الرحلة في السينما السعودية

بالرغم من التاريخ القصير للسينما الروائية السعودية، الذي يؤرخ لبدايته بفيلم “ظلال الصمت” الذي أخرجه عبد الله المحيسن عام 2006، إلا أنها تملك من الجرأة ما جعلها تقتحم معظم الأنواع السينمائية بما فيها أفلام الطريق التي تحتاج إلى رؤية تجريبية خاصة تستطيع أن تقدم لغة بصرية معبّرة ومضمونا اجتماعيا أو فكريا يمكنه أن يستحوذ على وعي المشاهد.

وفي هذا السياق قدمت السينما السعودية عدة أفلام تعتمد على تيمة الرحلة، مستغلة البيئة الصحراوية للمملكة والتنوع الثقافي للبشر القاطنين فيها. ولما كانت الرحلة قد تكون خارجية أو داخلية، فقد تراوحت أفلام الطريق السعودية ما بين أفلام طريق بالمعنى الحقيقي وأفلام طريق بالمعنى المجازي، وكثيرا ما كان يختلط المعنيان في سياق من حرية الحركة والرغبة في التمرد اللذين يميزان أفلام الطريق عموما.

ومن هذه الأفلام يبرز “آخر زيارة”- 2019 و”مدينة الملاهي”- 2020، و”سكة طويلة”- 2022.

الفيلم من إخراج عبد المحسن الضبعان، وتأليف فهد الأسطا وعبد المحسن الضبعان، ومن بطولة أسامة القس وعبد الله الفهد وفهد الغريري.

لا يعتبر فيلم “آخر زيارة” فيلم طريق بالمعنى الدقيق، لأن الطريق الحقيقية لا تظهر إلا في بداية الفيلم ونهايته، لكن بالرغم من ذلك تظل فكرة الرحلة مهيمنة عليه، خاصة إذا ما أخذناها بالمعنى المجازي، لأنها، في التحليل الأخير، رحلة إلى الداخل، أو رحلة على مستوى وعي شخصيات الفيلم وتحديدا الأب ناصر والابن وليد.

تدور الأحداث حول الأب الأربعيني، ناصر، الذي يصطحب ابنه المراهق وليد بسيارته لحضور حفل زواج أحد الأصدقاء المقربين غير أن الرحلة تغير مسارها عندما يتلقى الأب مكالمة هاتفية من الأخ الأكبر منصور يخبره فيها عن مرض أبيهما الذي يقضي آخر أيام حياته. وفي قرية تقع جنوب مدينة الرياض، يلتقي الأب والابن بنماذج بشرية تختلف عاداتها وتقاليدها عن عادات مدينة الرياض، وهو ما أثار حفيظة وليد ودفعه للتمرد.

يكشف الفيلم عن العلاقة المتوترة بين الأب والابن، فلغة الصمت هي الغالبة بينهما طوال الرحلة والحوار قليل، ويأتي في الغالب من طرف واحد. وتأتي عقدة الفيلم من الصراع بين رغبة الأب في الانصياع لعادات وتقاليد العائلة ورغبة الابن في التمرد على هذه التعاليم التي يرى أنها تخص الأب وحده.

يجيد الضبعان في تصوير البيئة الريفية والأجواء العائلية التي تنم عن الأصالة والحميمية التي تعكسها حالة الود والكرم التي يبديها أفراد العائلة. كما ينجح في تصوير حالة الفتور التي يعيشها وليد داخل عالم يشعر تجاهه بالتنافر، ويعبّر عن هذا الصدع الكبير في العلاقة بينه وبين الأب وعالمه الذي يرفضه بانغماسه الدائم في هاتفه المحمول، واختيار نوع العزلة الاختيارية يجعله في مأمن من الانخراط في عادات لا يحفل بها.

وعندما يحاول وليد أن يستكشف العالم الريفي المحيط به كأحجية تحتاج إلى تفسير يتعرض مرة للإصابة ومرة للغرق لأنه لا يجيد القيادة ولا السباحة، وهي الحقيقة التي يكتشفها الأب في نهاية الرحلة، أثناء عودتهما بالسيارة، عندما يسأل ابنه عما إذا كان يعرف السباحة!

لا يوضح الفيلم أسباب الجفاء الشديد الذي بين الأب والابن، خاصة من جهة هذا الأخير، لكنك تستطيع أن تستنتج، من خلال الرحلة، أن الإهمال في تربية الجيل الجديد وعدم تأهيله للاعتماد على نفسه قد يكون هو السبب الحقيقي لهذه الجفوة.

يخلص فيلم “آخر زيارة” لواحدة من أهم السمات التي كانت تميز أفلام الطريق الكلاسيكية وهي الذكورة، فلا نعثر على أي حضور للعنصر النسائي في الفيلم، كما أنه ينتمي لتلك الفئة من أفلام الطريق التي تقوم برحلتها سعيا وراء هدف لا هربا من شيء، وهي مسألة تتسق وقضية الجيل الجديد، التي يعالجها الفيلم، الذي ينبغي عليه أن يسعى إلى الأمام لا أن يهرب من شيء ما في الخلف!  

في فيلم ” مدينة الملاهي” يقدم المخرج وائل أبو منصور صورة أخرى من أفلام الطريق تختلف عن الصورة التي قدمها الضبعان في فيلم “آخر زيارة”. فهناك سيارة وهناك طريق، لكن ليس هناك رحلة واقعية مكتملة، فقد تعطلت السيارة في بداية الطريق وعندما حاول مسعود (نايف الظفيري) إصلاحها في أحد الورش التي على الطريق تم الاستيلاء عليها ولم يستطع استردادها إلا في نهاية الفيلم. فالرحلة الحقيقية لم تكن رحلة السيارة على الطريق بقدر ما كانت رحلة الذات تجاه العالم.

وإذا كان الضبعان قد قدم رحلته في قالب اجتماعي محملا بقضية الصراع بين الأجيال، فإن أبي منصور يقدم رحلته في قالب سيريالي غرائبي، محمل بقضايا فلسفية تخص علاقة الأنا بالآخر، والذات بالعالم، وإن كان هاجس البحث عن الهوية هو العامل المشترك بين المخرجين.

يتضح البعد السيريالي منذ اللقطة الأولى من الفيلم التي تصور رجلا وزوجته في سيارة تسير في طريق صحراوي. الزوجان يجلسان في حالة صمت بينما نسمع في الخلفية صوت الدكتور مصطفى محمود وهو يقدم واحدة من حلقات برنامج “العلم والإيمان” الشهير.

الفيلم لا يوضح سبب الرحلة، هل هي سعي نحو هدف أم هروب من شيء ما، لكن الحوار القصير بين الزوجين يكشف أن ثمة مشكلة أسرية ما، تركاها خلفهما، وربما يؤكد ذلك حديث مصطفى محمود عن الانفجار الأول للكون، والثقوب السوداء، والمسافات الضوئية البعيدة، فكلها رموز علمية تصلح لقراءة المشهد الوجودي الذي يعيشه الطرفان.

فالحديث عن بداية الكون فيه إشارة إلى بداية الرحلة، رحلة مسعود وسلمى (ندى المجددي) أو رحلة الإنسان عموما في الحياة، والمسافات الضوئية تعبير مجازي عن الشعور بالاغتراب تجاه الآخر وتجاه العالم الكبير الذي تجسده الصحراء التي تحيط بالسيارة وتكاد أن تبتلعها. كما يمكن فهم تعطل السيارة بوصفه وقفة مع النفس ومراجعة موقفها الوجودي من العالم. وهي وقفة يحتاجها الطرفان، كل على طريقته، وبمعزل عن الآخر. فقد اختار مسعود، كرجل، طريق المواجهة وقرر أن يمضي في طريق البحث عن السيارة المفقودة، التي ترمز إلى الذات الضائعة، واختارت سلمى، كامرأة، طريق التأمل والانتظار وحيدة داخل خيمة صغيرة فوق الرمال.

وبهذا المعنى، نجد أنفسنا أمام رحلتين: واحدة قام بها مسعود في عالم البشر الغرائبي الشرير، والأخرى قامت بها سلمى في عالم الطبيعة الساحر والمخيف في آن. ومن خلال الرحلتين نفهم أن هناك رؤيتين للعالم، واحدة جزئية تهتم بالتفاصيل وهي رحلة مسعود في مدينة الملاهي التي تحولت إلى وكر لممارسة الأعمال غير المشروعة، والأخرى كلية وهي رحلة سلمى التي كانت تراقب الطبيعية من فوق مرتفع رملي بينما تنصت إلى صوت الموسيقى والغناء القادم من خيمة أخرى بعيدة لمجموعة من الشباب المحب للحياة.

إن هذه المفارقة الصارخة بين الرؤيتين هو ما يكشف لنا عن سبب الانفصال في العلاقة بين الزوجين الذي بدا واضحا في بداية الرحلة الخارجية، وهو انفصال لم تنجح الرحلة الداخلية في إزالته، فقد عاد الزوجان إلي سيارتهما كي يستكملا رحلتهما المشتركة على الطريق ذاتها وصوت الدكتور مصطفى محمود يتردد في الخلفية، متحدثا عن قوة الجاذبية التي تحفظ عمارة الكون، بينما ينظر كل منهما إلى الطريق التي أمامه في صمت دون أن نعرف إلى أين ستنتهي الرحلة!

يعتبر فيلم ” سكة طويلة” الذي أخرجة وكتب قصته عمر نعيم من أكثر الأفلام السعودية التي توفرت فيها عناصر أفلام الطريق، فهناك سيارة وطريق مستقيمة وممتدة، وراكبان ورحلة محددة الهوية منذ بدايتها وحتى نهايتها. وما يميز فيلم “سكة طويلة” تلك الازدواجية المكتملة في معنى الرحلة. فكلتا الرحلتين، الخارجية والداخلية، متداخلتان وممتدتان حتى نهاية الفيلم، بل إن إحداهما تدعم الأخرى وتسهم في تفسيرها.

تدور الأحداث حول ناصر (براء عالم) وشقيقته مريم (فاطمة البنوي) اللذين يقرران السفر عبر الطريق الصحراوي الممتد من السعودية إلى أبوظبي بعد إلغاء رحلة الطيران فجأة، لحضور حفل زواج الأب (عبد المحسن النمر) رجل الأعمال الشهير، وفي الطريق يتعرضان لهجوم من قبل رجل غامض يطاردهما بسيارته الجيب طوال الرحلة ويكاد يقضي عليهما.

يأتي الفيلم في قالب إثارة تشويقي، وينجح عمر نعيم في الحفاظ على الإيقاع التشويقي منذ بداية الرحلة وحتى النهاية. ولا يكشف لنا عن حقيقة الخطر الغامض الذي كان يهدد حياة الأخوين ليترك مساحة كبيرة من التساؤلات حول الأسباب التي يمكن أن تدفع البعض للتفكير في القضاء عليهما.

حرص نعيم على تجسيد الرحلة في صورتيها المادية والنفسية. تبدت الصورة المادية في تصوير الطريق أحيانا من منظور عين الطائر، وأحيانا من منظور راكبي السيارة، وأحيانا ثالثة من منظور الرجل الملثم الذي كان يطاردهما من الخلف، كما تبدت ملامح الطريق من خلال الصحراء المترامية على الجانبين ومن خلال كحطة الوقود والمسجد والسوبرماركت على الطريق، ومن خلال الشخصيات التي التقى بها الاثنان في المسجد وفي الطريق وفي عرض الصحراء.

وتبدت الرحلة النفسية من خلال الأثر الذي تركته في نفسيهما تجربة المطاردة المخيفة واقترابهما من حافة الموت. ومن خلال الحوار بين الأخوين نكتشف حقيقة العلاقة المتوترة فيما بينهما، والتي كشفت عن الوجه الأناني لشخصية ناصر الشبيهة بشخصية أبيه، كما كشفت عن العلاقة المتوترة بينهما وبين الأب الذي كان مهتما بنفسه وبمكانته كرجل أعمال معروف، وكيف أن معاملته السيئة للآخرين هي التي جعلتهما هدفا للانتقام من قبل أناس مجهولين.

لقد جاءت الرحلة بمثابة التطهير لناصر ومريم اللذين قررا في نهاية الرحلة أن يحضرا حفل زواج الأب بغير الملابس الرسمية، التي كان يحرص عليها الأب، وإنما بملابس الرحلة الملطخة بالدماء والأوساخ، كنوع من التمرد ضد السلطة الأبوية التي طالما فرضت نفسها، كما امتلك ناصر الشجاعة، لأول مرة، وقدم استقالته للأب وسط المدعوين، في إشارة إلى التحرر من شخصية الأب المصطنعة واستعادته لشخصيته الحقيقية.

أخيرا، يمكننا القول إن السينما السعودية اتخذت من أفلام الطريق وسيلة لطرح العديد من القضايا الاجتماعية والثقافية، وهي قضايا انحصرت في إشكالية العلاقة التي بين الآباء والأبناء أو بين الرجل والمرأة، وفي سبيلها لتحقيق ذلك قدمت أفكارها في سياق تداخل الأنواع بحيث اختلطت أفلام الطريق بأنواع الفيلم الاجتماعي والسريالي والتشويقي، مع غياب تام للفيلم السياسي!

Visited 3 times, 1 visit(s) today