أوراق سان سباستيان (6): عن تلك التي “تمشي في الظلام”
أمير العمري- سان سباستيان
كان من أفضل وأجمل وأقوى الأفلام التي عرضت في الدورة الـ73 من مهرجان سان سباستيان السينمائي الدولي (19- 27 سبتمبر) الفيلم الذي ينتمي قلبا وقالبا إلى السينما الإسبانية، وعنوانه بالإسبانية هو Un fantasma en la Batalla أي “شبح في معركة”، أما العنوان الدولي باللغة الإنجليزية للتوزيع الدولي فهو “تمشي في الظلام”She Walks in Darkness، وهو من إخراج واحد من كبار المخرجين الإسبان، وهو المخرج المرموق أغوستين دياز يانيس (مواليد 1950). والمقصود بـ”الجمال” هنا، جمال الصورة، والتكوينات، واستخدام الزوايا وأحجام اللقطات بطريقة محسوبة تماما، تضفي طابعا واقعيا على الدراما العنيفة التي يصورها الفيلم، مع اختيار جيد لمواقع التصوير التي تمنح الفيلم خصوصيته وتفرده.
هذا فيلم من نوع الثريللر Thriller، أو أفلام الإثارة البوليسية والتشويق، ولكنه أبعد كثيرا من هذا، فهو فيلم سياسي واقعي يسير على خطى الفيلم- نوار، ولكن مع استخدام أسلوب يمزج بين الوثائق المأخوذة من الأرشيف، من المواد التسجيلية المصورة، وسرد بعض المعلومات المهمة على الشاشة، لاطلاع الجمهور على الخلفية التاريخية والسياسية للأحداث التي تتعلق بوجه خاص، بنشاط منظمة إيتا ETA الانفصالية التي كافحت طويلا من أجل تحقيق الاستقلال لإقليم الباسك عن سيادة الدولة الإسبانية، واتسم كفاحها السري بأعمال العنف والإرهاب ، شملت خطف عدد من الشخصيات الرسمية، والاغتيالات، وتفجير القنابل.
وشأن معظم أفلام المخرج يانيس، الذي عرف بمنح المرأة الدور الرئيسي ووضعها في قلب أفلامه، تقوم الممثلة سوزانا أبيتوا Susana Abaitua بدور البطولة، دور “أمايا” المرأة الشابة الجميلة التي تقرر، بعد تزايد عمليات التفجيرات والاغتيالات التي أثارت الرأي العام في إسبانيا وبلغت ذروتها في منتصف التسعينيات وأدت إلى خروج مئات الآلاف في مظاهرات عارمة ضد ما أحدثته منظمة “إيتا” من فوضى وانقسام في البلاد، الانضمام إلى الجناح الخاص الذي تم تشكيله داخل جهاز الأمن، لكي يكون بمثابة جيش سري لمواجهة المنظمة الباسكية الإرهابية والعمل على اختراقها وتفكيكها من الداخل.

يذكرنا أداء الممثلة الإسبانية الموهوبة “سوزانا ألباتوا” بالنجمة الفرنسية إيزابيل أدجاني، سواء في مظهرها أو في أسلوب أدائها. ولا شك أن حضورها البارز في الفيلم، وشخصيتها التي تجمع بين الجاذبية الشديدة والقوة، تمنح الفيلم الكثير من قوته. ولكن العنصر الأكثر بروزا في الفيلم والأكثر تأثيرا هو السيناريو المتقن الذي كتبه يانيس نفسه، والذي يجمع بين الرقة والعنف، وبين القصص الشخصية، والرواية العامة، أي بين الخاص والعام، في أسلوب شديد الجاذبية، ومن خلال إيقاع ينساب ويتدفق، دون لحظة واحدة من الخلل. إنه واحد من أكثر أفلام التشويق التي تجمع بين الرصانة والدقة والوضوح والجمال، في الصورة، وفي الموسيقى، ولا شك أن اختياره للأغنية الإيطالية المميزة كنوع من الشفرة الخاصة التي يتم استخدامها للواصل بين العميلة السرية والجهاز التي يشغلها، هو ابتكار رائع وممتع أيضا.
“أمايا” متخصصة في الأدب الإنجليزي وبالأخص أعمال الشاعر والأديب الأيرلندي الشهير وليم ييتس (حائز جائزة نوبل في الآداب عام 1923)، وهي تردد أمام رئيس الجهاز الذي يختبر قدرتها على العمل تحت ظروف شاقة قد تؤدي إلى فقدان حياتهاـ أبياتا من شعر ييتس تقول: “أنا لا أقاتل من أجل الواجب، ولا بالقانون، ولا بأمر قائد، ولا سعيًا وراء المجد وصرخة الجماهير.. دافعٌ وحيدٌ من البهجة.. أوصلني إلى هذه الضجة بين الغيوم.”
ومن المثير للتأمل أن المقطع الشعري من ييتس، يلقى قبولا عند رئيسها في العمل السري، وزعيمة التنظيم السري في الشمال.
وسوف تعود “أمايا” فيما بعد لترديد نفس الأبيات أمام الزعيمة المحلية في لمنظمة إيتا في منطقة الباسك (التي تقوم بدورها إيرايا إلياس)، وهي المرأة القوية التي يقضي زوجها عقوبة السجن مدى الحياة، وسوف يأتيها فيما بعد، خبر موته (الذي يقال إنه وقع تحت التعذيب) فيزيدها الأمر رغبة في الانتقام وإراقة الدماء. وهذه الشخصية مثل شخصية الزوج الذي يتوفى داخل السجن ويؤدي موته إلى خروج مظاهرات احتجاج في إقليم الباسك، وغيره من الشخصيات الرئيسية، كلها تستند إلى شخصيات حقيقية. والغريب أن تلك المظاهرات التي نشاهدها من خلال مشاهد من الأرشيف، أي لقطات حقيقية، يهتف فيها المتظاهرون تأييدا لمنظمة إيتا الإرهابية. لكن الأمر لن يبقى على ما كان عليه، بل سيتغير المزاج العام فيما مع ارتفاع موجة الاحتجاجات في عموم إسبانيا مع اغتيال عدد من زعماء الأحزاب الاشتراكية واليسارية ومسؤولي البلديات والنقابات الذين كانوا يحظون بشعبية كبيرة وسط تجمعاتهم.

في أداء سلس، خافت، لا تحاول سوزانا ابيتوا، تقليد جيمس بوند، ولا محاكاة أبطال السينما الأمريكية الذين يستحوذون عادة على بؤرة الصورة من خلال ما يقومون به من أعمال عنف بطولية مبالغ فيها كثيرا، فهي لا تلجأ إلى العنف سوى مرة واحدة فقط، بعد أن اضطرت اضطرارا، وبعدها تقرر رفض استخدام السلاح مجددا مهما كلفها الأمر.
هي ستتمكن من إقناع زعيمة المنظمة في الباسك بدوافعها للالتحاق بالمنظمة، وتجيد نسج القصة التي اتخذتها غطاء لها، بزعم أنها تنتمي للمنطقة، كما تعرف بعضا من اللغة المحلية، رغم أننا نعرف من البداية أنها جاءت أصلا من اشبيلية في الأندلس. ورغم نجاحها في الحصول على ثقة الزعيمة المحلية إلا أنها ستواجه قدرا لا بأس به من التشكك سواء من قبل ضابط من ضباط المنظمة يقوم بالتفجيرات والاغتيالات، ثم من قبل الزعيمة الأكبر للمنظمة في جنوب فرنسا بعد أن تنتقل للعمل هناك من أجل العثور على المعلومات المطلوبة لتفكيك خلايا المنظمة في الأراضي الفرنسية بعد أن نقلت معظم خلاياها ومخازن أسلحتها إلى هناك، خصوصا وأن المسافة بين الحدود الفرنسية وإقليم الباسك في أقصى الشمال الغربي الإسباني لا تزيد عن كيلومترات محدودة وهي منطقة تنتشر فيها الغابات ويمكن بالتالي اختراقها بسهولة. لذا كان من الضروري أن توجد عميلة مدربة حاصلة على ثقة المنظمة السرية، تراقب وتعمل وتنقل المعلومات بطريقتها الخاصة..

هناك بالطبع مشاهد مثيرة، للتعقب والمطاردة والتخفي، ومشاهد أخرى لعمليات تضطر العميلة الحسناء للمشاركة فيها ولو بدور سائقة السيارة التي تنقل رجال التنفيذ، وهناك مشاهد أخرى للحياة الخاصة لأماليا، مثل علاقتها التي تضطر لقطعها مع صديقها الذي تعرفت إليه خلال إقامتها في بروكسل، وكيف ستضطر أن تقبل للإقامة معها في نفس الشقة، ضابط من ضباط المنظمة الإرهابية، لكنها ستصبح فرصة بالمسبة لها، للاطلاع على الكثير من الأسرار.
وكلها مشاهد واقعية تماما، ومصورة بشكل مقنع ومتقن للغاية، مع الانتقال بين أماكن متعددة في إسبانياـ ومنها بالطبع مدينة سان سباستيان نفسها، واستخدام اللغتين الإسبانية والباسكية.
تستمر أحداث الفيلم المثير الذي يطرح موضوع العزيمة والوحدة والخطر والخداع، ويستمر السرد على مدار 12 عامًا، من 1992 إلى 2004. دون ان يضطرب رغم استخدام الوثائق المصورة وكتابة المعلومات على الشاشة، ودون أن ينحرف الفيلم في اتجاه الميلودراما، كما لا ينحصر بين الأشرار والخيرين، فمعظم الشخصيات التي نراها هي على نحو أو آخر، جزء ن المشهد العام لحالة الاضطراب السياسي التي عرفتها إسبانيا بعد زوال حكم الجنرال فرانكو.
الخبر الجيد: هو أن هذا الفيلم سيعرض عبر منصة نتفليكس في 17 أكتوبر القادم.
