الريحاني في مَهَبّ الرصاص
هنا عرض لكتاب “مذكرات نجيب الريحاني” الذي حققه وقدم له شعبان يوسف. الريحاني ذلك الضاحك الباكي الذي انبثق من رحِم المسرح الذي كان يتنفس صوت الجماهير؛ كان لا يستطيع أن يحيا دون أن تمتلئ عيناه بضحكات جمهوره؛ ماعدا ذلك كان وطنياً. وكما يقول الكاتب صمويل جونسون “الوطنية في بعض الأحيان تُصبح ملاذاً للأوغاد”.
لم يكن نجيب الريحاني من ضمن هؤلاء، فهو لم يكن ينتظر شهرةً أو اطراءً جراء اعمالةِ النضالية التي تمثلت على المسرح- سلاحةُ الوحيد- الذي يُعبر بهِ؛ بالرغم أنه ولد لأب عراقي وأمٍ مصرية/ فقد كان مزاجه مصريا خالصا.
كان “نجيب” من رواد المسرح المصري المُعبرين عن انسحاق المواطن المصري وتجسيد معاناتةُ من قسوة الحياة عليه على المسرح داخل إطار كوميدي يزيل الهم ويرسم البسمة على وجه المواطن المصري البسيط.
وإذا كان نجيب محفوظ، قد عبر عن المواطن المصري وكل معاناتة في رواياتة؛ فقد عبر نجيب الريحاني عن المواطن المسحوق في مسرحه.
رصاصة على المسرح
لم تكن الكوميديا هي النسبة الأكبر من ماء جسدةِ الفني الذي يعيش عليه ولكن كان يتخللة عظام الوطنية في داخلةِ أيضا ً، وقد عبر عن واجبةُ الوطني حين قال: كلما خلوتُ بنفسي وحاسبتها على ما أديت للفن؛ من خدمات تستحق أن توصلني إلى ذروة الشهرة التي اعتليتها، وإلى أفق الصيت الذي لا يحد مداه، أقول إنني كنت أحاسب نفسي، فأجد أعمالي كلها من الناحية الفنية صفراً على الشمال! وليس لها من قيمة إلا ما فعلت في الأفئدة من إشعال جذوة الوطنية بين الجماهير”.
وقد لاحظ الريحاني أن إقبال الطبقات الراقية على الأجبسيانة” (مسرحه في ذلك الوقت) كان بالغاً أشده، حتى أن الكثيرين كانوا يحجزون مقاعدهم قبل موعد التمثيل بأيام.
وحين رأى من الجمهور المثقف، ومن عامة الشعب، مثل هذا الإقبال المنقطع النظير، رأى أن يستغلةُ استغلالاً صالحاً وأن يوجههُ التوجيه النافع، فأخذ يُنقب عن العيوب الشعبية، ويبحث عن العلل الاجتماعية التي تنتاب البلاد. ثم ضمن ألحان الروايات ما يجب عن علاج ناجع لمثل هذه الأدواء. كذلك راعى في كثير من هذه الالحان أن تكون أداة لأيقاظ شعور الجمهور وتعويده حب الوطن واعلاء شأنه في روح كل مواطن مصري.
لم يتوقف أعداء النجاح وخصوم الريحاني عن بث السُموم والهجوم عليه وعلى نجاحه، فكان يُهاجم في الصُحف يوميا، بسبب هذا النجاح المنقطع النظير.
(في ذلك الوقت، ظهرت طوائف «البلطجية» الذين كانوا يحومون حول أولاد الذوات من رواد مسرحنا، كالاستاذ “علي كامل فهمي” وأمثاله من الشبان الوارثين والسراة. وقد شاءت دناءة بعض حساده أن يتخذوا من أولئك البلطجية أداة لحربةِ وقد كانوا يثيرون القلاقل، ويقومون بمشاجرات عنيفة داخل المسرح وأطلق أحدهم على ” نجيب ” رصاصة مسدس أطلقت علية أثناء التمثيل … ولكن الله سلم!
الريحاني دسيسة إنجليزية
استدعى نجيب الريحاني المخرج عزيز عيد وأشار إليه بتأليف فرقة تجمع بعض البارزين من الممثلين ثم صمم على أن يتخذ لها مسرحاً مستقلاً، فاستأجر ” كازينو دي باري”، وكانت قيمة الإيجار ألفي جنيه في العام.
وكان قد قرأ رواية فرنسية أعجبته اسمها «اللحية الزرقاء»، فأتفق مع الكاتب محمد تيمور بك على أن يقتبسها ويمصرها. ثم عهد إلى الأستاذ بديع خيري في وضع أزجالها، وإلى الشيخ سيد درويش بتلحين هذه الأزجال. فأثمرت جهود أولئك الفطاحل عن الدرة التي أُطلق عليها اسم “العشرة الطيبة”.
كان ” اوبريت العشرة الطيبة ” تنتقد حكم الاتراك في معاملتهم القاسية للمصريين ولكن بطريقة إبداعية.
جملة من الأوبريت:
(عشان ما نعلا ونعلا ونعلا لازم نطاطي نطاطي نطاطي).
وكان ” نجيب” منتج مُنفذ ولم يشارك فيها. وتم الهجوم على نجيب الريحاني باعتباره “دسيسة إنجليزية” وجب قتله، وقام خصومهُ باشاعة أن القصد من عرض رواية «العشرة الطيبة» هو تجسيم مساوئ الأتراك في معاملة المصريين، وتقريب الإنجليز لقلوبهم. واعتبار الريحاني خائنا ينافق الإنجليز على حسابِ الاتراك ووجب قتله.
في الساعة الحادية عشرة من مساء إحدى الليالي جاء الصحفي مصطفى امين (وكان قبل ذلك شريكاً للأستاذ علي الكسار في فرقة كازينو دي باري) إلى منزل الريحاني يلهث من التعب ويقول: انج بنفسك يا نجيب فإنك الليلة مقتول لا محالة!
كيف؟ وبيد من؟ ومن الذي يفكر في إعدامي؟ قال: «هم مواطنوك المصريون.
وقد حدث أن أحد خصوم الريحاني وقف على منبر الازهر حيث كان هناك اجتماع حافل تبودلت فيه الخطب الحماسية التي سممت الأذهان بأن “نجيب” دسيسة إنجليزية وأن السلطة العسكرية الإنجليزية قد امدتةُ بالمال لتلهي الشعب عن الوقوف أمامهم .
وهرب نجيب مع صديقتة ” لوسي فرناي ” إلى إحدى غرف «هليوبوليس هاوس» وبقي في هذا الفندق عدة أيام لم تشغلةُ فيها مخاوفةُ عن واجبةُ الوطني، فقد كان يذهب إلى المسرح في كل صباح، فيجمتع بالممثلين والممثلات ويتابع شئون روايته بنفسه كل يوم الى حين استقرت الأمور وتجاوز ازمة محاولة قتله.
الريحاني في رِحاب الدراما
في عام ١٩٢١ حدث حدث زلزال في نفوس المصريين الرعب والهلع بأن هناك امرأتين وبمساعدة رجُلان آخران يقتلان النساء و يقوموا بإستدراجهم ثم سرقتهم ثم قتلهم ودفنهم تحت منزلهم ولم تكن مصر قد عهدت مثل تلك الجرائم من قبل وكانت حديث الساعة عن تلك المرأتين التان يُعلمان الشيطان كيف تُدار الأمور على الأرض
وقد استفز ” نجيب ” هذا الحدث واراد تمثيلةُ على المسرح ولكن كيف وهو يعرض الكوميديا فقط … واعتقد بأن هناك حُلم يُطارد كل فنان كوميدي بأنه يستطيع أن يقوم بالادوار الدرامية مثل نظيرة في الأدوار الكوميدية بل افضل وكما كان يقول ” الريحاني ” في مذكراتة :
لقد خُلقت للدراما
ونزعة الدراما تلك اعتبرُها فيرس يسكن ادمعة رجال الكوميديا وكذلك عندما عبر ” تشارلي تشابلن ” إخراج دوري نابليون وهاملت وصرح بأنه سوف يكون المجلي فيهما … هل هو بحث عن الكمال داخل نفسيه الكوميدان أو إثبات شئ ما للجمهور …؟
وخاطر ” الريحاني ” بتقديم عرض ” ريا وسكينة ” على مسرح ” برنتانيا ” وفاق نجاحها كل حد حتى كان يسمع ” نجيب ” صوت نحيب وبكاء الجمهور وهو على المسرح وكما قال في مذكراتة عندما سمع أحد الجمهور يقول
بزيادة بقى.. قتلتونا يا ناس…
وقام ” الريحاني ” بتمثيل هذه الرواية في مدينة (يافا)، وكان أحد المشاهد حامياً وكان الحوار بالغاً أشدهُ على المسرح ، حتى تقدم ” الريحاني ” من الفريسة وأطبق عليها أصابعهُ حول عنقها وهي تتلوى كالطير يرقص مذبوحاً من الألم، سمع ” الريحاني ” صوتاً يدوي من أقصى الصالة صائحاً :دشرها ولاك … العمى بعينتينك.. وأتبع حضرته هذا القول بطلقة من مسدسةِ، كادت تردي ” الريحاني ” على خشبة المسرح وهرب ” الريحاني ” من المسرح مُنجياً بحياته من تأثير نفسية هذا المُشاهد من قوة تجسيد ” الريحاني ” لأداء القاتل على المسرح .
الريحاني كان ليس فنانً تراهُ كل عصر ولكن ترك اثر الفراشة الذي لا يزول كان فنانً مُناضلاً وتحمل عقوبات نضالة كأي وطني تُشعل في نفسةِ نار الوطنية وقد خلع الريحاني لباس الخوف وقام بأرتداء رداء الوطنية والكوميديا والدراما في آن واحد … وكيف أن يؤثر فنان في كل عقود السينما إلى الآن..
الريحاني ” كان يتبع نظرية الكيف وليس الكم .عندما يُذكر امامك اسم اسماعيل ياسين عقلك يُشير إلى أفلامة مع المخرج / فطين عبد الوهاب رغم أن عدد الأفلام التي قام بها إسماعيل ياسين أربعمائة فيلم ، تتذكر منهم افلام معدودة ولكن عند ” الريحاني ” قام بتمثيل ثماني افلام تتذكر منهم سبعة ..وهنا أقول بتأثير الفنان ليس بالعدد الوافي الكثير ولكن بقوة الرسالة الضمنية في محتوى الفيلم والذي يعيش مع المُتلقي دائماً وأبداً .وقبل أن يموت نجيب الريحاني اثر مرض (التيفوئيد) قام برثاء نفسةِ موضحاً ذاتة وأطوار حياتة في بعض كلمات بسيطة.
مات الرَّجُل الذي اشتكى منهُ طوب الأرض وطوب السَّماء إذا كان للسماء طوب.. مات نجيب الذي لا يُعجبه العجب ولا الصيام في رجب… مات الرَّجُل الذي لا يعرفُ إلَّا الصراحه في زمن النفاق.. ولم يعرف إلَّا البحبوحة في زمن البُخل والشُّح.. مات الريحاني في 60 ألف سلامة“.