وليمة من نوع جديد في فيلم المخرج السويدي لاسا هالستروم
عُرض مؤخراً في صالات العرض المصرية الفيلم الأمريكي الرومانسي الحالم “رحلة المائة قدم” The Hundred Foot Journey من إخراج المخرج السويدي المرموق لاسا هالستروم، ذلك المخرج المعروف بأفلامه المتعلقة بالمواضيع الإنسانية الجميلة كفيلم “ماذا حدث لجلبرت جريب” وفيلم “حياتي كالكلب”، وكذلك أفلامه الرومانسية الدرامية مثل فيلمي “عزيزي چون” و”ملجأ الطمأنينة” المأخوذين عن روايتين للأديب الأمريكي نيكولاس سباركس. فليس من الغريب أن يأتي فيلمه الجديد “رحلة المائة قدم” جامعاً لتلك الأبعاد والمعاني التي عودنا عليها هذا المخرج. فالفيلم يجمع بين قصة كفاح إنسانية وفي طياتها أيضاً الرومانسية المشتعلة والمتأججة.
فيلم “رحلة المائة قدم” يتناول قصة أسرة هندية تهرب من مومباي إلى الريف الفرنسي في أعقاب حادثة أليمة وقعت لها. وكانت الأسرة المكونة من الأب وأبنائه الخمسة، خبيرة في مجال الطهي على الطريقة الهندية الأصيلة، وها هي ترحل إلى باريس في محاولة للعيش من جديد في مكان آمن عن طريق نشر خبرتها في الطعام الهندي في هذه البلد الغريبة. وبطريق الصدفة تتعطل مركبتهم على طريق فرعي في الريف الفرنسي، فتساعدهم إحدى فتيات تلك المنطقة وتهديهم ملجأً لليلة. وهنا يكتشف أفراد الأسرة بعض أسرار المطبخ الفرنسي عندما تقدم لهم الفتاة الفرنسية عشاءً طبيعياً فاخراً. وأثناء مبيتهم هناك يكتشف الأب مكاناً مهجوراً معروضاً للبيع، فيقرر شراءه وتحويله إلى مطبخ هندي كبير، ولكنه يواجه استهجاناً من أسرته، وبالأخص إبنه “حسن” الخبير في الطهي بالبهارات الهندية، لأن المكان الذي اختاره الأب يبعد “مائة قدم” فقط عن مطعم فرنسي أصيل في الجهة المقابلة تديره سيدة فرنسية متعجرفة. ولكن يصمم الأب على رأيه لتبدأ حرب الحضارات والثقافات بين المطبخ الهندي المعتمد على البهارات والمطبخ الفرنسي المعتمد على أنواع “الصّوص” sauce أو المرق المختلفة.
وقد لعب دور الأب الممثل الهندي الكبير أوم پوريبينما لعبت دور السيدة الفرنسية الممثلة الإنجليزية هيلين ميرين التي حاولت إتقان اللكنة الفرنسية لأداء هذا الدور. ولكن سرق الأضواء منهما أبطال القصة الرومانسية الحالمة، الشاب الهندي حسن وحبيبته الفرنسية الشابة مارجريت.
وليس غريباً على هالستروم أن يعود إلينا بموضوع ممتع ويجعلنا نتذوق عبر كاميرته ذلك الطعام المقدم أمامنا على الشاشة. فهو بدأ بالحلوىفي فيلمه السابق”شوكولا” عام 2000، وها هو بعد تقديم طبق الحلوى المليء بالسكر يقدم لنا الوجبة الرئيسية من خلال لوحاته المتميزة ويجعلنا نريد القفز داخل الشاشة لالتهام تلك البهارات التي نوّعها من خلال مشاهد الفيلم، كما استطاع هالسترومعرض فكرة صراع الحضارات والثقافاتالمختلفة وكيف أنه من الممكن للشعوب التعايش في مودّة وسلام إن استطاع كل طرف من الأطراف المتنافسة احترام ثقافة الآخر و تقبّلها والتعايش معها. وقد ظهر ذلك واضحاً في بداية الخلاف بين الأب الهندي والسيدة الفرنسية، حيث حاول كل منهما القضاء على الآخر بشتّى الطرق الملتوية، ولكن عندما تذوقا حلاوة مذاق طعام الآخر، عرفا أن مفتاح تحقيق السلام الإنساني يقبع في التعايش السلمي بين الشعوب المختلفة.
عرض الفكرة
وكان هالستروممتميزاً في عرض تلك الفكرة من خلال مشاهد سريعة متقطعة للطهي من كلا الطرفين ومحاولة كل طرف إخراج أبهج وألمع الأطباق المميزة في مطبخه، وكانت موسيقى الموسيقار الهندي أ. ر. رحمان موفقةفي اللهث وراء مشاهد تلك الأطباق المقدّمة. وقد نجح رحمان بموسيقاه،وهو الحاصل على الأوسكار في 2009 عن فيلم “مليونير الأحياء الفقيرة”، في إضافة مذاق آخر للولائم التي قدمت، حيث خلط بين الموسيقى الكلاسيكية والموسيقى الحديثة في مشاهد عدة.
ولكن يرجع جمال ونجاح الفيلم في اختيار الممثل الذي أدى دور الإبن حسن والممثلة الشابة التي أدت دور مارجريت. فقصة حبهما الفرعية طبعت نوعاً من الحلوى على أحداث الفيلم، وهي في رأيي كانت كالبهارات الحارة التي تحولت في النهاية إلى سكّريات من نوع فريد. وقد امتلأ الفيلم بالمشاهد الساحرة للريف الفرنسي، وكانت كاميرا هالستروم سريعة في سرد الأحداث، بالإضافة إلى الأداء المتميز لكل أعضاء فريق التمثيل، مما جعل المشاهد يذوب في إنسانية ما يُقدم على الشاشة.
وأخيراً استطاع هالسترومتقديم فيلم بمذاق جديد أضاف إلى تلك النوعية من الأفلام التي تحكي قصصاً إنسانية من خلال موضوع الطعام والمذاق الراقي، كالفيلم المكسيكي “مثل الماء للشيكولاتة” عام 1992 والفيلم الدنماركي “وليمة بابيت” عام 1987 الحاصل على أوسكار أحسن فيلم أجنبي.
ويرجع إسم الفيلم بالطبع إلى “المائة قدم” التي تفصل بين المطعمين في ذلك المكان النائي بالريف الفرنسي. فهي بمثابة شارع بسيط بين المتنافسين، كانت المسافة بينهما بعيدة في البداية حين رفض كل طرف عبورها، ولكنها اقتربت بفضل تقبل كل طرف لثقافة الآخر، فأصبحت غير موجودة حين تلاحمت المشاعر والحضارات. نعم، إنها رسالة جميلة في فيلم مليئ بكل المعاني الإنسانية.