فيلم “عرق الشتا” للمخرج حكيم بلعباس: الإدانة المأساوية للواقع

Print Friendly, PDF & Email

يواصل المخرج حكيم بلعباس حفره في تفاصيل المجتمع المغربي بطريقته السينمائية الخاصة التي تنحاز للنبش في الهموم المستعصية للمغرب القصي؛ إذ تكاد تختبئ مشاكل ومصائر الناس البسطاء دون أن تثير الاهتمام. ولهذا، سلك المخرج كعادته طريقة انتقائية خاصة فيما يتعلق باختيار شخوص فيلمه، ففضلا عن اعتماده على ممثلين محترفين لتشخيص أهم الأدوار، فقد أسند العديد من الأدوار المُسَاعِدَة لأشخاص عاديين مما أضفى لمسة وثائقية على هذا الفيلم الجديد الذي يغوص في تفاصيل الحياة اليومية لأسرة فلاح بسيط يقطن بالبادية المغربية، وأسهم في توطيد أسلوبه الذي يمزج بين المكون الوثائقي ومختلف العناصر الدرامية للفيلم الوثائقي.

يتميز حوار الفيلم بملاءمته القوية للوضعيات الاجتماعية والدرامية للشخوص والوقائع، فهو مدروس بعناية شديدة من حيث الحالات التي ينبني عليها الحكي الفيلمي كما أنه يراعي الانتقال في الفضاءات والأمكنة الفيلمية مما يضفي طابع المعقولية على الخيال الفيلمي، ولا يجعله مفارقا أو متعاليا على نفسية الشخوص وكذا مرجعياتهم الاجتماعية والوظيفية. وتبلغ قمة البراعة والقوة الانزياحية، المتماهية مع الإبداع الزجلي (الشعر العامي)، في تلك الرسالة الصوتية (المسموعة) أو الحوار الذاتي (المونولوج) المسجل بتقنية الصوت الكامن خلف الصورة “Voix off”) كخطاب اعترافي صادق وجهه الزوج (أمين الناجي) لزوجته (فاطمة الزهراء بناصر)، وهو في حالة صفاء وجداني وعاطفي لم يتحقق له بالقرب منها، لكن رحيله الاضطراري عنها جعل الألفاظ تتساقط كالمطر أو كالدمع على الجسد المتعطش للارتواء بعد الشح؛ وقد تكرر ذلك، بنفس النهج، من لدن الزوجة حينما كانت تستخرج الماء من البئر عن طريق رمي السطل القصديري المشدود إلى الحبل، والعمل على جذبه بعد الامتلاء، وسكب محتواه في آنية مصنوعة من بقايا عجلات الشاحنات (تسمى “البُوطَة” في الدارجة المغربية)، وهي مكونات وذرائع فنية مقصودة للجمع بين تلك الأكسسوارات التي تستمد مبررها من الحالة الاجتماعية والنفسية للأسرة؛ وهي فرصة، أيضا، تستدعي عبرها المرأة ذكرى إمساكها بالحبل أثناء وضع ابنها، لتعميق الإحساس بالمخاض والوجع الذي تعيشه رفقة أقاربها، فتنبجس كلماتها الشاعرية الحزينة كما يتفتق الماء “المفقود” من الأعماق!

ساهم تألق الممثلين الرئيسين في الفيلم، فضلا عن الحضور الوازن للممثل الكبير حميد نجاح، في منح الفتى “أيوب” (أيوب الخلفاوي) دفقا إيجابيا ساعده على عدم ترك الفرصة تمر دون أن يبصم على دور خاص في تاريخ السينما المغربية، وهو الشاب غير العادي على المستوى الذهني، فقد كان عطاؤه كبيرا، وجهده ملموسا على مدار الفيلم؛ إذ لم يجعلنا نحس – ولو لحظة – بأن أداءه قد قَلَّ أو تراجع، ليظل دائم الحضور، متنامي العطاء، غير آبه بوقوفه لأول مرة أمام الكاميرا، ولا باندهاشه من احترافية الممثلين مما يكشف قدرة المخرج على تهييئه وحفزه النفسي على الاندماج والعطاء بسخاء.

يمتح حكيم بلعباس من الإرث الثقافي الشعبي، والتراث الروحاني اللامادي، الضارب في البنية الذهنية للمجتمع المغربي، والذي يختلط فيه الأسطوري بالروحاني، ففي واحد من المَشَاهِد الإثنولوجية العميقة يكشف المخرج على تعميق بحثه الأنتروبولوجي في المجتمع المغربي، والذي سبق وأن دشنه في أفلامه القصيرة ثم تابعه في أفلامه الطويلة، وخاصة في فيلم “أشلاء”. يستوقفنا مشهد الأم التي تلج ضريح إحدى الصلحاء المنتشرين بكثرة في المغرب، لتقوم بطقوس خاصة تكون الحناء إحدى مكوناتها الرمزية؛ إذ تطلي الحائط بكمية مهمة منها، وتخضب بها خصلة شعرها من جهة الصدغ الأيمن، وتمرر ما تبقى منها على بطنها فيما يشبه الطقس الوثني للإبقاء على الجنين (“صالح” المنتظر) بعد تكهن أخيه بموته المسبق!

وغير بعيد عن هذا المشهد يُرْدِفُ المخرج مشهدا آخر يتجلى في تبرك أهل القرية من بعض الأشخاص الورعين، واتكالهم (استنادهم) الاعتقادي والوراثي المتواتر على القوة المزعومة لبركاتهم كما هو الحال أثناء لجوء أحد الرجال إلى الخدمة الروحانية للجد بعد أن أهداه قالبَ سكر، ومناولته إياه عينة من تراب الأرض التي اقتناها بغية مباركتها، وهو ما لم يتردد الجد في القيام به؛ إذ فتح قطعة القماش الأبيض الذي يحوي التراب، فقام بِبَخِّهِ ومباركته والدعاء لصاحبه بالتوفيق وتحقق المتمنيات دون استثناء حاله الذي لا ينفصل عن حال البلاد والعباد أجمعين.

يغوص الفيلم في سبر أغوار الروحانيات المغربية، وخاصة تلك المتعلقة بالقدرات العادية وغير العادية للشاب، واستماتته في مواجهة قسوة الحياة، وتقلده مهام أبيه في الاهتمام بأمه، وقيامه بأمور تأهيل الأرض والحرث والزراعة وفقا لاستطاعته، ولكن الشق المثير في ذلك الرصد هو تلك الحالة التخاطرية التي تجعله يتحسس موت الجرو مما سيدفعه نحو التعجيل بإبعاده عن السكان، ولكنه سرعان ما سيكتشف تمدده قرب الضريح قبل أن يعود إليه.. وهنا لابد من الوقوف عند هاته النزعة التي تسكن أفلام حكيم بلعباس في عموميتها، وهي غير بعيدة عن الأجواء الطقوسية التي نشأ فيها بمدينة أبي الجعد ذات التراث الصوفي المنتسب إلى طريقة “سيدي بوعبيد الشرقي” وما يحيط بها من اعتقادات وممارسات وطقوس.

كيف يمكن للسينما أن تعالج مثل هذه القضايا الغارقة في الميتولوجيا؟

يفترض المخرج أن الحلم وسيلة لاواعية مساعدة على الاهتداء نحو كشف خبايا وألغاز وأسرار وعجائب النفس (الروح) الإنسانية، تماما كما ذهب سيجموند فرويد إلى ذلك في كتابه “تفسير الأحلام”، مستعينا بمناهج علم النفس؛ أو ميرسيا إلياد في كتبه “الأساطير والأحلام والأسرار” و”المقدس والمدنس” و”رمزية الطقس والأسطورة” و”البحث عن التاريخ والمعنى في الدين” و”أسطورة العود الأبدي”، متوسلا بالتاريخ والدين والأسطورة، وكأن في استدعاءه لهاته المرجعيات رهان افتراضي مضمر على قدرة السينما التعبيرية في التمثل بواسطة الصورة قصد توريط المرئي في كشف اللامرئي.

بالتزامن مع إعداد الزوجة للدجاج، وإزالة كل الشوائب غير المرغوب فيها، وبينما يمارس المخرج عبر إقحامه الفني لـ”مشهد/لقطة” تمرغ الحصان التلقائي، والتي سرعان ما يُلْحِقُهَا بلقطة كبيرة حول استئصال كِلْيَة قد نخالها خَصْيًا للحصان كما تسري العادة في الكثير من البوادي، فإن المأساة تتعمق حينما سنكتشف بأن ذلك كان مجرد مراوغة فنية وتأجيل لاكتشاف مأساة الرجل الذي اضطره الخصاص، والحرص على عدم فقدان الأرض، وما سيلحقه من إهانة ناتجة عن ذلك التفريط من خدش لرجولته داخل البادية، سيضطر لبيع كليته بغرض تسديد الديون المتراكمة عليه.

يكشف هذا الحادث عن قضية الاتجار في الأعضاء البشرية، والسكوت عن المافيا المتورطة في هذا العمل الشنيع المنظم بشكل سري، والذي يستفيد منه عدة فاعلين في مجالات السمسرة والطب والمصحات وغيرهم من المنتفعين في غفلة عن أعين السلطة أو بعلمها طالما أن المشكلة غير مكشوفة بشكل كبير، ولم تتحول بعد إلى قضية رأي عام. ترى إلى متى ستظل مثل هاته المآسي عوائق بَيِّنَة أمام بناء دولة الحق والقانون ومسيئة لسمعة البلاد وحاطة من كرامة العباد؟

ينتهي هذا الفيلم الغائر في الثقافة المغربية في شقها البدوي الرعوي على إيقاع الموت والبكاء والأمل والجذبة والاحتفال والفانتازيا (الفروسية) وانبجاس الماء؛ إذ تختلط المشاعر الإنسانية التي سبرها المخرج عبر معرفته الدقيقة بتلك الثقافة، وخبرته بالأمكنة التي ظل وفيا لها بمدينته الأصل أبي الجعد وضواحيها، بمسحة نقدية تراجيدية ومأساوية على الطريقة النيتشوية التي تدين الإنسان أولا وأخيرا، خاصة وأن الفيلم مستوحى من لقاء جمعه بفلاح بسيطٍ صباحَ يومٍ قائظ منذ حوالي سبعة عشر سنة، فعاد لكتابتها وتصويرها وفقا لأسلوب سردي وبصري يكسر المسافة فيما بين المخرج/السارد والموضوع والشخصيات. فالسر في قوة الفيلم كامن في تلك الشحنات العاطفية التي تمكن المخرج من تكييفها بصريا دون السقوط في التهويل، وهو المعطى الذي أتاح له تصوير مأساة هادئة، تسري بقوة وبطء داخل بواطن المتلقي فلا تتركه محايدا، بل تستنفر قواه الحسية والعقلية والوجدانية والعاطفية لاتخاذ موقف مما يقع حوله.

وإذ يمنح الفيلم الفرصة للشاب أيوب الخلفاوي، فإنما لإثارة الانتباه إلى هاته العينة من الناس التي تعيش بيننا، والعمل على إدماجها والتخفيف من عزلتها ومعاناتها خاصة وأن الأداء كان في مستوى اللحظة من حيث القدرة على التقمص والصدق والتفاعل الدرامي والعاطفي مع الممثلين الآخرين الذي أبانوا عن قدرات تشخيصية منحت الفيلم معقولية واقعية وتخييلية مناسبة للقضايا التي يطرحها ضمن رؤية سينمائية تنسجم والخط العام الذي رسمه المخرج خلال أفلامه الروائية القصيرة والطويلة.

Visited 126 times, 1 visit(s) today