أسطورة الغزال المُقدس ومنطق التطهير النفسي

صناعة الملاحم والأساطير حرفة يونانية قديمة من الصعب اختزالها داخل الظرفية الزمنية التي نشأت فيها، فلايزال الإرث التاريخي مصدراً يستلهم منه المخرج اليوناني إبدعاته.

وفي ذلك نستذكر تجربة الظاهرة اليونانية الفريدة ثيو انجلوبولس الذي استطاع وبأسلوب سلس أن يربط الحاضر الواقع بالماضي العتيق، فكان حالة استثنائية فريدة في كل شيء، حتى في الطريقة الصادمة التي مات فيها.

نشاهد اليوم المخرج اليوناني يورجوس لانثيموس صارخاً أن الأسطورة السينمائية اليونانية لم تمت بموت أنجلوبولس، بل أصبح بالإمكان توظيف الملحمة اليونانية – القديمة – داخل مجتمع أمريكي رأسمالي حديث. معلناً بذلك إنَ خلق الأساطير معجزة يونانية بحتة، ولذة التحديق في هذه الأساطير هي اختبار أخلاقي صعب للمتفرج.

في كتاب”فن الشعر” يشرح أرسطو أنَّ المأساة تطهر النفس عبر جعل المتفرج يواجه آلامه ومخاوفه عندما يشاهد البطل يختار بحرية طريقة التفاعل مع كل ما حوله، فالتطهير يحقق غايته في مساعدة الفرد على فهم نفسه وفهم العالم الذي يعيشه.

يؤمن أرسطو بأنَّ دور التراجيديا “المأساة” أعمق من مجرد المتعة، بل يساعد على تطهير النفوس، فيُعرف التراجيديا على أنها: “محاكاة أفعال البشر الجادة وتصرفاتهم، وما في حياتهم من خير وشر..”، وتتم المحاكاة بمهارة تمثيل سلوك البشر في كيفية التصرف مع الأحداث، ومهارة الكاتب في صناعة الحدث الذي يتطلب إثارة عاطفتي الخوف والشفقة عند المتفرج.

تحكي المأساة اليونانية القديمة في أسطورة “إيفيجينيا” أنَّ جيش الزعيم “أجاممنون” وهو في طريقه لمعركة في طروادة أحس بالجوع، فأمر أجاممنون الجيش أن يذهب للصيد، وشاهد غزالاً لطيفاً صغيراً، فقام أجاممنون بصيدهِ من مسافة بعيدة متفاخراً أمام جيشه بقدرته العظيمة على الرمي، ولكن الغزال مُقدس، وموته أغضب “أرتميس” وهي عند الإغريق إلهة الغابات والبراري و الحيوان، فأصابهم جميعاً المرض و حُبِسُوا في مكانهم، فلابد أن يقدم أجاممنون قرباناً لائقاً لكي تغفر له أرتميس، وبالتحديد لابد أن يضحي أجاممنون بإبنته العزيزة إيفيجينيا كقربان، ويحقق العدالة.

وامتدادا لنفس الاسطورة قدمَ المخرج اليوناني يورجوس لانثيموس فيلم “قتل الغزال المُقدس” The Killing of a Sacred Deerويحكي أنَّ دكتور جراحة قلبية “ستيفن مورفي” (تمثيل كولين فاريل) تسببَ في قتلِ أحد مرضاه بالخطأ، وذلك ربما لأنه أجرى العملية تحت تأثير الكحول، فيقرر تكفيراً لخطاياه أنّ يهتم بابن المريض “مارتن” عبر تقديم الهدايا والسؤال الدائم عنه، وبالمقابل كعقاب شخصي يقرر أنّ يتوقف عن شرب الكحول.

كَوَّنَ مارتن قوة فوق طبيعية، استعان فيها بطريقة ميتافيزيقية بالتأثير صحياً على عائلة الطبيب ستيفن مورفي المكونة من إبنه وإبنته و زوجته، وبدأ في تهديهم بالقتل فرداً فردا كمحاولة منه لتحقيق العدالة الكونية، مع أخذ الوقت الكافي في التنفيذ، فلا يكون القتل مباشرا ولكن عبر سلسلة من الأوجاع، كالشلل والتوقف عن الحركة، والمرض، ثم في مرحلة متقدمة نزيف العين، إلى الموت… والأسوء هو مشاهدة الطبيب أفراد عائلته وهم يتعذبون أمامه.

الحل الوحيد أنّ يضحي الدكتور بواحد من أفراد عائلته، وفي البداية كردة فعل طبيعية بالطبع يرفض، ولكن تدريجياً  بعد أن يزداد الوضع سوءاً ، يَقبل الطبيب التحدي ويقدم أصغر ابنائه ” قرباناً”، فيقوم بقتله وبذلك ينهي الأزمه، ويوقف القوة الخارجية التي تؤثر على عائلته، وكان من اقتراحات زوجة الطبيب (تمثيل نيكول كيدمن) أن يقوم زوجها بقتل ابنهم الأصغر لأن المرض قد تفشى في جسده اولاً، وثانياً لأنهما ما زلا قادرين على الإنجاب، وايضاً ان لم تنجب طفلاً تستطيع الحمل عن طريق عملية الأنابيب.

ويبدُو أن الزوج استجاب لإقتراحها وقام بقتل إبنه وهو معصوب العينين، بطريقة توحي إنها عشوائية، ولكن العَصَب يجعل عملية القتل أهون، وأقل حرقة.

تقول المفارقة النيتشوية إنَ الذي يكذب لا ينتبه للعبء الثقيل الذي يحمله على كاهله، فسيلزمه أن يبتكر عشرين كذبة آخرى كي يدعم كذبته الأساسية.

وبصورة واضحة نشاهد أن الكذب هو دَّيدَن شخصية الدكتور ستيفن، وكأنه محاولاً عبر الكذب إخفاء الذاكرة، إذن وبسبب ممارسته لرذيلة الكذب، نرى أن الشر يتجسد في سلوكياته الخاطئة وخيارته الأخرى في الحياة، فأصبح الكذب مرآة لكينونته الحقيقية.

وتقول القاعدة الأخلاقية إنَّ “الكذب” ربما يكون رذيلة صغيرة لا يحاسب عليها القانون، ولكنها ممارسة للشر والتي رغم صغرها تعزز عند الإنسان الشر الكامن بداخله، فيتفجر هذا الشر مجتمعاً مع بعضه في لحظة التفاعل مع الأحداث الكبيرة، وفي الفيلم يبدأ البطل في كشف نفسه عندما يقع في مواجهة التحديات العظمى كممارسة سلطة من يحيا ومن يموت داخل أسرته مخيراً ومسيراً في آنٍ معاً.

هل من الممكن أن تتحقق العدالة عبر ممارسة الرذيلة؟ يجاوب أرسطو ويقول: إن “فضيلة العدالة تتلخص في الاعتدال”. فروح العدالة هي الاعتدال الحكيم في ممارسة كل شؤون الحياة، والشر الذي مارسهُ الدكتور ستيفن يعطي الانطباع في النهاية بأنه إنتصر وحقق غايته، ولكن الشر لا ينتصر أبداً، والتضحية بابنه ليست إلا ممارسة آخرى للشر على مستوى أعظم.

نشاهد في اللقطة الأخيرة من الفيلم الخصمين في مكان واحد، في مطعم للوجبات السريعة وكل منهما حقق غايته ومراده، ولكن من الذي انتصر؟ هل انتصر الطبيب بقتل إبنه؟ أو هل انتصر مارتن بتلقين الطبيب درساً قاسياً عن مدى تأثير فقدان فرد من أفراد العائلة؟ هل الشر اختيار عند الطبيب أم هو غاية تسمح له طبيعة عمله بممارستها؟

في الختام، ربطَ الفيلم بين مشاعر الرعب والشفقة اللذين سيشعر بهما حتماً المتفرج، وكأنه أنموذجاً سينمائياً على تراجيديا التطهير من المشاعر الضارة؛ التطهير النفسي الذي يؤمن به أرسطو.

Visited 150 times, 1 visit(s) today