” إمبراطورية ميم” عقد اجتماعي جديد
يمثل فيلم “إمبراطورية ميم” إضافة حقيقية الى مسيرة بطلته فاتن حمامة، ومخرجه حسين كمال، وكل المشاركين فيه، كما أنه أحد أفضل مشاركات نجيب محفوظ في العمل على قصة كتبها إحسان عبد القدوس، دور محفوظ هو إعداد القصة للسينما، وعمل التغييرات اللازمة على قصة إحسان، التي كانت تمنح البطولة لأب يتمرد أولاده على سلطته، فتحولت الحكاية في الفيلم الى قصة أم وأولادها، بما يناسب فاتن حمامة، وتطلب ذلك الكثير من التفصيلات، ومن العلاقات، ومن الأفكار التي تعمق مستويات القصة ذات المغزى السياسي والاجتماعي.
ورغم أن قطاعات واسعة من الجمهور، ما زالت تستقبل الفيلم حتى اليوم باعتباره عملا اجتماعيا أسريا بسيطا، عن حيرة أم في تربية أولادها الستة، وما زالت تستمتع في هدوء بمواقف طريفة نسجت ببراعة، سواء فيما يتعلق بصدامات الأم والأبناء، أو فيما يتعلق بقصة حب جديدة تعيشها الأم التي تجاوزت سن الشباب مع عريس جديد في مثل عمرها، إلا أن الكثيرين أيضا يستلفت نظرهم حوارات الأم بالذات مع ابنها الأكبر مصطفي (سيف الله أبو النجا)، ويتوقفون طويلا أمام أغرب فكرة عائلية، وهي مطالبة الأبناء بانتخابات حرة لاختيار الشخص الجدير بإدارة الأسرة، ويتعجبون أيضا أمام فكرة ترشح الابن الأكبر أمام أمه للفوز بمنصب القيادة، ثم اختيار الجميع للأم كقائدة للعائلة، ولكن هذه المرة بالانتخاب، وليس بسبب علاقة الدم القدرية.
الحقيقة أن المستوى الاجتماعي، والمغزى السياسي، يندمجان معا في سبيكة متماسكة واحدة، ولا شك عندي أن محفوظ قد استوعب مغزى حكاية إحسان القصيرة، وأعجبه أكثر أن المعادل الموضوعي للفكرة قد وجد ضالته في وعاء العائلة أو الأسرة، وبالتالي يمكن أن يمتد هذا المعادل المرن الى نهايته، وأن يستوعب مناقشات أولاد متمردين يمثلون جيلا قلقا ومختلفا، يريد أن يحقق ذاته، وأن يناقش كل شئ، بل ويريد أن يختار، وأن يفكك علاقات السلطة والإدارة، كما أنه معادل ذكي يستوعب، في نفس الوقت، تفصيلات عاطفية وإنسانية حاضرة في علاقة الأم بأبنائها، وفي وجوه المرأة المختلفة كأم، وكصاحبة مهنة، وكأنثى لم يمت قلبها بعد، ولم تتوقف عن الحب.
مستويات القراءة
وهكذا فإن الإعداد السينمائي لنجيب محفوظ، والسيناريو الذي اشتركت فيه كوثر هيكل ومحمد مصطفي سامي، والحوار الذي كتبه إحسان عبد القدوس صاحب القصة الأصلية، كل هذه الأسماء أخلصت للحكاية الاجتماعية، بنفس درجة إخلاصها للمغزى السياسي لها، بل إن هذه الأسماء عرفت تماما أن أفضل وسيلة لتمرير المغزى السياسي، هو أن ينتقل عبر قصة اجتماعية رسمت شخصياتها، ومشكلاتها، واختيرت أعمار أبطالها من الأولاد، بذكاء وواقعية، وكأن القصة لها وجهان لنفس العملة، وكأن “إمبراطورية ميم” مصطلح يصدق على عائلة كل أفرادها بمن فيهم الأم يحملون أسماء تبدأ بحرف الميم، مثلما يمكن أن يصدق على وطن بأكمله، يبدأ اسمه بحرف الميم، وهو “مصر” بالطبع.
هنا يجتمع للفيلم العمق مع البساطة، والتعامل الناضج مع الأفكار السياسية، التي لو قدمت بدون قصة وشخصيات من لحم ودم، لصرنا أمام حوارات جوفاء ومباشرة، وفي تاريخ السينما المصرية هناك القليل من هذه الصياغات الناضجة للمغزى السياسي، سواء بطريقة الإسقاط أو الرمز، لعل من أبرزها بالتأكيد فيلم حسين كمال الهام ” شيء من الخوف”، وحكايته ومغزاه لا يحتاجان الى شرح أو استفاضة.
المغزى الاجتماعي
” إمبراطورية ميم” إذن أمثولة، أو حكاية رمزية متعددة الدلالات، تبدو بسيطة للغاية في شكلها العام، بل يمكن أن تقرأ اجتماعيا باعتبارها قصة عن هموم امرأة مصرية عاملة، سواء في بيتها، أو في عملها، أو في مواجهة قصة عاطفية جديدة لها مع رجل يريد أن يتزوجها، وهي من هذه الزاوية الاجتماعية، يمكن أن تقرأ أيضا باعتبارها صراع أجيال طبيعي للغاية، فالمسافة بين الأم والرجل الذي يريد الزواج منها ( أحمد مظهر) من ناحية، وبين أولادها من ناحية أخرى، هى مسافة هائلة وطبيعية، هذا جيل أكثر جرأة في التعبير عن نفسه، بينما تبدو الأم متعثرة وخجولة ومرتبكة أمام علاقتها العاطفية.
والمسافة بين الأجيال واضحة أيضا في علاقة الأم منى، بأمها العجوز (دولت أبيض)، وهناك كذلك مسافة هائلة بين الأولاد الستة وبين جدتهم العجوز، التي تبدو في جزيرة منعزلة، رغم أن الجميع في بيت واحد، ويأكلون على مائدة واحدة، وهم بحكم علاقة الدم يمثلون عائلة واحدة.
التباين طبيعي أيضا بين الأولاد بحكم السن أو الخبرة أو المزاج أو حتى بسبب اختلاف مشكلات جنس الذكور وجنس البنات، والتعبير عن هذا التباين مدهش، سواء فيما يتعلق برسم شخصية كل ابن أو ابنة على حدة، أو سواء في تصرفات ومواقف كل واحد منهم، أو حتى في طريقة التعبير اللفظية عما يريدون، واختيار ممثلي هذه الأدوار من أبرز نقاط تفوق حسين كمال في هذا الفيلم، كما أن إدارتهم، وإذابة المسافة بينهم وبين ممثلة كبيرة مثل فاتن حمامة، جعلهم يبدون فعلا كأنهم مثل أبنائها بالفعل، بل إن فاتن حكت في كتاب عنها للصحفية زينب عبد الرازق، أنها ( أي فاتن) سألت والدة الممثل (الصبي وقتها) هشام سليم عن الألفاظ التي تستخدمها في تعنيف أولادها، ثم استخدمت فاتن نفس الألفاظ في الفيلم، وهي حكاية دالة تماما، سواء فيما يتعلق بوالدة هشام سليم في الفيلم، ولجوئها الى والدة هشام الحقيقية، أو فيما يتعلق بالحرص على واقعية التفاصيل، وبإدراك أهمية ذلك في دعم المغزى الاجتماعي للحكاية.
المغزى السياسي
هذا ما يفسر قوة الحكاية في مستواها الأول الهام كتابة وتنفيذا، ولكنها تحتمل بالتأكيد مغزى سياسيا هاما وخطيرا، فالأولاد لا يتناقشون من أجل الأشياء الصغيرة فقط، ولكنهم، وبتحريض من أخيهم “الفالح” مصطفي، يتحدثون عن حقوق مكتسبة، ويناقش مصطفي أيضا، ولأول مرة، معنى السلطة، ومبرراتها، وعلاقة امبراطورة الأسرة ( الأم) برعاياها ( الأولاد)، ثم يطالب، وهذا هو الأهم والأخطر، بأن تكون السلطة بالانتخاب، وتوافق الأم على ذلك، بعد أن وجدت نفسها في زاوية ضيقة، أو تخلصا من صداع لا يتوقف، مصطفي تحديدا يناقش في كل وقت، حتى وهو يستقبل عريس أمه الجديد.
هذه حكاية يتمثل مغزاها السياسي في مناقشة حدود السلطة الأبوية أو الأموية، وفيي ترسيخ ثقافة الحوار والسؤال بدلا من ثقافة الصمت والإذعان، ولا ننسى أن بطل القصة الأصلية “أب” وأولاده، والتغيير حدث فقط لكي يناسب الدور فاتن حمامة، ولا ننسى أن الأم منى تقوم بدور الأم، وبدور الأب البديل في نفس الوقت، بعد وفاة الأب (علي جوهر)، وهي أيضا في عملها في وزارة التربية والتعليم، صاحبة سلطة قوية، تصدر القرارات، وتدير الموظفين، وتقود حملات تفتيشية الى المدارس، للتأكد من تنفيذ تعليماتها.
الأولاد بزعامة مصطفي يريدون في الحقيقة تحويل الإمبراطورية الى جمهورية، ورغم أنهم يحبون أمهم بالتأكيد، إلا أن العقد الأسري (الاجتماعي) الموروث لا يكفي، علاقة الدم وحدها لا تبرر أن تتحكم بشكل مطلق في كائنات، يفترض أنها تمتلك إرادة أو شخصية مستقلة، فالأمر لابد أن يخضع للحوار والمناقشة.
لا يريد الفيلم محو السلطة، ولكنه، من خلال علاقة الأولاد وأمهم، يريد أن يفكك المصطلح، وأن يصنع علاقة أقوى ودائمة تقوم على فكرتي الحب والحرية، وهما الفكرتان التي دافع عنهما إحسان في كل أعماله، سواء كانت أعمالا عاطفية أو اجتماعية أو سياسية، والفكرتان لديه وجهان لعملة واحدة.
ولأن هناك فارقا بين سلطة الحاكم على شعبه، وسلطة الأم على أولادها، فالسلطة الثانية مرتبطة بالدم وبالتزامات يحددها الدين، وتحددها المجتمعات، فإن “إمبراطورية ميم” لا يريد إسقاط هذه السلطة، وإنما تطويرها بما يناسب العصر، وتأثرا بزمن ثورات الأجيال الشابة سواء في فرنسا (1968)، أو في مصر التي بدأ فيها عام 1972 بمظاهرات الطلاب الشهيرة احتجاجا على تأجيل قرار الحرب.
هذا جيل قلق يرفض المعايير القديمة، ويريد أن يكون له صوت ورأي مؤثر، ومن الأمور الدالة أن مظاهرات الاحتجاج في مصر على الأحكام الصادرة ضد قادة سلاح الطيران عام 1968، ومظاهرات الشباب في فرنسا في نفس العام، كانتا احتجاجا على أنظمة يحكمها اثنان من الحكام “الآباء” المحبوبين هما عبد الناصر في مصر، وديجول في فرنسا.
فكرة الحب في حد ذاتها إذن لا تعني أن يستغل الآباء ذلك، بل إن الديكتاتور يستخدم عادة نفس الحجة في السيطرة على شعبه، فيزعم أنه يحب الناس، ويعمل من أجلهم، ويعرف مصلحتهم أكثر منهم، هكذا يقول مصطفي صراحة لأمه، أى أنه حتى حب الأم الذي لا شك فيه لأولادها، وعلاقة الدم المقدسة والتي يكرسها الدين، وتكرسها كتب السماء، كل ذلك ليس مبررا لتجاهل الأبناء، أو لكي نفرض عليهم قرارات مصيرية تحدد مستقبلهم، الحوار هو الطريق الذي يقترحه الفيلم للعلاقة الصحية والصحيحة، والإقناع هو عنوان العقد الأسري والإجتماعي الجديد.
مسؤولية الحرية
من ناحية أخرى، فإن طيش الأولاد وتصرفاتهم الساذجة، وعدم قدرتهم على اختيار الصواب، ليس مبررا أيضا لتجاهلهم، أو لتحويلهم الى كائنات بلا إرادة أو قدرة، نتعاطف حقا مع الأم وهي تعاني من تصرفات غير مسؤولة في غيابها، ولكن لا يجب أن ننسى أن المسافة الواسعة بينها وبينهم بالأساس، هي التي أفرزت تلك الحريات العشوائية.
لا يمكن أن يكون الأبناء على صواب دائما، وعليهم أن يتعلموا، وأن يدركوا أن أصعب مسؤولية هي مسؤولية الحرية، وهي فكرة تتردد كثيرا في أعمال إحسان عبد القدوس، ومن أشهر تجلياتها رواية ” أنا حرة”، التي تحولت الى فيلم كتب له السيناريو نجيب محفوظ، وأخرجه صلاح ابو سيف، ومن الأمور الدالة أن محفوظ عندما قرأ الرواية قال إن بطلتها تمثل إحسان نفسه، لأنها تجسد سؤال الحرية عند إحسان عبد القدوس.
قد يأخذ البعض على “إمبراطورية ميم” أن الانتخابات الشعبية، والتي اشترك فيها الشعب كله بمن فيهم الخدم، قد أعادت السلطة الى الأم، وقد يرون أن الفيلم بذلك يكرس شرعية الشخص الذي تمردوا عليه من قبل، ولا يجد أن الشعب قادر على إدارة أحواله منفصلا عن سلطة أبوية ما، والرد على ذلك بسيط تماما: فالانتخابات لا تعني بالضرورة أن تغير السلطة، ولكنها تعني أن تكون الناس هي مصدر السلطة، ووضع الأم موضع المنافسة فكرة خطيرة للغاية، لأننا نضع حتى العلاقة المقدسة موضع الاختيار، ونضع جيل الآباء حرفيا أمام جيل الشباب، ولكن هدف الانتخابات ليس تحطيم فكرة القيادة والسلطة والإدارة، ولكن ترشيدها بتكريس هذا العقد الجديد القائم على الحب والحرية بصورة رمزية، إنها مجرد رسالة فهمتها الأم تماما، فعادت لأبنائها، وعادوا إليها، باختيار كامل وواع من الطرفين، احتفظت الإمبراطورية بلقبها، ولكنها تقوم الآن على علاقات متوازنة، وكل شئ الآن أصبح قابلا للحوار وللمراجعة وللتصحيح.
كل صوت حصلت عليه الأم تثبيت لشرعيتها، واعتراف من شعبها بدورها، وهي القبطان المسؤول، لم يشكك أبدا أحد في محبتها لأولادها، ولا محبة الأولاد لها، ولكن الفيلم يتحدث عن طريقة الإدارة، ومسؤولية السلطة والناس معا، هذه الإدارة تحتاج الى إعادة نظر، حتى على مستوي الأسرة الصغيرة المقدسة، فما بالنا بعلاقة الحاكم والشعب، التي يجب أن تتأسس على علاقة جديدة؟ ولا ننسى أن الحاكم يستخدم أحيانا تعبير “كبير العائلة” لجعل نفسه فوق النقد، ولكن ها هي عائلة تنتقد كبيرتها، وتناقش في كل ما تراه، بل وتنتظر نتيجة انتخابات ينافسها فيها ابنها!
آفاق واسعة
الحب مصدر السلطات، الحرية أيضا مصدر السلطات، احترام الآخر مصدر السلطات، الاختيار والانتخاب مصدر السلطات، الأمثولة تأخذ حضورها على مستوى العائلة، لتنطلق في مغزاها الى آفاق أكبر وأعمق، وعند صناع الفيلم، لا تختلف سياسة عائلة على الحب والحرية كثيرا عن سياسة السلطة للناس بنفس الطريقة المتوازنة.
تقدم فاتن حمامة في هذا الفيلم أداء مدهشا، لأنها في الحقيقة متعددة الوجوه: أم ومديرة وأنثى معا، وهى تنتقل ببراعة بين هذا الأدوار، وتمنح علاقتها مع أولادها بشكل خاص حيوية وحميمية عظيمة، وأولادها أيضا كانوا على نفس الموجة، بينما جسد أحمد مظهر دوره بشكل جيد، وكانت دولت أبيض رائعة في دور الجدة، ورغم مشاهد كثيرة من الفيلم محصورة داخل الفيلا، إلا أن المكان بدا ملونا وفسيحا باتساع أحلام الأولاد.
موسيقى الفيلم اختارها طارق شرارة من فيلم إيطالي شهير بعنوان ” الفينيسي المجهول” عرض قبل عامين فقط من “امبراطورية ميم”(!!) لا شك أن كتابة مؤلف مصري للموسيقى التصويرية كان أمرا أفضل، عظمة موسيقى ستيلفيو كبريانى الموسيقار الإيطالي لا يمكن إنكارها، ولكنها ارتبطت بعمل آخر مشهور، ولا يكفي أبدا أن يكون فيلمنا عن الحب لكي نأخذ موسيقى فيلم رومانسي معروف. كان يمكن لأى موسيقار مصري كبير كتابة عمل مبدع مستلهما أحداث الفيلم بدلا هذه المصادرة بالاستعانة بعمل أجنبي، مع اعترافنا بجمال العمل الإيطالي، ورسوخ جمله الموسيقية في الأذهان.
“امبراطورية ميم” ليس فيلما عاديا، إنه صوت جيل بأكمله، ارتفع هذا الصوت في بداية عام 1972 بالاحتجاج والتظاهر، وعبّر عن نفسه في نوفمبر من نفس العام بعرض فيلم يفرض فيه حق الاختيار على الجميع.
لا يهم أن تسمى “ميم”، الأسرة أو الوطن، إمبراطورية أو مملكة أو جمهورية، المهم أن تكون ساحة للحب وللحرية على الدوام، وعلى كل المستويات.