“إستروبيا”.. أحلام الفلسطينيين تُغرقها قوارب الموت

بين جدران الحصار.. صحراء سيناء.. البحر المتوسط، تتجسد تراجيديا الحياة اليومية في غزة لتظهر الهجرة غير الشرعية كطوق نجاة مُر يلوح  أمام شخصيات فيلم “أستروبيا” 2019 للمخرج أحمد حسونة؛ الذي نقل من خلاله واقع حياة الشاب الفلسطيني بقطاع غزة بعد حربي عام 2012 و2014، فهل تكون الهجرة، كما يصورها الفيلم، طوق نجاة حقيقي أم مجرّد وهم يقود إلى مصير مجهول؟

اختار المخرج أحمد حسونة اسم أستروبيا كعنوانٍ للفيلم، وهو مصطلح يعني “الخسارة غير الضرورية”، ليعبر من خلاله عن تجربة أهالي غزة المحفوفة بالضياع والألم الذي يُفرض عليهم بشكل غير ضروري، يحمل العنوان دلالةً رمزية لما يواجهه الفلسطينيون من خسائر كان يمكن تجنبها، مثل الانقسام الداخلي، والهجرة عبر البحر، وهجرة العقول من غزة.

أستروبيا هو فيلم فلسطيني تم تصويره بالكامل في قطاع غزة، رغم قلة الموارد هناك وصعوبة الحال إلا أن طاقم العمل بالفيلم استمروا بالعمل على مدار أربع سنوات ونصف إصراراً منهم على نقل هذا الواقع، يسلط أستروبيا الضوء على الواقع الذي يعيشه الشباب الغزي، والأزمات النفسية والاجتماعية التي يعانو منها، كالفقر والبطالة والحصار وسوء الوضع المعيشي داخل القطاع لتتحول حياتهم من مجرد حياة عادية بالقطاع إلا هلوسة الهروب لواقع أجمل وأكثر أمن وحرية وتمثل ذلك بمحاولة هروبهم عن طريق البحر بالهجرة غير الشرعية أملاً منهم بالوصول إلى بلجيكا، لكن ليس الاحتلال وحده الذي منعهم من الهجرة هذه المرة.. فهناك قوة شر أخرى في الفيلم وهي المافيا.

تبدأ هذه الرحلة في ذهن الشخصيات لتنتهي بالبحر.. في بداية الفيلم يتم تقديم الشخصيات وأوضاعهم في غزة، فهم بين نارين.. نار الحصار ونار البطالة التي أثقلتهم بالهموم، نرى كل من عمار ومحمد وتوفيق يحملون آلآما مختلفة، عمار ( فراس المصري) رب الأسرى والمعلم الذي لم يكن يرى الهجرة حلاً يومًا كان يعيش صراعًا داخلياً بين رغبة قوية بتقديم حياة كريمة لعائلته وبين ضغوطات الحياة القاسية بقطاع غزة ، فعندما وجد نفسه عاجزًا عن إعالة زوجته وابنته الصغيرة (حلا)، تصاعد الحدث هنا تدريجياً عندما بدأ الجيران يتصدقون بالملابس لابنته، وبدأت زوجته تعمل في منازل الآخرين لتنظيفها، مما دفعه لبيع منزله والتوجه لصديقه محمد طالبًا منه إرفاق اسمه وعائلته للهجرة معهم إلى بلجيكا.

فمحمد (مصطفى عودة)، صديقه وشريكه في اليأس، عاش ظروفًا مشابهة، لكنها تركت أثرًا مختلفًا عليه، بينما شعر عمار بالانكسار تجاه عائلته وصورة الأب المثالي التي لطالما أراد تجسيدها، وجد محمد نفسه في مواجهة فراغ أكبر؛ ورغبة في الهروب من حياة تسلبه كل طموح، منذ بداية الفيلم ظهر وفكرة الهجرة تسيطر على ذهنه، لم تكن مجرد حلم أو أمل بل أصبحت هاجسًا يلاحقه، ولم يكن يهمه أنه سيخسر أمواله عندما يعطيها لجعفر رجل المافيا، حتى أنه قال بمرارة إنه مستعد لدفع أمواله حتى للشيطان إذا كان هذا سيمكنه من مغادرة غزة، عمل لفترة طويلة كميكانيكي سيارات وهو حاصلاً على درجة الماجستير مما زاد صراعه الداخلي وهاجسه بعدم حصوله على فرصة مناسبة بوطنه.

بينما كانت أحلام محمد في الهجرة تشكل له مخرجًا وحيدًا من غزة، كان توفيق (غسان سالم) يعاني من نوع آخر من اليأس، محاصرًا داخل دوامة من المسؤوليات العاطفية والاقتصادية، توفيق كان طالبًا جامعيًا، لا يملك من المال ما يكفي للزواج بحبيبته غادة، فكان يحاول جاهداً جمع المال الذي يمكنه من الزواج منها لكن قبل أن يكتمل ذلك.. أصبحت غادة حاملاً منه،  فتتضاعف رغبته في الهروب بعد مقتلها على يد شقيقها دفاعًا عن “شرف العائلة”، تاركاً وراءه ألم الحب المهدور وشبح الموت الذي يطارده.

 لكل واحد منهم أسبابه المختلفة، لكنّهم يشتركون في البحث عن حياة جديدة خالية من الخوف والجوع والقمع، حيث يمكنهم تحقيق أبسط أحلامهم الإنسانية، لكن هل تحققت هذه الأحلام أم أصبحو هم الأحلام؟

تتجاوز معاناة الشخصيات مثل عمار ومحمد وتوفيق كونها مجرد صراع فردي من أجل النجاة، بل هي انعكاس للواقع السياسي القاسي الذي يعيشه الفلسطينيون في غزة تحت الاحتلال الإسرائيلي، والهجرة.. هي استجابة مباشرة للضغوط الناتجة عن الحصار المفروض، قلة الفرص الاقتصادية، والقيود السياسية التي يفرضها الاحتلال جميعها الدافع الأساسي لفكرة الهجرة التي تولدت عند الشخصيات، يظل فيلم أستروبيا ذو صلة وثيقة بالسياق السياسي الفلسطيني الحالي لعام 2024، حيث يعكس معاناة الفلسطينيين المستمرة بسبب الاحتلال الإسرائيلي، في ظل استمرار الحصار المفروض على غزة وتدهور الأوضاع الاقتصادية منذ الحرب الأخيرة في أكتوبر 2023.

أسلوب حسونة في الإخراج واقعي يعكس بشكل قوي الأجواء القاتمة والخيبة التي يعيشها سكان غزة، ويسلط الضوء على الصراع الداخلي للشخصيات، فاستخدم اللقطات القريبة بالتركيز على تعبيرات الوجه ليظهر مشاعر الشخصيات المكبوتة، كاللقطات التي ظهر بها المعلم عمار وهو حزين ويشعر باليأس وتوفيق وهو يبكي حبيبته غادة.

غزة في الفيلم تظهر بشوارعها وأماكنها الحقيقية فهي ليست مجرد خلفية لأحداث الفيلم بل هي جزء لا يتجزأ من القصة، فظهر ذلك بالتصوير في الأماكن المغلقة والشوارع الضيقة في معظم المشاهد لإظهار القيود المكانية والاجتماعية التي يعيشها الناس في غزة، من خلال هذه البيئة، يعكس الفيلم عجز الشخصيات عن الهروب من محيطها المحدود، حسونة اتبع أسلوبًا سينمائيًا يعتمد بشكل كبير على استخدام الزوايا المغلقة لإظهار التوتر الداخلي للشخصيات، والزواية العالية التي تساهم في تعزيز شعور الشخصيات بالعزلة أو القهر أمام بيئتها. التي  تستخدم لإظهار تعابير الوجه عن قريب لتتيح للمشاهدين قراءة أفكار(Close-Up Angle) وزاوية ومشاعر الشخصيات، ولعبت حركة الكاميرا المهتزة والسريعة دورًا بالتأكيد على حالة الاَضطراب التي كانت تعيشها الشخصيات، و تساهم الإضاءة الخافتة والمظلمة في خلق جو من الغموض والحزن، وبرز المونتاج والإيقاع السينمائي كأدوات حيوية في بناء توتر الفيلم وتعميق المعنى الدرامي، حيث يتم استخدام تقطيع مشاهد سريع في بعض اللحظات لتعكس التوتر أو الاضطراب الداخلي للشخصيات.

 أما الإيقاع السينمائي فيعتبر بطيئًا في أغلب المشاهد، مما يساهم في خلق شعور بالركود أو العجز، كذلك يُستخدم الإيقاع البطيء لتمديد اللحظات العاطفية وترك المجال للمشاهد أن يتفاعل مع المشاعر التي يمر بها الأبطال، و تُستخدم الألوان الداكنة في الفيلم مثل الأسود، الرمادي، والبني، مما يضفي جوًا من الكآبة والضيق للشخصيات، واللون الأزرق ليدل على البرود.

التصوير تم بالفعل في مواقع طبيعية وواقعية داخل غزة، مما أعطى الفيلم إحساسًا قويًا بالمصداقية وعزز ارتباطه بالواقع الفلسطيني المحيط. ومع ذلك، يمكن القول إن هذا النهج قد ضيّق نطاق السرد البصري بعض الشيء، حيث جعل الفيلم أقرب إلى النمط الوثائقي، هذا الانتقال نحو الواقعية  يُفقِد الفيلم بعض التأثيرات السينمائية الدرامية التي كان يمكن تحقيقها من خلال استخدام مواقع تصوير إبداعية أو معدّلة.

يبرز فيلم أستروبيا الهجرة كخيار نهائي وملجأ وحيد لشخصياته، دون تقديم بدائل أخرى كالصمود أو المقاومة، وهي خيارات لطالما شكّلت جوهر الصورة الفلسطينية، ولم يظهر صانع الفيلم الصراع الداخلي الذي قد يشعر به الشخص الفلسطيني قبل اتخاذ قرار مغادرة وطنه.

 بعكس التناول نظرة أحادية تُظهر الهجرة كحل للهروب من واقع قاسٍ، وهو ما قد يُفهم على أنه دعوة ضمنية للتخلي عن الأرض والوطن، إن الصمود والثبات على الأرض يمثلان جزءًا من الهوية الفلسطينية المتأصلة، حيث يسعى الفلسطيني إلى مقاومة الظروف بدلاً من تركها، بغض النظر عن الصعوبات.

شخصية يوسف تمثل الصمود والإصرار على البقاء في الوطن بالرغم من الظروف القاسية التي يواجهها، رفضه للهجرة ومحاولاته المستمرة لإقناع أصدقائه بعدم الهروب تدل على تمسكه بجذوره وحبه لوطنه، لكن يوسف، الذي يسعى للانتقام لوالده الذي تعرض للإيذاء من رجال المافيا ، يدفع ثمن تمسكه بالعدالة، فيجد نفسه في النهاية ضحية لهم، الذين قتلوه بسبب محاولته كشف فسادهم، بينما يكون الاحتلال هو العدو الخارجي، فإن المافيا تمثل أعداء داخليين يعملون على استغلال ضعف النظام وانعدام الأمن، هذه التعددية في التهديدات تجعل الفلسطيني في حالة صراع دائم، حيث يتعين عليه مواجهة قوى أكبر من قدراته الفردية.

رغبة الفلسطينيين في الهجرة التي تظهر في أستروبيا تمثل تحولًا مؤلمًا في الهوية الفلسطينية، فنعلم أن الفلسطيني يرفض التخلي عن أرضه ويعتبرها جزءًا أساسيًا من هويته ووجوده. ولكن في الفيلم، تظهر الشخصيات مثل عمار ومحمد، الذين يفكرون في الهجرة أو الهروب من وطنهم، وهو ما يشير إلى مستوى كبير من اليأس.

إخفاق المخرج هنا هو أنه لم يعمق العلاقة النفسية والعاطفية للشخصيات مع أرضهم كما هو معروف في الثقافة الفلسطينية، ولم يُظهر بما فيه الكفاية التوترات الداخلية التي تجعل الهجرة أكثر من مجرد قرار اقتصادي أو اجتماعي، بل خيارًا مدمرًا للمستقبل، وبالتالي فقد أضعف من تأثير الفيلم كأداة نقدية للسياق السياسي.

 ومن جانب أخر طرح صانع الفيلم هجرة العقول كموضوع أساسي من خلال شخصية محمد الحامل لدرجة الماجستير وعمار المعلم وتوفيق الطالب الجامعي فجميعهم باتصال مع التعليم بشكل واضح، لكن يعرض شخصية عمار المعلم، الذي يُفترض به أن يكون نموذجاً للتشبث بالوطن وتعليم الأجيال قيم الثبات والمقاومة، في صورة شخص تملّكه اليأس ورغب في الهجرة.

وبهذا يعكس الفيلم تدهور صورة المعلم الفلسطيني من محارب فكري يسهم في صمود الهوية إلى فرد عاجز أمام ضغوط الواقع الاقتصادي والاجتماعي، كان من الممكن أن يكون التأثير أقوى لو أظهر صانع الفيلم بريق الأمل في التعليم كأداة للمقاومة الفكرية؛ وسيلة للنهوض بالمجتمع نحو مستقبل أفضل، بدلاً من تقديم الهجرة كملاذ وحيد.

يواجه عالم التمثيل في غزة تحديات استثنائية بسبب الحصار المفروض، الذي قلل من وجود ممثليين إلا أن صانع الفيلم أبدع بتدريب عدة شبان هواة وحول شغفهم الى عمل فني، وقد نجح بنقل أصواتهم وقصصهم إلى العالم من خلال هذا الفن، فيبرز أداء الممثلين في تجسيد الصراعات الداخلية والأزمات النفسية التي تواجه شخصياتهم، إلا أن هناك تفاوتًا في قدرة كل ممثل على إيصال الأبعاد العاطفية والإنسانية بشكل مؤثر، ظهر الممثل الذي يلعب دور عمار قدرة جيدة على التعبير عن حالة اليأس المتصاعد.

وقدم الممثل الذي يلعب دور محمد أداءً ثابتًا في تجسيد شخصية شاب مستسلم تمامًا لرغبته في الهجرة، مستعد لدفع أي ثمن للوصول إلى الحرية، أما توفيق كان أداء الممثل هنا حساسًا فهو يجسد مأساة الشاب الذي لم يستطيع الزواج من حبيبته وندم على مقتلها بعد حملها.

إن مشهد ذبح الطير كبديل بصري مختصر عن إظهار قتل غادة مباشرةً يعتبر اقتصادًا بالعلامة هذه التقنية توفر إشارة دلالية قوية ومختزلة للمأساة، بدون الحاجة إلى تصوير تفاصيل القتل الصريحة، تم مشهد ذبح الطير أمام توفيق، مما يرمز إلى الخسارة والفقدان، فالطير، الذي غالباً ما يرتبط بالحرية والطيران، يُذبح أمام توفيق، مما يرمز إلى أن أحلامه بالحب والسعادة قد تم قمعها بوحشية، تماماً كما قُضي على حرية الطير.

الميدالية على شكل نصف قلب التي يحملها توفيق في فيلم أستروبيا تعتبر رمزاً للعلاقة العاطفية العميقة بينه وبين غادة، ولتلك الرابطة غير المكتملة التي تجمعهما، حمل توفيق نصف الميدالية فيما تحمل غادة النصف الآخر يعكس اتحادهما العاطفي رغم العوائق، وبقي توفيق متمكسًا بهذه الميدالية رغم مقتل حبيبته غادة وهو في منتصف البحر بعد غرقهم أثناء محاولته للهجرة غير الشرعية، لتصبح هذه الميدالية رمزاً لمعاناة الفلسطيني المرتبطة بالفقد والانتماء المكسور، والحب الغير مكتمل.

 بدت النهاية متوقعة ومعنوية بسبب البناء الدرامي الواضح الذي قاد الأحداث نحو نتيجة مأساوية ومحسومة سلفًا، حيث يستسلم الأبطال للهرب رغم المخاطر، من البداية، ترسخت فكرة الهجرة كخيارهم الوحيد، مما جعل توقع النهاية أسهل على المشاهد، خاصة مع تضييق الخيارات أمام الشخصيات وتصاعد الضغوط النفسية والاجتماعية عليهم.

 إضافة إلى ذلك، رسّخ الفيلم شعورًا بأن المخرج يسعى لإيصال رسالة معنوية ترتبط باليأس والاختناق، و أن غرق جواز السفر الفلسطيني في الماء يرمز إلى فقدان الهوية والانتماء، إذ يعدّ جواز السفر رمزًا للانتماء والوطنية، فهذا يعزز البعد المعنوي للفيلم  الذي يوحي بأن الهجرة لا تضمن النجاة أو الحرية إنما هي فقدان الهوية في حياة غامضة وقاسية.

Visited 25 times, 1 visit(s) today