، وأنت تعمل وسط طاقم عملك. هل سترغب في قول شيء ما عن كيف أنك، كإنسان وكمخرج، تطورت في العشرين سنة الأخيرة؟

أنجلوبولوس: كما تعرف، أفضل وقت للتحدث عن أمور جدية عندما تنتهي من إخراج فيلم، لا يكون ذلك مضمونًا في منتصف التصوير، وقتما تكون، أنت نفسك، لا تزال تحاول، صياغة أو بلورة أفكارك الخاصة في قالب لا يزال في طور التشكل. لكنني سأحاول.

س: بالتأكيد أنت لست واحدًا من هؤلاء المخرجين الذين يشرعون في صنع فيلم جديد بغير ضمان؟

أنجلوبولوس: على العكس..أنتمي إلى هؤلاء الذين ليسوا على ثقة مما سيفعلونه بالضبط، حتى لو أنهيت الفيلم، فأنا دائمًا، ودون توقف، أبحث، وأبحث.

س: أعتقد أن هذا يعني أن الإخراج بالنسبة لك، يمثل شكلاً من أشكال البحث.

أنجلوبولوس: دائمًا ما يكون الأمر كذلك. أعتقد أنني كنت أكثر ثقة وتيقنًا من نفسي أو تخطيطي في الأفلام التي جاءت في النهاية أكثر إحباطًا لي. أتصور أن الثقة الزائدة التي تكون في البداية، تجعلك تخون نفسك، تتقدم متعثرًا.

س: ما الذي يمنحك الثقة إذن؟ أو يشعرك بالأمان؟

عيون الآخرين

أنجلوبولوس: أحتاج لرؤية عيون الآخرين. في تحديقات المشاهدين فقط أتعرّف على ما قمت بعمله. من دون تلك التحديقات، والانفعالات في أعينهم، لا أستطيع معرفة ما إن كان الذي فعلته قد أتى بشكل جيد، وأنني قمت بتجسيد ما كان في تصوراتي. ضع في اعتبارك أيضًا، أنني أكون راضيًا عندما يبدو كل شيء في لحظة التصوير وهو يمضي في طريقه الذي تخيلته وتصورته له. أرى أن المشهد كان على ما يرام وأن اللقطة قد نجحت. لكن عندما أرى اللقطات الأولية، أصيح قائلاً: اللعنة! ينقصنا شيء، إنه نوع من الافتقار الداخلي عندي، شيء ما ناقص داخلي أنا، وشيء ما ناقص في النص. لماذا لم يقفز هذا الرجل؟ في النهاية، أرى نفسي أتمنى لو كان يهم بالقفز لو قمت بتقريب القارب بالقدر الكافيمن الصخرة. لكن “برونو” لم يقفز. ضع في بالك أنني لم أقل له أن يقفز، فقط تمنيت فيما بعد في هدوء لو أنه قفز.

أنجلوبولوس

من الصعب دائمًا بالنسبة لي أن أقيس وبدقة ما يعتمل في قلوب الممثلين، أو حتى أن أحكم على ما تم بالتفصيل، في أية لحظة من لحظات تصوير الفيلم. بأكملها. لا أستطيع الحكم مبكرًا بشكل كاف على ما هي عليه المادة الفعلية الآن أو ما ستكون عليه، الأمر الذي من شأنه ترك العنان للعملية الإبداعية على سجيتها.

س: كيف إذن تستطيع إنهاء أي فيلم؟

أنجلوبولوس: لا أستطيع ذلك. ستلاحظ، إذا أمعنت النظر، أن أفلامي في الحقيقة لا تنتهي أبدًا. كلها بالنسبة لي، “عمل متواصل”، مثل مواقع البناء. هل تعرف كم مرة أكتب، ذلك في أغلب الأحيان، سيناريو نفس الفيلم؟ خذ عندك: نحن نقوم بتصوير النسخة السادسة عشرةمن السيناريو! ولا زلت أواصل الكتابة، في الوقت الذي أقوم فيه بالتصوير. إضافة إلى هذا، أقوم بالتغيير حذفًا أو إضافة، دون انقطاع.

س: هل لأن الأشياء، أثناء التصوير، تتكشف أو تبرز إلى الحياة ببطء، وتعطي نفسها طبيعة تتغير؟ هل هي عملية سحرية؟

أنجلوبولوس: تقول هذا بمنتهى السهولة: سحرية. ما الذي يعنيه هذا، “سحرية”؟ كيف تفسر ذلك أثناء الليل، سحري؟ كيف تقوم بترجمته؟ أثناء العمل، أي نوع من أنواع الصورة تختاره للسحري؟

س: لكن تلك هي أهم نقطة في الموضوع “اختيار الصورة”.. جعل الكلمات صورًا – أليس هذا هو جوهر وغاية الإخراج السينمائي؟

أنجلوبولوس: إنها عملية مؤلمة. ثمة خسائر، لكن بإمكانك تحقيق النجاح. هناك شيء يشمل النتيجتين، النجاح في الصور المضبوطة، والمشاهد التي تنبعث إلى الحياة لكونها قد تم التعبير عنها في صور مضبوطة، لكن هناك أيضًا الكلمات والمواقف التي تفقد شيئًا ما عندما تتجسد صورًا. أنت لا تستطيع “كتابة” الصور بطريقة أدبية كما يفعل الأديب. اعتاد فيلليني القول إنه عندما تقابله مشكلة في عملية التحويل هذه، فإنه يجلس ويكتب المشهد كما لو أنه عملاً أدبيًا. عندئذ ستكون من السهولة بمكان قراءته. لكن هذه ليست سينما. أنا مُجبر على إيجاد المعادلة أو الصيغة الصحيحة، الصحيحة سينمائيًا. وهذا، بالطبع، هو الأكثر صعوبة.

س: إذن، كيف تكتب السينما الخاصة بك؟ هل عن طريق هذه اللقطات الطويلة؟

أنجلوبولوس: أكتب جملاً قصيرة جدًا. الكل يعرف أنني أصوِّرُ مشاهد طويلة، لكن المقربين إلي فقط من العاملين معي يعرفون أنني أكتب الجمل القصيرة هذه، تقريبًا، مثل هيمنجواي.

س: هل تقوم بوصف المشاهد أم تكتب الحوار فقط؟

أنجلوبولوس: أكتب في قالب نثري، على هيئة رواية قصيرة. لا أكتب سيناريوهات تقنية. في الحقيقة، بالإمكان نشر مخطوطات سيناريوهاتي كأعمال أدبية الآن. أما من قبل، فلم أكن “أكتب” هكذا مطلقًا. بالنسبة لفيلمي، “الممثلون المتجولون”، لم يكن هناك سيناريو. كانت لديَّ بعض الملاحظات التي تضمنت النقاط الجوهرية. الحدث الدرامي والوقائع التاريخية. لكن حتى اللحظة الأخيرة لم أكن أعرف، على سبيل المثال، كيفية الانتقال من فترة تاريخية إلى التي تليها. هناك أشياء كثيرة في هذا الفيلم ابتكرنا تنفيذها أثناء التصوير، أشياء كثيرة “لم نضع لها حسمًا”.

من فيلم “الأبدية ويوم”

س: أثناء التصوير، وليس في المونتاج؟

أنجلوبولوس: كلا، أثناء التصوير. أو قبل يوم من تصوير المشاهد. أو ساعتين قبل التصوير. إلهام يهبط! حل ينزل من السماء!

س: هل يمثل كل مشهد مشكلة بعينها؟

أنجلوبولوس: هناك دائمًا مفتاح، مفتاح يفتح المشهد. وعليك أن تجده. أحيانًا لن تعثر عليه. ضمن ملاحظاتي بـ”الممثلون المتجولون”، كانت هناك ورقة بيضاء فارغة تقريبًا. كل ما كانت تشير إليه كان “1939 – 1952”. حيث لم أكن أعرف ببساطة كيف أعبِّر عن انقضاء تلك الفترة على هيئة صورة واحدة. أخيرًا وجدت الحل قبل يوم من التصوير

س: هل ما زلت تشعر، على الرغم من هذا، أن الكتابة أكثر سهولة؟

أنجلوبولوس: الكتابة أكثر سهولة. أولاً، أنت بمفردك. بإمكانك وضع صفة، أو استبعادها. لكن في التصوير، كل عنصر تقوم بحذفه أو إضافته يتطلب تفكيرًا مليًا وقرارات. إضافة إلى أنه، عند الكتابة لا تكون هناك وجوه، ولا ممثلون، ولا مؤدون، ولا أشخاص. الحالة والتوترات وقت التصوير، والظروف، إحساس ذلك الصباح بالذات. كما رأيت في هذا الصباح، بسبب المشهد الخاص بـ “برونو” والسيارة، البلدة بأكملها كانت في حالة من الهياج ضدنا، لأنهم كان عليهم ترك طريق مواصلات رئيسي من أجلنا، الغضب، التأخير… علاوة على ذلك، كل لحظة من الوقت لها طبيعتها الخاصة بها، إحساسها المتفرد المستقل. الطبيعة وأحوال الطقس غير المواتية، كمثال، التي لا تلائم مشهدك وليس بالإمكان ضبطها.

العزلة الرائعة

س: وبالطبع، حقيقة أن العزلة الرائعة الخاصة التي من صميم عملية الكتابة لا تكون متوافرة وقت التصوير.

أنجلوبولوس: نعم، أنت مُعرّض لكل هؤلاء الناس، وتحتاجهم، ليس بإمكانك عمل سينما بمفردك. لكن هذا بالطبع يجعلك أيضًا على اتصال بنوعيات هؤلاء الآخرين، وبنقائصهم. ما الذي يعنيه هذا حقًا، “المشاركون”؟ إنها كلمة يمكن أن تعني أشياء مختلفة من لحظة إلى أخرى.

س: لذلك فيما يتعلق بهذه النقطة أنت تكون محاطًا بكل التحالفات والمصالحات المعتادة للتصوير.

أنجلوبولوس: نعم، لست بمفردك على كل حال. كثير من الأشياء كانت في المتناول عندما كنت تكتب، والتي يجب عليك الآن، فورًا ودون مساعدة، أن تبت فيها وتحسمها. لهذا السبب أنا الآن أحب الكتابة – في وسعك تخيل كل شيء، تستطيع ابتكار أي شيء، إبداع عالم بأكمله وفق هواك. 

س: هؤلاء هم المخرجون الذين رفضوا دائمًا أن يعتبروا الفيلم شكلاً أو قالبًا فنيًا إبداعيًا لأنه لا يسيطر عليه شخص واحد بمفرده. اليوم، مع الأجهزة الرقمية (الديجيتال)، يشعر هؤلاء المخرجون أن من الممكن أن يصبح الفيلم “مرة ثانية” شكلاً فنيًا، لأن بمقدور شخص بمفرده – في تصورهم – القيام به كاملاً. عندما لا تتمكن من القيام بكل شيء بمفردك؛ فأنت مجبر على الدخول في نوع من المساومة، لذلك فإنه في الغالب يكون من حيث الدقة أقل إبداعًا ونجاحًا عما كان في تصورك. هل تؤمن بالطرق والأساليب الجديدة؟ هل تعتقد أنه عن طريقها قد يصبح هذا الفن الفردي الحقيقي الأصيل ممكنًا “ثانية”؟ أم ربما تشعر أنه ينقطع عن أن يكون أملاً ممكنًا؟

أنجلوبولوس: اعتاد “تروفو” القول إننا أكثر ذكاء مما ننتجه. قال أيضًا – في ضوء شعورنا بتعذر اجتناب الحتميات – تصبح المسألة عندما تنجح في خلق كل شيء بالطريقة التي تخيلتها عليها مثل مسألة الفوز بالياناصيب. لكن معارضة الظروف لك تطاردك طوال حياتك. في الحقيقة، بمرور الوقت تصنع نوعًا من التصالح مع الظروف المعارضة، مع العقبات المتعذر اجتنابها. تتقبل أفلامك عن طيب نفس أكثر. إن وقت المعاناة هو وقت إخراج الفيلم. وعقب ذلك فورًا، عندما تعرض الفيلم في مهرجان، على سبيل المثال، أو تطرحه لأول مرة أمام الجمهور، فإن الأمر “عادي”.

س: هل هذه اللحظة، هي التي يكون الفيلم فيها، بالنسبة لك، قد انتهى؟

أنجلوبولوس: لا. ما ينتهي هو علاقتك بالآخرين. علاقتك الخاصة بالفيلم نفسه لا تنتهي في تلك اللحظة. إذا نظرت في وقت ما، في فترة مناسبة، إلى فيلمك بمفردك، عندئذ تعرف إن كان سيمكنك الدخول معه في حالة سلام، أي أنك ستقبله بالطريقة التي صنعته بها أم لا.

س: هل أحسست في أي وقت بسعادة مع فيلم قمت بإخراجه؟ أي أنك قد أقمت سلامًا معه؟

أنجلوبولوس: كما تعرف، قلما أشاهد أفلامي. وعندما أفعل، بالطبع أرى على الفور أشياء لا تعجبني، أشياء كان بإمكاني تنفيذها بشكل مختلف. لكن هناك أفلامًا لم أسعد بها في بادئ الأمر، تلك التي حافظت على وجودها أو حياتها الشخصية بشكل بطيء، وهي تلك الأفلام التي أحبها الآن بشكل أفضل، على سبيل المثال، “منظر في السديم”: أجده واحدًا من أفضل الأفلام المتميزة التي صنعتها – في الحقيقة، يعجبني هذا الفيلم.

س: وأنت لم تقم بعمل هذا الفيلم من بنات أفكارك وحدك، وإلا كنت قد عرفت قيمته في وقت سابق. ربما العقل شكل من أشكال الإعاقة…

أنجلوبولوس: أنت تعرف، كل شيء هو مصدر إعاقة. طالما نتحدث عن الأشياء التي تعين الفنان أو تعوقه، كيف يكون الوعي بعملية الإبداع في واقع هذا الوعي.

س: أو كيفية الوعي باختيار الموضوع؟

أنجلوبولوس: تقصد لأنني قمت بعمل ثلاثة أفلام عن الحدود، كانت الحدود فيها هي الموضوع الرئيسي؟

س: أقصد أن اختيار موضوع، أيضًا، هو شكل من أشكال الانحصار والتقيد. على خلاف بعض القيود، أعني القيود التي تفرضها على نفسك.

أنجلوبولوس: الحدود بالنسبة لي ليست مفاهيم جغرافية، وأنا لم أقصد أن هناك حدودًا بمعنى حدود فنية، فوق ذلك… الحدود ببساطة هي تقسيمات، بين هنا وهناك، بين الآن وفيما بعد. في هذا الفيلم سؤال حول الفاصل بين الحياة والموت. إنه فاصل درامي: رجل يحتضر، في يومه الأخير. كيف تجتاز يومك الأخير؟ ما الذي يمكن أن يحدث بعد لنا؟ ما الذي سنفعله بالساعات المتبقية؟ هل ستفكر في حياتك التي عشتها؟ أم ستسمح لنفسك بالانسياق في الحياة، وتُعرِّضُ نفسك لكافة المصادفات الاعتيادية، تتابع شخصًا ما، تفتح النافذة، تقابل شخصًا جديدًا، تترك نفسك لتنفتح على كل ما يجيء، على الأشياء غير المترابطة التي تأتي معًا دفعة واحدة، والتي تغدو عندئذ مترابطة، رغم كل شيء؟

لقطة ثانية من فيلم “الأبدية ويوم”

س: في تلك الحالة، هل يتجسد ذلك في الالتقاء بهذا الولد الألباني ماسح زجاج السيارات؟ هذا الولد المختطف والمُباع، والذي تتحمل مسؤوليته فجأة، دون أن تعرف السبب، وما إن كنت على صواب في تحمل هذه المسؤولية؟

أنجلوبولوس: نعم، ما الذي يمكن أن يحدث في مثل هذه المقابلة؟ ما الذي ستسفر عنه؟ ربما كل شيء؟ وربما لا شيء. الآن، في عمري هذا، أعتقد أنه من الضروري تكريس قدر من التفكير للتأمل في الموت. لإعادة اكتشاف الحياة. لرؤية الحياة من منظور جديد، لبلوغ الإحساس بأنك صنعت سلامًا مع فكرة الموت.

علاقة جدلية

س: هل هناك علاقة جدلية بين يوم هذا الرجل المحتضر وحياته السابقة؟

أنجلوبولوس: إنه شخص ظل طوال حياته يفكر في نفسه، وفي عمله، ومهنته، وامرأته، وقصائده…

س: إنه شاعر. هل استندت هذه القصة على شخصية حقيقية؟

أنجلوبولوس: شاعر ومؤلف. مشهور جدًا في اليونان. لكنه ليس فيلمًا عن رجل موجود بالفعل أو كان له وجود. إنه ليس شخصية حقيقية. خسر حياته لأنه لم يتعلم أن يدرك أنه مع آخرين. لم يدرك القيمة الحقيقية لوجود الآخرين في حياته، الآخرين عمومًا.

س: ما الذي أخفق في رؤيته؟

أنجلوبولوس: لم يفهم المعنى الحقيقي الأصيل والصادق للاتصال، لم يأخذ الوقت الكافي لرؤية الآخرين حقًا، لمعرفتهم بصورة فعلية حقيقية. في الفيلم ترى أيضًا يومًا من أيام حياته الماضية.

س: الفيلم إذن يتكون من يومين، اليوم الراهن ويوم في الماضي؟

أنجلوبولوس: نعم. اليومان متداخلان متشابكان، بطريقة ما. ترى علاقته مع امرأته، التي تمثل علاقته بالماضي، وعلاقته مع الولد الصغير الذي التقاه في إشارة المرور، والذي يمثل اليوم الحاضر. ثم ترى سلسلة من التوديعات.

س: إذن الحدود، في هذا الفيلم، ليست حدودًا طبيعية. لا دخل لها بحقيقة أن الولد الصغير لاجئ ألباني عبر الحدود من دولة إلى أخرى؟

أنجلوبولوس: لا، لا. إنها الحدود بين الحياة والموت، بين هذين الحدين المطوقين لنا.

س: هل الفيلم أو جزء منه مستند على بعض الأساطير أو الشخصيات اليونانية؟

أنجلوبولوس: فقط حقيقة إننا نتعامل مع مؤلف وشاعر، بمعنى آخر، شخص يتعاطى الكلمات. يروي “ألكسندر” في الفيلم للولد الصغير قصة الشاعر الآخر، وهذا الشاعر شخصية وطنية مشهورة في اليونان. “ديونيسوس سولوموس”، الذي وُلِدَ في “زاخينتوس” لكنه نشأ في إيطاليا، وكان عليه فيما بعد أن يعيد إلى حد بعيد اكتشاف يونانيته. لذلك وجدناه عندما يعود من إيطاليا يشتري تلك الكلمات اليونانية التي لا يعرفها، والتي يجلبها الناس إليه. لأنه كان في الثانية والعشرين من عمره، حال عودته إلى وطنه وهو يريد كتابة قصائده باليونانية. كان هذا في حوالي عام 1818، عندما كان التمرد اليوناني ضد الأتراك في مرحلة التحضير له، في بدايته، وأراد المشاركة فيه عن طريق شعره، على الطريقة الرومانسية لعصره. دوَّنَ في دفتر ملاحظات صغير الكلمات التي كان يسمعها. كانت لديه فكرة على طريقة “دانتي” عن إعادة توحيد اللغة اليونانية. كانت اللغة بالنسبة له تعني الحرية. ليس كـ “هايدجر”، الذي قال إن اللغة وطننا. حاول “سولوموس” الكتابة في القالب اليوناني الذي اشتق منه كل الشعر اليوناني فيما بعد، مثلما فعل “دانتي” في اللغة الإيطالية. في ذلك الوقت لم يكن من اللائق الكتابة بلغة الناس البسطاء.

س: هل كان الشعر نخبويًا؟

أنجلوبولوس: نعم، بالضبط. وحاول “سالوموس” محاربة هذه الفكرة ويعتبر اليوم مُجددًا. في ذلك الوقت لم يكن أمرًا مستساغًا الكتابة بغير اللغة اليونانية التي نطلق عليها اليوم “كاتاريفوسا”. كتب “سولوموس” بما ندعوه اليوم “الديموطيقية”، لغة الشعب.

س: وكيف تدخل هذه القصة في الفيلم؟

أنجلوبولوس: قمت بتوسيع القصة بعض الشيء، قمت بدفعها أو بزحزحتها قليلاً. عندما كنت أكتب هذه القصة في مخطوطتي، اعتقدت أنها القصة الحقيقية للشاعر. أقصد، أنه أعطى إلى كل شخص جلب إليه كلمة لا يعرفها، قدرًا من المكافأة، وبالتالي فهو نوع من شراء الكلمات. كان يقال إن الناس الفقراء جاؤا إليه في كثير من الأحيان ليبيعوه الكلمات، كنت متأكدًا جدًا من هذه الحقائق لدرجة أنني حكيت كيف أنني قمت بوضعها في مخطوطتي إلى أحد المتخصصين في شعر “سولوموس”، شخص على دراية بأعمال “سولوموس”، كان مشدوهًا: القصة ليست صحيحة على الإطلاق. قال”من أين لك بهذه الفكرة المجنونة؟” والحقيقة أنني لا أتذكر أين سمعتها. صحيح أنه جمع لغة الشعب، إلا أنه ليس صحيحًا أنه دفع فعلاً ثمنًا للكلمات. ولأنه كان عليّ تطويرها في مخيلتي، ونظرًا لأنها بدت لي فكرة شاعرية جدًا، أبقيتها كما هي.

س: كيف أدخلت كل هذا في قصة “ألكسندر”؟

أنجلوبولوس: عندما رأى الولد الصغير أن “ألكسندر” حزين، ولكي يواسيه كان يجلب إليه كلمات جديدة اكتسبها من الشارع بنفسه. كان يندس وسط العامة ويعود كل مرة بكلمة جديدة. يُسرع بقول الكلمة إلى “برونو”، ويدفع له “برونو” شيئًا مقابلها. صارت هذه الآلية مثل لعبة بينهما. ومن بين هذه الكلمات هناك ثلاثة، ستظل معه حتى نهاية الفيلم، الكلمات التي تعبِّرُ حقيقة عن جوهر الفيلم، كما لو أن حياته برمتها هي انعكاس لهذه الكلمات الثلاثة. الكلمات هي “كارفوولاما”، وهي كلمة حساسة مرهفة، والترجمة الدقيقة لها شيء يشبه “قلب الزهرة”، لكن في اللغة اليونانية تستخدم للتعبير عن شعور الطفل وهو نائم بين ذراعي أمه. إنها نوع من الكلمات الموروثة عن الجدات، والتي التقطها بنفسي، هنا في “سالونيك”، على الشاطئ.

س: والكلمتين الأخريين؟

أنجلوبولوس: الثانية كلمة عرفتها من بحّار عجوز، كان يدعى”بايروت”، هو الذي جلبها لي. إنها كلمة مهجورة ومنسية تمامًا اليوم، “كسينيتيس”، التي هي اشتقاق من الجذر الذي يعني الغربة، وتعني “الغريب” الذي هو غريب في كل مكان وأي زمان. “كسنوس” كلمة يقصد بها الغريب في مكان بذاته، لكن “كسينيتيس” تعني الشخص الذي يجد نفسه في حالة وجود أو كينونة مغتربة، وهي تصف الإحساس بكونك غريبًا دائمًا، أو شعورًا بالمنفى.

ثلاث كلمات

س: تلك إذن الكلمات التي تصاحب كل مسار حياته. بأية كلمة ينتهي الفيلم؟

أنجلوبولوس: بالكلمة الثالثة “أرجاثيني”، وتعني وقتًا متأخرًا جدًا من الليل.

تلك هي الكلمات الثلاثة التي يعثر عليها “برونو” أثناء لعبته مع الولد، والتي هي في الوقت نفسه تُعلِّق بطريقة أو أخرى على الحياة التي عاشها. إنها الكلمات الثلاثة التي يتركها الولد معه عندما يرحل، والتي ترمز لطريقه أو مساره، وتلخص حياته.

س: هل تريد القول إننا دائمًا ما نبقى غرباء عن أنفسنا؟

أنجلوبولوس: ليس بالضرورة عن أنفسنا، لكن بطريقة أو أخرى، نعم. على سبيل المثال، أشعر بشكل ما أنني كالغريب في اليونان. أعيش هنا في حالة كما لو أن وطني ليس هنا، كما لو أنه ليس وطني. يرجع هذا إلى أو ينبع من الكلمات التي قالها “ماستروياني” في فيلمي “خطوة اللقلق المعلقة”: عبرنا الحدود لكننا لا نزال هنا… كم عدد الحدود التي ينبغي عليك اجتيازها للوصول إلى الوطن؟

س: في أفلامك هناك في أحيان كثيرة مشاهد حيث الناس منفصلين بواسطة نهر، وكل منهم باق في جانبه. في أغلب الأحيان، على أية حال.

أنجلوبولوس: ذلك بشكل رئيسي في أفلامي الثلاثة الأخيرة.

س: هل هذا لأنك أنت نفسك تشعر بأنك مدفوع أكثر فأكثر إلى موقف كالذي عبَّرَ عنه “ماستروياني” في “خطوة اللقلق المعلقة”؟

أنجلوبولوس: أشعر أكثر فأكثر بأنني الرجل الذي توقف عن فهم الأمر كله، عن فهم الجميع. ومن ناحية ثانية لا أشعر بأنهم يسيئون فهمي، وهذا مهم جدًا. سأخجل لو أبقيت على هذا الجمود. هناك ببساطة أمور أكثر فأكثر لا أستطيع فهمها، أنا فقط. لكنني أواصل المحاولة لكي أفهم، حتى في الحالات التي أرى فيها أن الآخرين قد توقفوا عن هذه المحاولة. أو في الحالات التي يجد الآخرون فيها أن الفهم بسيط. بالنسبة لي الفهم الأكثر عمقًا للأشياء يصبح صعبًا دائمًا. هذا هو عملي كمخرج: إنك تصنع فيلمًا لكي تدرك بوضوح شديد ما هو ليس واضحًا في وعيك.

س: هل هذا هو المنطلق الذي تبدأ منه؟

أنجلوبولوس: نعم.

س: لذا يمكننا القول ثانية إن أفلامك كلها هي عبارة عن بحث؟

أنجلوبولوس: نعم، لهذا فهي دائمًا عبارة عن رحلات. حتى لو كان الفيلم، كهذا الذي أصوره، تدور أحداثه في مدينة واحدة. بالنسبة لي كل فيلم ترحال، كل شيء رحلة، بحث. اكتسب المعرفة أثناء الرحلة. أعتقد أنني أثناء رحلاتي استطعت فهم أشياء بعينها، تلك التي بدون السفر – السفر بمعناه الواسع – لم يكن ممكنًا أن أفهمها أبدًا، لذلك في النهاية، ورغم كل شيء، أعتقد أنني فهمت الكثير فعلاً.

س: هل تعتقد أنه أثناء رحلة حياتك فهمت الأشياء دائمًا بشكل أفضل، أم أن فهم كل الأشياء لا يكون بشكل تام؟ ما الذي يتزايد؛ المعرفة، الشفقة، أم الحيرة؟

أنجلوبولوس: هذا يتوقف على الموضوع. إن كنت ستتحدث معي عن السياسة، على سبيل المثال، فسوف يتعين عليَّ أن أقول لك إنني طوال الوقت أفهم بشكل أقل وفي النهاية لا أفهم شيئًا. بالمناسبة، أعتقد أن تلك هي الحالة التي عليها معظم الناس. أو على الأقل حالة الكثيرين منهم. لكن إن كنت ستتحدث معي حول العلاقات الإنسانية، فليس هناك ما يُفهم أو لا يُفهم. الأشياء مثلما هي عليه. عليك أن تتقبل العلاقات الإنسانية كما تجدها عليه. بنقاط ضعفها، لحظات بهجتها، لحظات ألمها. الشيء الوحيد الذي تتعلمه، قد يكون، الأسف أو الندم على أنك في لحظات بعينها لم تترك نفسك لتمضي قدمًا أكثر، وأعمق.

كان أنجلوبولوس غبقريا في التعامل مع الأطفال في أفلامه

س: تعلمنا كأطفال ألا نترك أنفسنا أبدًا تنطلق…

أنجلوبولوس: بالضبط. أعتقد أن ذلك الشكل من التعليم يسلب منا عواطفنا الجياشة، وقدرات تأقلمنا مع الحياة. نصبح أكثر صلابة أو جمودًا مع الحياة في حقيقة واقعها. نحاربها وبأساليب خاطئة، إنها حماية ذاتية خاطئة. نحن مشبَّعون بالانسحاق – “طفولتي”، “شبابي” – ولكي نتخلص من تلك الانسحاقات في أرواحنا نحتاج وقتًا، وقتًا طويلاً. ناهيك عن الأشياء التي تجيء إليك والتي لا يتوفر لديك وقت لتجربتها. أشياء مثل هذه ضائعة بالنسبة لك. ولربما تكون على الأغلب، هي الأشياء الأكثر أهمية والتي تصبح، بهذه الطريقة، مفقودة بالنسبة لك.

س: من كلماتك الثلاثة، اثنتان تُعبران عن الشعور بدفء الأم وحقيقة شعور المرء الدائم أنه غريب في الحياة. ما هو الإحساس المُعبّر عنه بالكلمة الثالثة “أرجاثيني” أو “وقتًا متأخرًا جدًا من الليل”؟

أنجلوبولوس: ترمز الكلمة الأولى إلى كل ما ومن هو مُحبّب، وحميم، مع أي ما كان، أمك أو حبيبتك. الثانية تعبر عن الجانب الوجودي للقصة. حالة الروح. الثالثة تعبر عن الزمن.

س: عدونا؟

أنجلوبولوس: في فيلمي، الزمن هو التيمة الرئيسية. كما قال “هيراقليطس”: “ما الزمن؟ إنه هذا الطفل الصغير الذي يلهو بالحصى على طرف البحر”. “أرجاثيني” هنا تعني أن الوقت قد فات، بعد المقابلة القصيرة مع الولد، والتي هي من الأهمية بمكان، الآن، لإدراك هذه الحقيقة. فوق ذلك، كانت الكلمة نفسها أيضًا هدية من الولد. نرى في الفيلم أيضًا تجارب أخرى قصيرة للرجل، ويتولد لديك إحساس أن الرجل مكوّن ومُشكّل من هذه التجارب القصيرة فقط، باستثناء تجربته الحياتية الأخيرة الحقيقية هذه.

س: التي جاءته الآن متأخرة جدًا؟

أنجلوبولوس: نعم، تلك، أيضًا تأتي متأخرة جدًا. لأن كليهما راحل مغادر. هناك وداع الولد، الذي يقوم بإخفاء نفسه في حاوية لمحاولة دخول الولايات المتحدة بشكل غير قانوني، ووداعه الشخصي الخاص مع نفسه، على الأقل هذا الوعي الذي ينشأ عنده بحتمية الرحيل بشكل حاسم.

س: هل يموت في نهاية الفيلم؟

أنجلوبولوس: لا، لا. يكون عليه الدخول إلى المستشفى لكنه يرفض الدخول. إنه بهذا يرفض النهاية “الطبيعية العادية”.

س: مشاهدتك أفلامك الواحد تلو الآخر، هل تجد هناك ميلا عامًا، ربما إلى المزيد من التشاؤم، أم ربما نحو العكس؟

أنجلوبولوس: أعتقد حقيقة أن التطور يتجه نحو العكس، أو بالتأكيد ليس صوب تشاؤم هائل. وحقيقة إن شخصياتي لا تقبل التصور العقلاني تعكس أو تبرز المرة الأولى التي تسمح فيها هذه الشخصيات لنفسها بالانطلاق. للمرة الأولى نراه لا يمضي في الاتجاه نفسه الذي يمكن لشخص آخر أن يدخله لو كان مكانه.

س: على أية حال، أنت لا تلوم المجتمع بل الفرد.

أنجلوبولوس: السياسة، تقصد؟ إن المعركة دائمًا معركة الذات، الذات ضد أي شيء غير عادي وظالم ولا يمكن التنبؤ به. لابد أن يحارب الفرد دائمًا ضد كل الأشياء في هذه الحياة، لأن هناك وهمًا بأن ثمة معنى، وهدف. لكن بالفعل ليس هناك معنى، لا فائدة. المعركة هي الحياة نفسها. أنا لم أعد أتعامل مع السياسة، مع التعميمات. أقلعت عن فهمها.

س: هل صناعة الأفلام، إذن، بالنسبة لك، شكل من أشكال الشعر، بمفهوم “السينما الشعرية” عند “بازوليني”، كتواصل مع “سينما النثر” عند “أنتونيوني”؟ برغم كل شيء، أرى اهتمامك العميق منصب على الأدب والشعر.

أنجلوبولوس: هذا سؤال كبير جدًا. أشعر ببساطة أنني كنت محظوظًا بما فيه الكفاية لكوني قادرًا على صناعة الأفلام التي أردت إخراجها. الآن، في هذه المرحلة من حياتي، تقتصر حياتي فقط على علاقتي مع الأشياء التي قمت بعملها. لا أتوقع شيئًا. ولا حتى من السينما نفسها (ولنلتزم الصمت فيما يتعلق بمسألة التمويل – فقد كانت دائمًا مسألة مأساوية). عندما أقول إنني لا أتوقع شيئًا، أعني، على سبيل المثال، عدم توقعي ردود أفعال، لا من النقاد ولا من المهرجانات – ولا من أي شخص، أقبل اللعبة التي يتم القيام بها فيما يتعلق بالتحرر أو التحرير، لكن جوهريًا فإنها لا تثير اهتمامي. ما يتطور دائمًا بشكل قوي هو علاقتي بعملي ذاته وبإمكانيات التعبير. هذا طريقي، البحث عن الكلمات، تلك الكلمات القليلة التي بوسعها التعبير عن واحتواء كل ما قمت بعمله، بل وحياتي نفسها، والتي ستكون الكلمات التي سأتركها بعدي يومًا ما.

س: هل تصنع الأفلام لشخص بعينه؟

أنجلوبولوس: سأعهد إليك بصيغة معروفة جدًا لـ “بورخس”، الذي قال: “أكتب لنفسي، لأصدقائي، مهما كانوا قليلين أو كثيرين، ولتمضية الزمن الذي يتدفق”.

¨نشرت هذه المحاورة في كتاب بعنوان “ثيو أنجلوبولوس: حوارات”، الصادر في السلسلة الشهيرة، “حوارات مع المخرجين”، في عام 2001 – المترجم

Visited 40 times, 1 visit(s) today