“أم غايب” وسحر التراث الشعبي
يظل للتراث الشعبي غوايته مهما مرت السنين، سواء عند من يقرأ عنه في الكتب والمجلدات، أو يستمع إلى حكايات النساء العجائز اللاتي يمتلكن النصيب الأوفر منه في القرى والنجوع النائية، أو لدى من يتابع ممارساته في الاحتفالات الدينية والشعبية التي يتخللها جزء كبير من هذه الممارسات. وقد كان للسينما التسجيلية نصيب كبير في توثيق بعض أشكال هذا التراث الذي أخذ في الاختفاء تدريجيًا.
يضع الفيلم التسجيلي المصري “أم غايب” (85 ق) للمخرجة نادين صليب بين أيدينا كنزًا من التراث الشعبي، سواء المنطوق “قصصيًا” على أفواه بعض الأبطال، أو الممارسات الشعبية المتعلقة بالإنجاب خاصة ونراها أمامنا في الفيلم “إجرائيًا”، وذلك من خلال شخصية “حنان” التي يَطلق أهل القرية عليها لقب “أم غايب” وهو تعبير شعبي بليغ يقصد به المرأة العاقر التي لا تنجب، فالغائب هنا هو الابن، فالمفروض في الذهن الشعبي ان يكون للمرأة المتزوجة أطفال، وعدم وجودهم لا يعني استحالة هذا الوجود، وكما ان هناك الأمل في عودة الغائب، هناك أمل في ان تلد هذه المرأة العاقر.
من خلال الأحاديث المتعددة الجوانب مع حنان ومن حولها من النسوة الجيران والأقارب، طوال عرض الفيلم الذي يصل إلى 92 دقيقة، نسمع ونرى الكثير مما يعتبر تراثًا شعبيًا، يدور حول الإنجاب وعلاقة الرجل بالمرأة، وعلاقة المرأة بنظيراتها من النساء، ونظرة المرأة الحياة والموت.
تحكي حنان عن أدائها بعض الطقوس الشعبية، بناء على نصائح الداية “أم منصور”، مثل العبور فوق ثعبان ضخم والذهاب إلى السلخانة والمشرحة حتى تقوم “خضّتها” بكسر حاجزها النفسي والبيولوجي تجاه الحمل، وكذلك العبور فوق شريط السكة الحديد، وأخذ بعض شعيرات بيضاء من رجل عجوز وتغمسها في العسل وتتركها في الشمس حتى تجف، ثم تحرقها وتقف فوقها حتى يدخل دخانها في جسدها من أسفل الملابس. كذلك نراها تقوم بالعبور فوق أحد المقابر، ثم تؤدي طقس “الكُحريتة” وهو عبارة عن “التدحرج” من أعلى الجبل إلى أسفله بعد أن تلف جسدها بسجادة حتى لا تنكسر عظامها أو تصاب بأي جروح.
وثم ننقل إلى بعض الحكايات التراثية الشعبية على فم “أم منصور” الداية، ونسمع منها عن قصة المرأة “أم عجور” التي انتقمت من ابنها حينما عايرتها زوجة الابن الأم بحادثة جنسية قديمة، وقامت الأم بقتل ابنها عن طريق كسر الإناء الفخاري الذي يضم “الخلاص” الخاص به (ما يخرج من رحم المرأة مع الولادة)، والذي كانت قد دفنته أسفل عتبة المنزل حفاظًا على حياته واستمرارها، بعد أن مات كل من قبله من أطفال. ومن حكاياتها أيضًا قصة جفاف لبن صدر الأم المرضعة إذا دخل عليها شخص قص شعره حديثًا أو شخص عائد من جنازة.
تظن حنان ان عجزها عن الخلفة انتقام من ” الله/ القدر” لرفضها الزواج من الرجل الذي اختاره لها والدها وهي طفلة وكانت معظم الزيجات تتم بذلك الشكل من “العهود” أن يعطي الرجل كلمة انه “حجز” هذه الطفلة الصغيرة لابنه الصبي.
لا شك أن العادات والتقاليد والطقوس الشعبية تمثل مادة ثرية تخص “علم الأنثروبولوجي” لكنها قد لا تكفي لكي تصنع فيلمًا، فالفيلم لا يقتصر على الطرح لما احتواه من أساطير وممارسات شعبية. بل يجب أن يتجاوز حدود الأنثروبولوجيا ليقدم رؤية ومعالجة، وهو ما فعلته نادين صليب في فيلم “أم غايب”، حيث يكشف لنا الفيلم عن أسلوب حياة ونوع من العلاقات الاجتماعية التي تميز هذا المجتمع، ويوحي لنا بعالمٍ خاص يكشف عن أبعاده الروحية والمادية.
وقد عرضت المخرجة هذا العالم- المجهول لدى معظمنا- بحياد موضوعي بعيدًا عن التقديس والارتفاع به أو الازدراء والحط من شأنه، تاركة خلفها أي نظرة سياحية متعالية كما كان يحدث في أغلب الأفلام السابقة التي تناقش مثل هذه الموضوعات.
وكانت شجاعة المخرجة نادين صليب في طرح تفاصيل تصدم المشاهد وتزعج أصحاب النظرة الحاكمية التقليدية المغلقة، هؤلاء الذي يظنون في عرض مثل هذه المواد ما يسيء لسمعة مصر أو يسيء لفهم صحيح الدين!!، الفيلم من خلال تفهمه لخصوصية العلاقات للمحلية وتعمقه في فهم الأنا، استطاع الوصول إلى دور العرض العالمية. وحصل الفيلم على جائزة “فيبرسى” لأفضل فيلم وثائقي في مهرجان أبو ظبي 2014.