“الأيدي في الجيوب”.. أول أفلام ماركو بيللوكيو

أمير العمري

في إطار بحثي وتنقيبي واستعادتي للأفلام القديمة- المتجددة دوما، التي ساهمت في تكويني وتكوين أبناء جيلي من عشاق السينما في “عصر السينما”، توقفت أمام نموذج اعتبر وقت ظهوره بمثابة إعلان عن موجة جديدة في السينما الإيطالية، تتجاوز ما حققه جيل الواقعية الجديدة، لا تكتفي بالتعبير عن مشاكل الواقع الاجتماعي والسياسي، بل تميل أكثر، إلى رفض الواقع والتمرد عليه وإدانته.

هذا النموذج هو فيلم “الأيدي في الجيوب” Fists in the Pocket أول أفلام المخرج الإيطالي ماركو بيللوكيو Marco Belloccio أخرجه عام 1964. وقد جاء هذا الفيلم إلى مصر للمرة الأولى في إطار أسبوع الفيلم الإيطالي” الذي أقيم في دار سينما رمسيس.

كان هذا الفيلم، وهو أول أفلام مخرجه ماركو بيللوكيو Bellichio (الذي ينطق اسمه بالإيطالية- بينوكيو) فتحا جديدا. ويعتبره الكثير من النقاد مع فيلم “قبل الثورة”، أول أفلام المخرج برناردو برتولوتشي، بداية “موجة جديدة” في السينما الإيطالية، أو تيار جديد من الأفلام يمكن وصفه بـ “تيار ما بعد الواقعية الجديدة”.. واقعية روسيلليني ودي سيكا وزافاتيني وفيسكونتي وغيرهم.

كان “الأيدي في الجيوب” (ترجمة العنوان حرفيا هي “يدان في الجيب” وهو تعبير معناه البرود واللامبالاة) قطعاً مع الماضي، ومدخلا جديدا للإطلال على إيطاليا- منتصف الستينيات، بكل ما كانت تشهده من تفاعلات اجتماعية وسياسية.

غير أن “الأيدي في الجيوب” لم يكن فيلما سياسيا من تلك الأفلام التي ستأتي بعد قليل، لكي تحفر تيارا خاصا في السينما الإيطالية، بل كانت جوانب الجدة والتميز فيه تتجسد في قدرة مخرجه الشاب (25 سنة) على التعبير عن تلك الحالة من عدم التحدد، من انعدام الرؤية، من الغضب الكامن تحت السطح الذي سينفجر في عموم إيطاليا مع نهاية الستينيات في شكل موجات من الاحتجاجات والغضب والتمرد على كل القيم الاجتماعية السائدة، وظهور جماعات هائلة من الفوضويين الذين صرحوا برفضهم للدولة، وأعلنوا الحرب عليها.

إنه يعبر، مجازا، عن حالة الاضطراب الاجتماعي وغياب اليقين الفكري، من خلال فكرة “الأسرة” المشروخة، غير السوية، التي تكمن في داخلها عوامل انهيارها.

إنها أسرة من الطبقة الوسطى، تقيم في منزل في منطقة ريفية نائية، فوق ربوة جبلية وعرة، ويبدو المنزل من الداخل بأثاثه العتيق، كأنه لم يعرف لمسات الحداثة بعد، وتتكون الأسرة من الأم، وهي امرأة عمياء، فقدت السيطرة على أبنائها: الأكبر أوجوستو الذي يعمل في المدينة ويرتبط بعلاقة حب مع فتاة تدعى لوسيا، أمنيته أن يغادر المنزل الكئيب ويتزوج من لوسيا ويعيش معها في المدينة، ولكنه مربوط بالأسرة بحكم اعتماد الأم عليه وعلى ما يأتي به من دخل مادي، بل إن الأسرة كلها تبدو في الحقيقة، معتمدة عليه: إنه بهذا المعنى، الرمز البطريركي.. الذي لا يمكن أن يبدأ أحد تناول الطعام على المائدة قبل أن يتفضل هو بالجلوس أولا. وهناك شقيقان لأوجوستو هما الشقيق الأصغر “ليوني” وهو مصاب بالصرع وشبه متخلف عقليا، و”أليساندرو” الذي يتعرض أيضا بين وقت وآخر، لنوبات من الصرع، وأخيرا هناك الشقيقة “جوليا” التي تبدو طفولية أي غير ناضجة تماما رغم أنوثتها الواضحة، بل إن الفيلم يشير أيضا إلى وجود علاقة خاصة تربطها باليساندرو، علاقة يدخل فيها التلامس الجسدي، ولو على مستوى صبياني.

الأجواء بين الأشقاء والأم متوترة، فالأم تفرض هذا النمط من الحياة على الجميع لاحتياجها المادي إلى أوجوستو، والصبي “ليوني” يعتبر أيضا بمثابة عالة على الجميع، والفتاة تستمتع بمراقبة ما يجري، وجميعهم يتبادلون الاهانات والتعليقات المخزية على مائدة الطعام لكنهم يتظاهرون بالانضباط. جو كئيب يحلق على ذلك المنزل الذي يبدو أنه يقوم على الزيف.

تنمو في ذهن أليساندرو فكرة تجذبه، يعتقد أنها من الممكن أن تحقق السعادة للجميع، فيها قدر يعكس الرغبة في التمرد على الوضع الراهن، كما أن فيها ما يشي أيضا بادعاء امتلاك قدرات خاصة يثبت بها لنفسه أنه أفضل مما يعتقد الجميع، وأنه يتمتع بالذكاء والفطنة. هذه الخطة تتلخص ببساطة، في قتل جميع أفراد أسرته. وقد توصل إلى هذه الفكرة بعد أن فشل في ترويع شقيقه الأكبر بفكرته عن الانتحار، فقد كتب رسالة يفترض أن يتركها خلفه بعد أن ينتحر، تقع بالفعل في يد أوجوستو الذي يسخر منه ومن فكرته الحمقاء، ويحرق بالتالي المفاجأة أو الصدمة التي أراد ادخارها للأسرة. ويتراجع ليوني عن الفكرة ويتجه لتبني فكرة التصفية التدريجية لأفراد الأسرة واحدا واحدا.

إنه يبدأ أولا بقتل أمه العمياء عندما يدفعها لتسقط من أعلى ربوة جبلية. ثم يقوم بإغراق شقيقه الأصغر في البانيو. وبهذا يتصور أنه يتيح الفرصة لأن يحقق أوجوستو أحلامه في الزواج والتحرر من قيد الأسرة، ويأخذ بالتباهي بما فعله أمام شقيقته “جوليا” التي تبدو منجذبة إليه. ويكشف الحوار الذي يدور بينهما عن نوع الجنون الذي يسيطر عليهما. وقد أعجبني بوجه خاص ذلك المشهد الذي يعقب وفاة الأم، والاستعداد لدفنها.

يدور المشهد في حجرة الجلوس في منزل الأسرة. جثمان الأم يرقد في النعش المسجى على الأرض. اثنتان من الراهبات يرتلن الصلوات. أليساندرو يطلب منهن المغادرة بقوله” إنها ربما تكون الفرصة الأخيرة لكي يختلي بشقيقته”. تسأله جوليا: لماذا صرفتهن؟ تتابعه الكاميرا إلى أن يجلس. يقول لها: لا لشيء. تقول: أنت دائما تود أن تبدو مهما. ينظر إليها نظرة ذات مغزى، فيها نوع من عدم الشعور بالارتياح، لكنها نظرة باردة كالثلج. ينهض ببطء، تتابعه الكاميرا في تحركه داخل الفضاء الضيق الخانق للغرفة التي تزدحم بقطع الأثاث، إلى أن يجلس في مقعد قريب من النعش. ننتقل إلى لقطة للجزء الأسفل من جسده. يمد إحدى ساقيه ويضعها فوق حافة النعش الذي يمكننا رؤية جثمان الأم يرقد داخله بوضوح. وننتقل إلى لقطة أخرى من زاوية مختلفة، حيث نرى كلا من ألسياندرو وجوليا يفصل بينهما ستار أبيض. أليساندرو إلى اليمين، وجوليا إلى اليسار، وصورة معلقة للأم في الخلفية على اليمين. يسأل شقيقته ببساطة بينما لايزال يمد قدمه فوق النعش: هل حزنتِ لموتها؟ ترد قائلة: ياله من سؤال! يعود ليسألها: هل أنتِ على ما يرام؟ تقول: لا أعرف.. الأمور مختلطة في ذهني.. هناك الكثير من الأفكار.. أليس الأمر كذلك معك أيضا؟ يجيبها: بالطبع.. إنها فرصة عظيمة.. يجب أن ينتهزها الجميع. الكاميرا لاتزال مركزة على وجه الفتاة (في لقطة قريبة، كلوز اب) بينما يأتي صوته من خارج الصورة.

أليساندرو: الم تلاحظي كيف كان أوجوستو يساعد بهمة؟

جوليا: ماذا يدور في رأسك؟

أليساندرو (من خارج الصورة بينما تنظر هي إلى الأرض): هل من الضروري أن تسألي هذا السؤال؟ أنا بركان من الأفكار.

تنهض جوليا من مقعدها في لقطة قريبة، وتقف، تتحرك ثم ننتقل عن طريق القطع إلى جثمان الأم في النعش ونرى صليبا كبيرا فوق صدرها.

أليساندرو يقفز فوق النعش إلى الجهة الأخرى. يجلس متحفزا. يركع.. يرفع ذراعيه أمامه ويتطلع إلى شقيقته التي تتساءل: هل أنت مجنون؟

في لقطة متوسطة نرى أليساندرو يجلس على يمين الكادر، وجوليا على اليسار، وبينهما النعش الأسود والستائر البيضاء في الخلفية مسدلة من الجهات الثلاث: اليمين واليسار والخلف. الضوء الساطع المنعكس على الستائر البيضاء يتناقض بصورة صارخة مع اللون الأسود القاتم لملابس الفتاة والشاب والنعش.

يواصل أليساندرو حديثه عن أوجوستو: ربما يريد أن يتزوج الآن وينتقل إلى المدينة؟ تنبهه هي في لقطة متوسطة تجمعهما معا بدون النعش (في الخلفية أزهار وورود) إلى أن أوجستو هو الذي يعطي الأوامر هنا، لكنه يقول لها إنه لم يعد يخضع لسلطته الآن. نعود إلى اللقطة السابقة حيث نرى الاثنين على الناحيتين يفصل بينهما النعش. يسخر هو من شقيقته بقوله” هل رأيتِ كيف كان يتبادل النظرات مع لوسيا وكأنهما لا يريان شيئا.. ألا ترين أنه يستغل فرصة وفاة ماما؟ تنهره جوليا بقولها: ولم لا يفعل؟ كل من لديه خطط سيفعل. أنت.. أليس لديك خطط؟ إنه سيستفيد لأنه الوحيد الذي يملك خططا.

يصمت أليساندرو ثم يقول: دعيني أوضح الأمور. هل تعتقدين أن موت ماما كان حادثا؟

تنظر إليه طويلا وتصمت في استنكار ولكنها تتطلع إلى سماع المزيد. يقول ببساطة: لقد قتلتها بيدي هاتين (لقطة لرأس الأم في النعش).. رغم خوفي.. إنني أجازف بالسجن مدى الحياة من أجل مصلحة الأسرة.

تحاول أن توقفه عن الحديث لكنه يواصل: لكنه مثل أي لص، فجأة يصبح الأخ الأكبر، ويُحضر لوسيا لكي تعد له القهوة.. وسوف يخرج بالثروة التي صنعتها أنا بعقلي الصغير الذي لا تثقين به (يرتفع صوته لدرجة الصراخ).. لقد خططت لكل شيء..

يزداد انفعاله وهو يقول: رأسي تؤلمني. ساعديني ياجوليا.. رأسي..

جوليا تنهض وتمسك رأسه بفزع ثم تحتضنه وتقبله وتطلب منه الصمت (سيسمعونا).

هذا المشهد الذي يعد من أطول مشاهد الفيلم، يجسد ملامح أسلوب بيللوكيو وطريقته في التعبير عما يكمن تحت السطح: تكوين اللقطات، الميزانسين، الاهتمام بالخلفية، التناقض في الإضاءة، استخدامه الجيد للتناقض بين الأبيض والأسود، الحوار الموحي المقتصد، الأداء التمثيلي الذي يتم التحكم فيه بدقة في اللقطات القريبة، المونتاج الذكي الذي يعرف أين ينتقل من لقطة إلى أخرى، وبحيث يخلق إيقاعا خاصا طبيعيا للمشهد، دون أن نلحظ أي قفزات في الانتقال من حجم إلى آخر، لكننا نرى تأثير الانتقال.

في مشهد آخر هو مشهد الحفل، يصطحب أوجوستو أليساندرو إلى حفل مع مجموعة من أصدقائه الشباب بينهم بالطبع خطيبته “لوسيا”. الجميع يرقصون رقصة التشاتشاتشا الشهيرة في الستينيات.. بنات وشباب.. لكن أليساندرو ينتحي جانبا، يجلس في مكان منعزل لا يشاركهم الرقص.. يراقب في صمت من بعيد.. يتناول قرصا ضد الصداع.. الكاميرا تدور حول رأسه إلى أن نرى وجهه كاملا.. أوجوستو ينظر إليه.. لوسيا تتطلع ناحيته.. نراه في النهاية ينهض ويرقص وحده ثم يمضي إلى الخارج ونظراته تشع كراهية وحقدا ضد الجميع. إنه يرفضهم ويرفض الاندماج معهم بأي شكل.

تحدث برتولوتشي ذات مرة عن الفرق بينه وبين بيللوكيو فقال: “كان ماركو يدرس السينما في معهد السينما بروما، بينما درست أنا السينما مع بازوليني عندما كان يصور فيلمه الأول “أكاتوني”. لقد قابلت ماركو عدة مرات، لكننا كنا مختلفين. أنا ولدت في بارما Parma، وهي مدينة تتميز بالجمال الشديد والرونق والأناقة في المعمار، بينما ولد هو ونشأ في مدينة بيتشينسا Petchinsa وهي مدينة صعبة. والمسافة بين المدينتين 50- 60 كيلومترا. وكان فيلمي الأول نوعا من السيرة الذاتية عن البورجوازي الصغير، ابن الطبقة الوسطى المتمرد، وكان يعكس جمال مدينة بارما. أما “الأيدي في الجيوب” فكان يروي قصة تجسد نموذجا مصغرا (ميكروكوزم) للمجتمع المحافظ: منطقة محاطة بالضباب، مليئة بالمطر، وعلى حين يمثل الإبن الأكبر للعائلة فكرة الامثتال للتقاليد، يعكس أليساندرو فكرة التمرد من خلال التدمير. وكان لوكاستيل، الممثل الذي أدى الدور، يذكرني بأدائه بمارلون براندو وهو شاب، أيام أن ظهر في فيلم “عربة اسمها الرغبة” (1951). ولم يكن الفيلم سياسيا لكنه كان يعكس رفض الطبقة من خلال رفض العائلة”.

يجب أن أذكر أيضا أنني دهشت كثيرا عندما اكتشفت أن لوكاستيل الذي برع كثيرا في أداء دور أليساندرو المعقد، ليس ممثلا إيطاليا بل هو أصلا من كولومبيا بأمريكا اللاتينية، وقد درس التمثيل لفترة قصيرة في معهد السينما بروما إلا أنه طرد من المعهد ليعمل في أدوار صغيرة منها، دور في فيلم “الفهد” الشهير لفيسكونتي قبل أن يحصل على دور البطولة في “الأيدي في الجيوب” بعد أن رفض مغني إيطالي شهير القيام به نزولا على نصيحة من والده. ونحن نشاهد تمثيل لوكاستيل لكن الصوت في الحقيقة ليس صوته، فقد استخدم الدوبلاج الإيطالي الشهير لتركيب صوت ممثل آخر. واقترض المخرج ماركو بيللوكيو بعض المال من أسرته لكي يخرج الفيلم وقام بتصويره في منزل تمتلكه عائلته حيث قضى سنوات طفولته. كان هذا في عصر السينما بالطبع!

المخرج ماركو بيللوكيو
Visited 2 times, 1 visit(s) today