“البحث عن جولييت”: الاستغلال الجنسي ولغز الجريمة
انطلق خلال شهر مارس المنصرم العرض التلفزيوني الأول للفيلم الروائي الطويل “البحث عن جولييت” من تأليف وإخراج زهير قنوع وإنتاجه عبر شركة ويب ورلد.
ولم يكن من باب المصادفة أن يتزامن عرض الفيلم مع يوم المرأة العالمي طالما أن الفيلم، ورغم الطابع التجاري أو الجماهيري الذي يغلّفه، يسعى في العمق إلى مناصرة المرأة ووضع قضيتها تحت المجهر، وسط تصاعد الموجات الداعية للتصدّي ضدّ التحرّش والتنمر على امتداد الوطن العربي والعالم.
والحقيقة أن قراءتنا النقدية للفيلم قد تُتَهَم من قبل البعض بالتحيّز طالما أننا قد شاركنا عبر شركة صورة فيلمز في الإنتاج عن طريق تقديم إستديوهات صورة – دير علي للتصوير، ولكن الذي يجهله الكثيرون أن دَعَمنا هذا كان، ولا يزال، دعماً للقطاع السينمائي السوري الخاص وامتداداً لمشروع والدي المخرج الراحل حاتم علي في دعم الأفلام السينمائية السورية، حتى أننا أقدمنا على هذا الدعم دون قراءة سيناريو الفيلم واعتماداً على استراتيجيتنا في الدعم، وعلى سمعة مخرج الفيلم الذي قدّم الكثير من المسلسلات التلفزيونية العربية الشهيرة عقب عمله لسنوات مساعداً لعدّة مخرجين سوريين بارزين من ضمنهم والدي.
وقد تسنَّت لي مشاهدة الفيلم لأول مرّة في واحدة من إعاداته على شبكة OSN التلفزيونية حيث فضَّل صنَّاع الفيلم إطلاقه تلفزيونياً بعدما تعذّر صدوره في الصالات السينمائية بحجّة إنتشار فايروس كورونا وخفض الطاقة الإستيعابية للصالات إلى النصف، رغم أن الصالات السينمائية في البلاد، على قلّتها، عادت لتفتح أبوابها سريعاً بعد إقفال لم يدم سوى لشهرين على أبعد تقدير.
وهذه فرصة مواتية لمعاتبة مخرج الفيلم ومنتجه على تخلّيه السريع عن حلم العرض السينمائي وشباك التذاكر الذي لطالما عبَّر في عدّة مناسبات عن سعيه لإعادة الألق إليه، ولو كان ذلك عبر فيلم واحد قد يُنعش الآمال من جديد بإمكانية تحقيق نهضة مرتقبة طال إنتظارها في الصناعة السينمائية السورية.
ولكن وعلى كل الأحوال يبدو عرض الفيلم عبر شبكة OSN بمثابة ردّ مناسب على الأصوات التي ما فتئت تردّد منذ زمن طويل مقولات جاهزة حول إقفال الأبواب في وجه الفيلم السوري وحصاره على مستوى التوزيع وتضييق الخناق من حوله، وهذه بلا شكّ إدعاءات أثبتت التجارب الكثيرة بطلانها، فالعمل الجيَّد سواء أكان فيلماً سينمائياً أم مسلسلاً تلفزيونياً يقدر على شقّ طريقه إلى العرض اللائق شريطة توّفر جملة من المقّومات التي نجح فيلمنا هذا في تحقيقها.
يعتمد السيناريو على تقنية فيلم داخل الفيلم فأبطالنا هم مجموعة ممثلين وممثلات شباب يصورون فيلماً سينمائياً يبدو نجمه يوسف (جابرييل مالكي) المتحّكم الأول والأخير في صيروته، فالمخرج هنا (محمد زرزور) يبدو شبه كومبارس تابع لا حول له ولا قوة، بينما تحوم الممثلات الشابات حول النجم الوسيم، والذي يبدو أشبه بدون جوان، أملاً في الظفر بدور كبير أو حتى بدور البطولة، وهو دور جولييت نفسها، التي يرنو الجميع بأنظارهم إليها.
والمعادلة في هذا الصدّد، تبدو واضحة وبسيطة فمن تتنازل أكثر تكسب أكثر، وعنوان التنازل العريض هو العلاقة الجنسية، وإن كان الأمر يتعلّق بمدى التنازلات في المقام الأول فإنه خاضع أيضاً لمزاج هذا النجم وميوله والتي تحمل في انعكاساتها السلوكية أعراض اضطراب نفسي مزمن، وإن كان يوسف في البداية هو المسيطر الأوحد على سير الأمور داخل إستديو التصوير فإن الأحداث سرعان ما ستنقلب رأساً على عقب عند تعرفه إلى الممثلة الصاعدة غنى (نانسي خوري)، خريجة معهد التمثيل والمتزوجة من ممثل مغمور (يزن خليل) عقب قصّة حب طويلة.
هذه المرأة تسعى أيضاً إلى دور البطولة، ثم إنها لا تتوانَ عن تقديم التنازلات المطلوبة آملاً في تحقيق حلمها الكبير، حتى لوكان ذلك على حساب علاقتها الزوجية التي تمرّ بإضطرابات عاصفة نتيجة شكّ زوجها الممثل المغمور بوجود علاقة خفية تربطها بيوسف، فكيف استطاعت تحصيل تلك الفرصة المهولة دون تقديم تنازل من نوع ما؟
هكذا يضعها الزوج أمام اختيار صعب ومضنٍ: فإما زواجهما وإما العمل، وتقرّر المرأة بدافع من حبَّها لزوجها المغلوب على أمره التخلّي عن حلمها الكبير ولو مؤقتاً، ثم ما تلبث أن تسعى مع اقتراب موعد تصوير الفيلم الجديد لإقناع زوجها بالعدول عن قراره والسماح لها بالعمل، وهنا يوافق الزوج على مضض، قبل أن تقع الكارثة ويُقَتل يوسف في ظروف غامضة لتبدأ رحلة التحقيق والكشف عن ملابسات الجريمة الغامضة.
تأتي هذا الإنعكاسة على صعيد الشكل ربما كإستجابة لمتطلبات التوزيع والتسويق، حيث تمتزج الرومانسية باللغز البوليسي لتدور الأحداث حول سؤال رئيسي مفاده من قتل يوسف؟ وليجد المحقّق الشاب (رامي الأحمر) الذي يتولّى القضية نفسه غارقاً وسط دائرة معقّدة من علاقات يوسف مع ثلاث نساء ينتمين لطبقات اجتماعية متباينة ولكنهن يجتمعن حول هدف واحد وهو تأدية دور جولييت بطلة الفيلم المزمع تصويره.
ولا شكّ أن هذا معادل تامّ لرغبتهنّ في النجاح والتفوق وإثبات الذات ضمن مجتمع ذكوري يتعامل مع المرأة بإعتبارها مجرد سلعة قابلة للبيع والشراء والمساومة، ولكن الأمور سرعان ما تبدو أسهل مما يعتقد المحقّق الشاب الذي يستعد لخوض غمار تحدٍّ مُنتَظَر لإثبات الذات في السلك الأمني، وذلك لمَّا يعترف شاب ريفي (زامل الزامل) بجريمته ويسلَّم نفسه للمحقّق بكل بساطة، لتبدو القضية مجرد جريمة شرف نفذّها الشاب المكلّف بغسل عار العائلة الريفية بعدما ثَبُتَ بالنسبة إليه بالدليل القاطع علاقة أخته الممثلة الشابة بالنجم الشهير يوسف وضبطهما معاً في أحد الفنادق منتحلاً صفة موظف فندقي.
ولكن المفاجآت تتولى مع اعتراف أكثر من شخص بالجريمة، بدءً من الممثل المغمور زوج غنى وانتهاءً بوالدها العجوز الطيَّب الذي يعمل مساعداً خاصَّاً ليوسف، ويبدو التحقيق في الجريمة هنا بمثابة حامل رئيسي للحكاية ومدخلاً لاستعادة أجزاء واسعة من القصّة المفقودة التي تميط اللثام عن جوهر علاقات يوسف المتعدّدة والتي أودت به في النهاية إلى مصير محتوم، وذلك قبل أن يتوصّل المحقّق الشاب بالدليل إلى حقيقة مقتل يوسف جرّاء تسمم كحولي لتشير أصابع الإتهام نحو غنى نفسها، والتي استطاعت في النهاية وبعد جدال طويل مع يوسف الظفر بدور جولييت لتؤدي فعلها البطولي أمام الكاميرا وفي الواقع أيضاً دفاعاً عن زواجها وحبّها لزوجها الممثل المغمور.
والحقيقة أن هذه النهاية التي تأتي بالطبع منسجمة مع جوهر ما يسعى الفيلم لقوله تبدو شاذّة إلى حدّ ما قياساً إلى تركيبة شخصية غنى نفسها والتي وافقت منذ البداية على تقديم نفسها ليوسف دون أي اعتبار لعلاقتها الزوجية، ودون أن يحدث ما قد يدفعها إلى قتل يوسف أو التخلّص منه، وهي وإن كانت في صميمها تبغضه إلى هذا الحدّ فما الذي دفعها إلى الموافقة على تأدية الدور والعمل برفقته؟ وإن كانت رغبتها في العمل والنجومية هي دافعها إلى ذلك فما مبرر قلتها ليوسف إن كان هو مفتاحها الوحيد لتحقيق أحلامها الكبيرة؟
رغم ذلك السؤال المشروع حول دافع البطلة لقتل يوسف، إلا أن الكاتب والمخرج زهير قنوع قدَّم حكايته عبر سيناريو مُحكَم السبك حيث تتداخل الأزمنة بسلاسة ليبدو الانتقال بين الحاضر وأجزاء من الماضي محض استجابة للتداعي الحرّ لمكنونات الشخصيات التي تفيض بما يعتمل في وجدانها في غرفة التحقيق داخل الإستديو حيث تنتشر ملصقات الأفلام وتتلألأ الألوان الفاقعة بينما تنكفأ الشخصيات على جراحها وخيباتها المتراكمة، واستطاع السيناريو بذلك الحفاظ على إيقاع متسارع ومشدود طيلة الفيلم دون أن تخبو قدرته على التشويق، وهذا واحد من الشروط الأساسية في مثل هذا النوع من الأفلام.
تناغمت لإنجاز الفيلم مجموعة من العناصر بدءً من مدير التصوير التونسي محمد مغراوي الذي عاد إلى العمل في سوريا بعد انقطاع دام لأكثر من عشر سنوات منذ تصويره لأفلام الليل الطويل وسيلينا ومسلسل عمر، مروراً بمهندس الديكور أدهم منَّاوي والذي تميّز بديكور وإكسسوار مُتقن بتشكيله وألوانه، وانتهاءً بالممثلين والممثلات الشباب اللذين اعتمد عليهم الفيلم في أدوار البطولة رغم ما ينضوي عليه ذلك من مغامرة، مع الأسف، في أعراف الصناعة السينمائية والتلفزيونية.
وهكذا يقدّم البحث عن جولييت ردَّاً واضحاً وصريحاً في وجه الأسئلة والهواجس التي تحوم حول قدرة الممثلين الشباب على التصدّي لبطولة فيلم سينمائي، وإن كان عبر البطولة الجماعية، وحول قدرة الفيلم السوري عموماً على الحضور عبر الشبكات التلفزيونية المرموقة، وهو بلا شكّ تجربة مختلفة ومغايرة لناحية الشكل والمضمون على صعيد السينما السورية، وواحد من ألمع إنتاجات القطاع الخاص، خاصّة وسط الركود الكبير في الإنتاج السينمائي والعودة الملحوظة للأفلام الهابطة والتي أخذ بعضها يطفو على السطح خلال الآونة الأخيرة.