الاغتصاب الملتبس وثقافة لوم الضحية في مهرجان القاهرة

لقطة من فيلم "الفوج" السويدي لقطة من فيلم "الفوج" السويدي


من النقاط المضيئة في مهرجان القاهرة السينمائي، كونه يذخر بعدد لا حصر له من الأفلام التي تحمل على عاتقها قضية نسوية هامة ومميزة. اهتمام مهرجان مصري في مجتمع يدعم ذكوريته حتى في مجال متحرر مثل المجال السينمائي، قياساً على عدد السينمائيين من النساء والرجال، أو عدد البطولات السينمائية النسائية، أو تمثيل المرأة على الشاشة، ومحاولة استقراء هذا التمثيل من وجهة نظر منتصرة للمرأة ذاتها مع أخذ الدراما في الاعتبار، هو في حد ذاته انتصار للقضية النسوية، ويوضح اهتمام المهرجان بتمثيل المرأة على شاشاته، على حساب فئات أخرى من مثليين ولادينيين وذوي احتياجات خاصة وخلافه.

بعيداً عن محاولة قراءة المشهد بعين منحازة لجهة ما، حاولنا الإمساك بأحد الخيوط الهامة في القضية النسوية، وهي “الاغتصاب”. تم تمثيل الاغتصاب في أكثر من فيلم ضمن برنامج المهرجان. شاهدت منهم أربعة أفلام، محاولة المقارنة بين تمثيل الاغتصاب في كل منهم، ومدى محورية الحدث أو انحياز الفيلم للمرأة فيه من عدمه.

يحسب فقط للمهرجان تعدد وجهات النظر التي مثلت قضية هامة كالاغتصاب على شاشاته، مما يعطي المشاهدين قدر من الحرية في استقراء ماوراء عرض الموضوع، خاصة وأن تناول كل فيلم لهذه القضية جاء متفرداً ومختلفاً عن الآخرين. وهذه التنويعة تخدم القضية النسوية، بغض النظر عن كون بعض هذه الأفلام ذكوري جداً في طرحه للقضية نفسها، لكن مجرد عرض أربعة أفلام يحتل “الاغتصاب” موقعاً متميزاً في قصتها الرئيسية، هو شيء يحسب للمهرجان بصورة كبيرة.

الفيلم الأول بعنوان Flocken أو “الفوج” وهو فيلم سويدي حصد جوائز في مهرجانات عالمية مثل مهرجان برلين فئة 14+ ومهرجان لوس أنجلوس قسم سينما العالم.

الفيلم يحكي عن الاضطهاد والنبذ اللذين تتعرض لهما فتاة مراهقة في قرية سويدية متدينة، ترفض أن يُتهم أحد أبناء رعايا الكنيسة المتدينين باغتصاب الفتاة. تتجلى في الفيلم ثقافة لوم الضحية victim-blaming في أكثر صورها خطورة، من النبذ والإقصاء وإعلان الكراهية والعداء للفتاة وعائلتها وكل من والاهم. لا يمثل مشهد الاغتصاب على الشاشة طوال مدة عرض الفيلم، لكنه حاضر كمبدأ وعنصر أساسي من عناصر الفيلم، خاصة في المشاهد التي تعترف فيها الفتاة جنيفر بالكيفية التي حدث بها الاغتصاب في المحكمة وأمام رجال الشرطة.

ضحايا الاغتصاب

يحسب للفيلم أيضاً عرضه للبس الذي يقابل ضحايا الاغتصاب، خاصة عند مناقشة ماهية الاغتصاب من عدمه، وهل يجب أن يتضمن الاغتصاب صورة معينة من الاعتداء الجنسي أم أن أي فعل جنسي ترغم عليه المرأة هو بالتبعية اغتصاب؟

بدا واضحاً جداً مناصرة Flocken لقضية المرأة والنظرة النسوية للاغتصاب وضحاياه من فتيات.

على العكس من هذه النظرة جاء فيلم Paulina أو “باولينا” الأرجنتيني والذي حصد جائزة أسبوع النقاد في مهرجان كان كما فاز بجائزة الفيبريسي في القسم الموازي . أتى الفيلم ملتبساً من حيث الطريقة التي يتعامل بها المجتمع مع ضحية الاغتصاب، وما قد تراه هي من وجهة نظرها في الاغتصاب ذاته. ربما يجنح الفيلم للمثالية المفرطة في نظرة البطلة المغتصبة لمغتصبيها والتي قد تبدو متعاطفة معهم نظراً لبيئتهم الاجتماعية المختلفة عنها، والتي بسببها تركت تلك المرأة حياتها المرفهة ومهنتها كمحامية مرموقة على خطى والدها، وقررت الاتجاه لتدريس الفقراء في قرية نائية. لكن يتضح من خلال عدة مشاهد، تبني الفيلم للنظرة المعادية للإجهاض وقضيته النسوية التي مازالت تثير الجدل منذ القرن التاسع عشر، وحتى هذه اللحظة، والتي ينحاز فيها العالم إما إلى حركات “حق الإجهاض” أو “حق حياة الجنين” والتي إما تجيز الإجهاض كحق من حقوق المرأة الجسدية والصحية أو تجرمه لأسباب دينية واجتماعية، بالتوالي.

لقطة من الفيلم الشيلي “باولينا”

واضح للغاية انحياز باولينا ذاتها للمعسكر الثاني، فبينما يدعمها والدها للتخلص من الجنين الذي أرغمت على وجوده بجسدها بعد اغتصابها، إلا أنها ترفض وبتصميم قد يثير غضب الكثير من المشاهدات النسويات أن تقوم بإجهاضه، بل وتصر على الحفاظ عليه. الفيلم هو إعادة إنتاج remakeلفيلم أرجنتيني بعنوان La Patotaأو العصابة – 1960، ويحسب للمهرجان اختياره كثاني فيلم يتحدث عن قضية الاغتصاب ولو من منظور آخر، خاصة وأن كاميرا المخرج Santiago Mitreقد نقلت المشهد بكل عنفه وواقعيته وعبثيته، كونه لم يكن معنياً لباولينا ذاتها، بل كان غرض مغتصبيها الانتقام من حبيبة أحدهم التي هجرته من أجل رجل آخر.

الجنس في الفيلم المصري

الالتباس أيضاً يشوب المشهد الأكثر إثارة للجدل في تاريخ تصوير مشاهد الجنس بالسينما المصرية، وهو مشهد الاغتصاب/ الجنس في فيلم “من ضهر راجل” المصري، تأليف محمد أمين راضي وإخراج كريم السبكي.

المشهد تم تصويره بواقعية شديدة يندر تمثيلها على الشاشة المصرية ويحسب للمخرج شجاعته في خوض تجربة تصوير مشهد جنسي بهذا الوضوح. لكن كما يقول المثل “الحلو ما يكملش”. فالمشهد الذي كان من المفترض فيه أن تمارس الحبيبة مي –ياسمين رئيس- الحب مع البلطجي رحيم –آسر ياسين- انقلب ملتبساً على المشاهد إذا ما كان مشهداً جنسياً أو مشهد اغتصاب، وكرس للأسف لفكرة مريضة مفادها “يتمنعن وهن راغبات” وهي ضد مبدأ النسوية الأزلي والذي يقتضي الموافقة التي لا غبار عليها قبل ممارسة رجل وامرأة للجنس وشعارها “لا تعني لا –No means no” أي أن المرأة عندما ترفض ممارسة الجنس مع حبيبها فهي تعني هذا حقاً ومحاولته إجبارها بالقوة لن يغير في أن الأمر تحول من ممارسة حرة إلى اغتصاب شيئاً.

وكالعادة، تطغى ثقافة لوم الضحية على الفيلم، فتلوم مي نفسها وهي تحاول إجهاض الجنين الذي تحمله في أحشائها، وتبدو كما المشاهد، غير متأكدة إذا كان ما تعرضت له هو شكل من أشكال العنف الجنسي أم أنها خطيئة شاركت فيها عشيقها؟

للأسف فإن معظم الهجوم الذي تعرض له هذا المشهد أتى من المحافظين والذين انتقدوا كون المشهد جريئاً أكثر من اللازم، مما يعكس قصور في العقلية النقدية التي حاولت استقراء الموقف من منظور أخلاقي أكثر منه منظور نسوي وحقوقي وتقدمي.

الفيلم الأخير من شيلي وهو أيضاً يأخذ من الاغتصاب ذروة أحداثه. ولا يخفى اهتمام سينما أمريكا اللاتينية المعاصرة بالقضايا النسوية خاصة ما تتعرض له المرأة من عنف جسدي وجنسي. في ورقة بحثية قدمتها الباحثة الهسبانية Marcia Espinoza-Veraبعنوان “العنف الجنسي في سينما مخرجات أمريكا اللاتينية المعاصرة2013 – “، تؤكد مارسيا أن سبب اهتمام سينما أمريكا اللاتينية المعاصرة بقضايا النسوية يرجع لموجة العنف المتصاعدة ضد المرأة، والتي تزداد في حالة كون القاهر أحد أقربائها أو معارفها.

لقطة من فيلم “امرأة الطين”

امرأة الطين

فيلم La mujer de barro أو “امرأة الطين” يناقش الاغتصاب من منظور آخر، وهو العنف الجنسي الذي تتعرض له المرأة على يد قريب أو صديق أو زوج سابق، خاصة إذا كان هذا الأخير في موقع قوة، من منصب أو سلطة وخلافه. مشهد الاغتصاب في هذا الفيلم هو الوحيد الذي يضج بالحياة، الفيلم كله عبارة عن حالة ساكنة، راكدة من تتبع الكاميرا للبطلة ماريا وحياتها الجافة، القاحلة. وعلى الرغم من وقوع الفيلم في فخ الإطناب والملل، إلا أنه أيضاً يتعامل مع الاغتصاب بطريقة مغايرة ومختلفة، محاولاً اكتشاف مدى تأثيره على النسوة اللاتي يتعرضن له، خاصة إذا كن من الفقيرات اللاتي ليس لديهن وسيلة لحماية أنفسهن أو أن الإبلاغ سيعرضهن لمخاطر أكبر من السكوت ومحاولة تخطي ما حدث.

يمكن ملاحظة أن أفلام المهرجان نوعت ما بين الأعمار المختلفة للنسوة الأربع (المراهقة – العشرينيات – الثلاثينيات – الأربعينيات أو الخمسينيات)، هذا غير تنوع البيئة الاجتماعية والنفسية التي تنتمي إليها كل من هاته النسوة، فمنهن الفقيرة ومنهن الغنية المترفة. يحسب للمهرجان أيضاً اختيار أفلام متنوعة تناقش القضية من أكثر من منظور ولدى أكثر من ثقافة، سواء جاء هذا عن قصد أو بالصدفة فإنها شهادة اعتماد لكون القضايا النسوية هامة وفعالة على الساحة السينمائية العالمية، وعدم التفات السينما المصرية لها يقلل من مصداقيتها ويجعلها أكثر تأخراً عن الركب العالمي.

وفي الختام وجب التنويه على أن في رأيي، أفضل هذه الأفلام تناولاً للقضية من منظور نسوي، والتعامل معها بصورة مرضية وحقيقية ومنصفة للمرأة كان الفيلم السويدي Flocken.

Visited 155 times, 1 visit(s) today