“التطهير: فوضى”..مأساة أن يكون القانون فى إجازة

هذا فيلم ذكى يعرف بالضبط جمهوره وقضيته، ويستخدم أدواته ببراعة فى ضوء الإمكانيات المتاحة (تكلّف 9 ملايين دولار فقط). الفيلم الأمريكى الذى يحمل عنوان The Purge: Anarchy” من إخراج جيمس ديمانكو هو الجزء الثانى من فيلم أنتج عام 2013 عن نفس الفكرة الغريبة: فى المستقبل، ستتيح الحكومة الأمريكية لمواطنيها يوما فى العام يمارسون فيه القتل والعنف وكل الجرائم بدون محاسبة، سيصبح القانون فى أجازة، وسيأخذ رجال إنفاذ القانون (البوليس) إجازة مماثلة، أما الهدف فهو عملية تطهير قصيرة تقلل من الجريمة فى بقية أيام السنة، مجرد فاصل يرتد فيه الإنسان الى حياة الغابة لتفريغ ضغوط الحياة فى شكل عنف صريح، ثم يلتزم بقية السنة، يرجع الى حياة الحضارة!

الفكرة لامعة، ولها أبعاد اجتماعية وسياسية وقانونية، وتتيح خيالا واسعا فى تنفيذها، وقد أعجبنى أن الجزء الثانى نجح فى أن يصنع عملا متماسكا يجمع بين الإثارة والرعب والحركة، دون أن يتغاضى عن طرح أسئلة هامة عن العنف والمجتمع، عن جدوى الإنتقام والقتل، وعن علاقة الأغنياء بالفقراء فى مجتمع يباع فيه كل شئ ويشترى بالمال، ثم عن جدوى يوم التطهير أصلا الذى يباح فيه القتل لمدة 12 ساعة، هل يمكن أن يؤدى ذلك فعلا الى تقليل الجريمة طوال العام؟ لدينا حبكة قوية تضع خمسة أفراد فى الشارع مع بداية طقوس التطهير التى تحولت الى فوضى، كيف سيدافعون عن حياتهم وسط هذا الجنون الذى وافقت عليه حكومة أمريكا فى العام 2023؟

الأجمل أن الحكاية تأخذ شكل اللعبة التى وضعت لها قوانين، تماما مثل مباريات الكرة: هناك وقت لزمن اللعبة، ينتهى بصافرة تدوى فى مدينة لوس أنجلوس (ملعب الأحداث)، وهناك شروط بعدم استخدام عيارات معينة من الأسلحة، وهناك تحذير مسبق لتنبيه غير المشاركين فى التطهير بأن يلزموا بيوتهم قبل وقت المباراة.

تطهير المتفرج

لعل أذكى ما فى الفيلم أيضا أنه لا يسرد موضوعه بشكل مشوق ومتقن فحسب، ولكنه يستهدف كذلك تطهير المتفرج، يجعله يشعر بأنه محظوظ ، ذلك أنه بعيد عن عملية التطهير التى يشاهدها، عندما ينتهى الفيلم يتنفس الجمهور الصعداء لأنه سيخرج من دار العرض ليجد أن القانون ليس فى أجازة، وأنه ما زال فى العام 2014 حيث لا توجد حكومات مجنونة تترك البشر يعودون الى سلوك الغابة العنيف، ولو حتى بحجة واهية هى تقليل الجريمة طوال العام، التطهير يتحول فى الفيلم الى كارثة شاملة، والأمر يظل حتى داخل الفيلم فى حدود اللعبة المحكومة، التى تنهيها صافرة فيتوقف الجميع عن إطلاق النار، وكأنهم فى بطولة دولية تنقلها الكاميرات ومحطات التليفزيون.

نحن إذن أمام سيناريو متقن يستفيد من أفلام الرعب والإثارة والحركة، ويحقق نوعا من التطهير النفسى للمتفرج، يفرّغ شحنة العنف بداخله على الشاشة، ثم يطمئنه أن ما حدث لغيره لن يحدث له، و لدينا أيضا مضمون سياسى واجتماعى عن الآباء الجدد المؤسسين للمجتمع الأمريكى ، وهؤلاء أكثر صراحة فى إيمانهم بالعنف (كان القدامى يستترون وراء شعارات براقة رغم ما حدث للهنود الحمر وللسود على أيديهم)، العنف الحديث سيصل الى درجة محاولة الأثرياء تصفية الفقراء فيما يشبه الإبادة الجماعية، ومعظم هؤلاء من السود.

مراحل اللعبة

يمكن تقسيم الفيلم الى عدة مراحل: الأولى قبل بدء التطهير بنحو ساعتين ونصف، تخبرنا عناوين مكتوبة أننا فى العام 2023، وأن عملية التطهير تتم بشكل سنوى بناء على موافقة الحكومة التى تحكم منذ 9 سنوات، وموافقة الشعب أيضا، وأن هذا التطهير (وفق زعم العناوين) جعل البطالة أقل من 5%، ولكنه جعل المجتمع بلا حرية تقريبا، في هذا الجزء يقدم الفيلم أبطاله الخمسة: ليو (فرانك جريللو) وهو رقيب شرطة يخرج بسبارته للإنتقام من شاب مخمور قتل ابنه قبل عام، و”ايفا” و”كالى”، وهما أم وابنتها تعيشان من رجل عجوز هو والد إيفا وجد كالى، الرجل يعانى من مرض عضال، يرفض تناول الدواء لأنه لافائدة، وهناك كذلك “شين” و”ليز”، وهما زوجان لا نعرف عنها ما سوى أنهما قررا الإنفصال.

فى المرحلة الثانية يتجمع الأبطال الخمسة فى الشارع: ليو يشاهد إيفا وكالى وهما يتعرضان للخطف والضرب، بعد أن اقتحمت عصابات مسللحة منظمة بنايتهما، فى نفس الوقت الذى يلجأ فيه شين وليز الى سيارة ليو للإختباء فيها، وكانا قد تعطلت سيارتهما فى الطريق قبل أن يعودا للمنزل هربا من ساعات التطهير، تستغرق هذه المرحلة حوالى سبع ساعات من زمن التطهير، وفيها ترتبط المصائر الخمسة، ويدور الصراع مع عصابات مجهولة تخطف وتقتل الفقراء، كما يدور الصراع مع ليو الذى يريد أن ينجز مهمته فى الإنتقام من قاتل ابنه قبل نهاية زمن مباراة التطهير، يريد أن يرك بقية الابطال، بينما تريد إيفا وكالى إقناعة بأن الإنتقام لايفيد.

أما المرحلة الثالثة فهى تستغرق الخمس دقائق الأخيرة قبل نهاية التطهير، يتمدد الزمن الفيلمى قليلا ليسمح لبطل الفيلم ليو أن يصل الى الشاب الذى قتل ابنه، ولكنه لا يقتله، يبدو أنه شعر بعد أحداث الليلة العنيفة بأن القتل عبث، فى هذه المرحلة نكتشف أخيرا سر العصابات المسلحة: أثرياء يحاولون تصفية الفقراء لتحقيق التوازن ولإشباع ميول عدوانية ودموية مكبوتة طوال العام، سيعيش ليو رغم إطلاق النار عليه من زعيم العصابات الذى يرفض التسامح، ويريد مجتمعا أكثر توازنا بقتل الآخرين، انتهت المباراة بالإنحياز الى رفض جنون التطهير، وحقق المتفرج سعادته بالنجاة من أن يكون فى نفس هذا الموقف المجنون.

اعتمد السيناريو على حلقات متداخلة ومتشابكة، وعلى توزيع لحظات الإثارة والرعب والمطاردة من أصحاب الوجوه المقنّعة على زمن الفيلم دون أن يفلت الإيقاع، ودون إهمال المغزى الإجتماعى والسياسى: آباء مؤسسون جدد يبيحون العنف ويلغون القانون بالقانون، وتفاوت اجتماعى يجعل الأب العجوز الذى فقد الأمل فى الشفاء يببع نفسه لأسرة من الأثرياء، يقمون حفلة للتمتع بقتله، فى مقابل أن يدفعوا لابنته ايفا وحفيدته كالى مبلغ 100 ألف دولار، وفى مشهد آخر نشاهد الأثرياء وهم يقيمون حفلة لصيد أبطال الفيلم الخمسة، بعد مزاد علنى بينهم يتسابق فيه رجال وسيدات فى منتهى الأناقة على القتل بكل أنواع الأسلحة، وفى مشهد ثالث يتم إحراق الفقراء المختبئين فى مترو الأنفاق بالنيران كالجرذان.

غابة مزعجة

هذا ما يمكن أن يحدث لو عاد الإنسان الى الغابة، ستكون هناك مقاومة لما يفعله الأثرياء، مجموعة من الفقراء السود يدافعون عن أنفسهم، ويردون العنف بالعنف، فوضى شاملة لمدة 12 ساعة لا تأمن فيها ايفا وكالى من جارهما دييجو الذى كان أول من انتهز بداية التطهير ليحاول أن يغتصبهما فى منزلهما، الصورة التى تسودها ألوان رمادية وزرقاء وسوداء تجعل اللوحة أقرب الى الحجيم الأرضى، حتى أسرة الصديقة التى لجأت إليها ايفا وأصدقاؤها شهدت مأساة مروعة عندما قامت أخت الصديقة بإطلاق الرصاص عليها لأنها خانتها مع زوجها، كل جريمة قتل تضيف رصيدا فى ذهن المتفرج الى أهمية وحتمية وجود القانون، بدونه وبدون القوة الرادعة يصبح الإنسان مجرد حيوان شرس رغم ملابسه وعطوره.

اختيار الممثلين كان مناسبا تماما: فرانك جريلو منح الشخصية مهابة بصمته وبملامحه الصارمة، كما كان مقنعا فى علاقته الإنسانية مع كالى ، وفى حديثه عن ابنه الراحل، ربما الملاحظة الواضحة فى أن زو سول كانت تبدو أكبر من شخصية كالى الشابة، بل بدت زو فى ملامحها أكبر عمرا من أمها ايفا (كارمن إيوجو)، نجح المخرج فى تحقيق خلطة فائقة التأثير باستخدام المونتاج والموسيقى التصويرية، حتى الحركات البطيئة كانت فى مكانها، مع تنويع فى استخدام مختلف زوايا التصوير، وخصوصا تلك الزاوية العلوية التى تثير القلق بوجود عين مراقبة ومتربصة، أو بتكرار التصوير من خلف الأبطال، وهى زاوية الكاميرا المفضلة فى أفلام الرعب، وجود كاميرا خلف الشخصية يجعل الخطر خلف المتفرج مباشرة، ولذلك يكون التأثيرا مضاعفا فى حال ظهور شخص فى الظلام، مع استخدام المؤثرات الصوتية والموسيقى المناسبة، هناك لقطات عامة قليلة لمدينة لوس أنجلوس دون تغيير كبير فى شكلها الحالى، يفترض أن الأحداث عام 2023 وهى مدة قريبة تسمح بعدم وجود تغيير يذكر، لكن النجاح الأكبر كان فى اختيار الشوارع والحارات ومترو الأنفاق، وفى دمج مشهد الحفلة بسلاسة ضمن هذا الكابوس الليلى الطويل، لم نشعر بقلة ما أنفق على الفيلم أو ضآلة ميزانيت هبسبب هذا التوظيف البارع لكل شىء متاح، كما كان رائعا أن ينتهى الفيلم مباشرة مع نقل ليو لعلاجه فى المستشفى متواكبا مع نهاية التطهير، بدلا من التطويل المألوف فى مشاهد “ضد الذروة” فى معظم الأفلام الأمريكية.

يقول ليو: “للبطولة ثمنها، البطولة الحقيقية هنا ليست فقط فى حماية ضحايا العنف، ولكن أيضا فى مواجهة العنف داخل أنفسنا، فى أن نتسامح ونرفض الإنتقام، فى حماية الآخر الفقير من القوى الغنى، هذه هى البطولة الحقيقية التى يدافع عنها الفيلم، وهذا هو التطهير الحقيقى المطلوب

Visited 90 times, 1 visit(s) today