“ولنا في الخيال حب”: طموح بلا أجنحة!

عادةً ما تقوم المهرجانات السينمائية على فلسفة دقيقة في اختيار الأفلام التي تُعرض ضمنها، فالمهرجان ليس مجرد شاشة عرض، بل مساحة للتجريب والاكتشاف والتقييم الفني.

 وتضع لجان الاختيار معايير محددة تراعي القيمة الجمالية والابتكار في السرد، ومدى نضج الرؤية الإخراجية، وجودة التنفيذ الفني من تصوير ومونتاج وموسيقى وأداء تمثيلي. كما يُؤخذ في الاعتبار موضوع الفيلم، ومدى ارتباطه بقضايا إنسانية أو فكرية تهم الجمهور المحلي والعالمي على حد سواء.

 لذلك، لا يُقاس الفيلم المختار بميزانيته أو شهرة أبطاله، بل بقدر ما يضيفه من معنى جديد إلى لغة السينما، وما يملكه من حسّ فني صادق يجعل وجوده في المهرجان مبررًا فنيًا وجماليًا.

ولذلك كان شيء غريب جدًا أن يُعرض فيلم بمستوى “ولنا في الخيال.. حب” في مهرجان بحجم مهرجان الجونة- وإن كان العرض خارج المسابقة الرسمية-. فبعد مشاهدة الفيلم ظلّ يُلحّ عليّ سؤال مفاده: لماذا، وعلى أي أساس تم اختيار فيلم بهذا المستوى ليُعرض إلى جانب الأفلام التي تُعرض في مهرجان الجونة؟

حقيقي لم أجد أي مبرر فني لوجود فيلم بهذا المستوى ضمن عروض مهرجان سينمائي، ولم يبقَ أمامي سوى مبررات أخرى غير فنية، متعلقة بالمحبة والعلاقات وما إلى ذلك.

فيلم ليس له منطق، مصنوع بخيال طفولي غير منطقي يشبه تمامًا الأفلام الهندية المبالغ فيها.

يحكي الفيلم عن علاقة حب بين الشاب نوح (الممثل عمر رزيق) والفتاة وردة (الممثلة مايان السيد)، تتعرض هذه العلاقة إلى فتور بعد أن يرى الشاب فتاة جميلة من نافذة غرفته انتقلت إلى العيش بجانب بيته مؤخرًا. نكتشف بعد ذلك أن منزل الفتاة هو نفسه منزل الدكتور الجامعي يوسف مراد (أحمد السعدني) حادّ الطبع الذي عاد إلى مصر مؤخرًا، ويدرس الآن في معهد السينما.

وتبدأ رحلة سعي الفتاة لإعادة علاقتها بحبيبها الشاب إلى ما كانت عليه قبل ظهور الجارة الجديدة، وخلال هذه المحاولات تتكشف لنا أسرار عن الجارة الجديدة ووالدها الدكتور الجامعي، ويختبر البطلان مشاعر جديدة مع أشخاص جدد.

ويسير الفيلم في أربع خطوط رئيسية؛ الخط الأول هو علاقة الشاب بالفتاة والتحولات التي تطرأ عليها خلال المستجدات التي تحدث وتتسبب في تغيير شكل علاقتهما.

والخط الثاني يحكي عن علاقة الشاب بالجارة الجديدة ووالدها دكتور المعهد.

والخط الثالث يتتبع علاقة الفتاة وتطورها مع دكتور المعهد الجديد.

والخط الرابع يتتبع ماضي دكتور المعهد وعلاقته الغريبة بزوجته. وعلى هامش الخطوط الأربعة الرئيسة، هناك خطوط درامية فرعية على الهامش.

مشكلة الفيلم هي بالأساس مشكلة سيناريو، فالشخصيات مكتوبة بسطحية شديدة، والأحداث تأخذ منحًى غير منطقي وغير مبرر دراميًا. فنحن نرى في البداية الشاب والفتاة وعلاقتهما الممتدة منذ سنوات طويلة تنهار في مشهد حواري ضعيف، ثم نرى بعدها سرعة تعلق الشاب بالجارة الجديدة التي يراها من نافذة غرفته، وكذلك تعلق الفتاة بدكتور المعهد، دون أن نرى أثرًا على الشخصيات بسبب الفراق، والمفترض أن علاقتهما مرّ عليها سنوات وسنوات!

وكذلك الخط الدرامي الذي يحكي عن علاقة دكتور المعهد بزوجته المتوفاة، إذ نرى شدة تعلقه بها إلى حدّ أنه صمّم لها مانيكان يشبهها لتكون بجانبه دائمًا، ورغم شدة تعلقه بزوجته هذه، فإنه سرعان ما يتعلق بطالبة في المعهد! ولا يقدم السيناريو مبررات درامية مقنعة تدفعنا للتعاطف مع الدكتور وعلاقته بزوجته.

إلى أن نصل إلى النهاية، فنجد أن الشخصيات سرعان ما عادت إلى رشدها، وتوطدت بينها العلاقات، وأصبح كلٌّ منهم يساعد الآخر!

وفي النهاية نشاهد مشهدين موسيقيين مصنوعين بحِرفة شديدة ومصممين بطريقة جيدة جدًا، مما يجعلنا نتساءل عمّا إذا كان يمكننا أن نطلق على هذا العمل أنه فيلم موسيقي؟

في رأيي لا، فنحن لم نرَ سوى مشهدين في نهاية الفيلم، وهذا بدوره يدفعنا إلى تساؤل آخر حول سبب عدم معالجة الفيلم ليكون بالكامل فيلمًا موسيقيًا، خاصة وأننا أمام صُنّاع متميزين بالأساس في هذه الجونرا، سواء من أعمالهم السابقة أو من خلال المشاهد المنفذة في نهاية الفيلم.

الفيلم من كتابة وإخراج “سارة رزيق”، وهو العمل الأول لها، وهذا عادة ما يكون شيء مبشر في السينما المصرية الفترة الأخيرة، فعندما ننظر إلى التجارب الأولى التي ظهرت مؤخرا سنجد أسماء مثل: خالد منصور، وسارة جوهر، وسامح علاء، ومراد مصطفى، وغيرهم.

قدمت سارة رزيق من قبل فيلم قصير “فردة شمال”، وتجربة متواضعة في المجمل، تصور من خلالها قصة إنسانية عن طفل فردة شبشبه الشمال قطعت، في نفس الوقت يرى طفل آخر يرتدي جزمة جديدة، يبدوا أنه يرتديها لأول مرة، وسعيد جدا، وتدور أحداث الفيلم في محطة القطر حيث ينتظر الطفل صاحب الجزمة الجديدة بصحبة عائلته وصول القطار، وأثناء دخوله إلى القطار وسط الزحمة الشديدة يفقد الفردة الشمال من جزمته، يتابعه الطفل الاخر من بعيد، ولأنه يمر بنفس التجربة، وجرب نفس الشعور هرع مسرعا خلف القطار محاولا إرجاع الجزمة إلى الطفل، ولكنه يفشل بعد أن يرمي بها فلا تصل، وفي هذه اللحظة يخلع الطفل الفردة الثانية ويرميها له.

يبدو من التجربة أن سارة مهتمة بالمشاعر الإنسانية، والحكايات المؤثرة، ولكن هذه المرة التجربة كانت أوسع، وأصعب.

عندما علمت في البداية أن عائلة رزيق تقف وراء هذا العمل، انتابني حماس شديد، خصوصًا بعد مشاهدتي لفيلم قصير سابق لعمر رزيق، كان فيلمًا غنائيًا جميلًا ومبدعًا على كل المستويات: كتابةً وتمثيلًا وتنفيذًا. لكن هذا الفيلم جاء مخيبًا لتلك التوقعات العالية.

ومن النقاط المحمسة أيضًا كون العمل قد تمّ التسويق له كعمل غنائي، وهي تجربة جديدة وجريئة لم يسبق تقديمها في السينما المصرية إلا من خلال تجارب محدودة جدًا، وكان ذلك منذ فترة طويلة مرّ عليها سنون.

ولكن حتى هذه النقطة، التي هي نقطة قوة بالنسبة لصُنّاع الفيلم، لم يتم استغلالها أو استخدامها بشكل مناسب داخل أحداث الفيلم.

 ففكرة الترويج له كعمل غنائي ــ وهي في الأصل نقطة قوة ــ لم تُستغل بالشكل المناسب داخل السرد. وهي تجربة طموحة وجريئة في سياق السينما المصرية التي قلّت فيها الأعمال الموسيقية منذ عقود، لكن الجرأة وحدها لا تكفي إن لم ترافقها رؤية ناضجة وصنعة متقنة.

قد يختلف هذا الرأي عن آراء كثير من المشاركين في الفيلم أو بعض الجمهور الذي أغرته رومانسية الحكاية، إلا أن النظرة الفنية الموضوعية تكشف أننا أمام عمل يملك رغبة صادقة في التعبير، لكنه يفتقر إلى الحرفة التي تحول هذه الرغبة إلى فن.

قدّمت مايان السيد أداءً جيدًا وملائمًا لطبيعة شخصيتها، في حين لم يُظهر عمر رزيق نفس المستوى من الجهد في تجسيد دوره؛ بدا وكأنه لم يتعمق في تجسيد الشخصية أو البحث عن تفاصيلها. أما أحمد السعدني فقدّم أداءً متوازنًا في معظم مشاهده، لكنه فقد توازنه في مشهد المواجهة مع رزيق، حيث بدا الأداء مفتعلًا و قدّم أداءً دراميًا مبتذلًا، ولم يتم معالجته إخراجيًا بشكل جيد أيضًا.

بجانب مايان السيد، وعمر رزيق أبطال العمل، والمخرجة سارة رزيق هناك عدد كبير أخر من طاقم العمل من فئة الشباب، ويعد هذا العمل هو التجربة الأولى لهم، منهم: المخرجة سارة رزيق، وشقيقها عمر رزيق، ومدير التصوير، ولذلك كان هناك توقعات عالية من الجمهور، ففي تجربة شبابية يقدم فيها البعض نفسه للمرة الأولى في الغالب ما يكون الشباب طموح، ولديه شيء جديد يقوله، وبالفعل التجربة كانت طموحة، وجريئة، ولكنها لم تنفذ بشكل جيد، وقوي يتناسب مع هذا الطموح المرتفع.

في الأخير، قد يختلف هذا الرأي عن آراء كثير من المشاركين في الفيلم أو بعض الجمهور الذي أغرته رومانسية الحكاية، إلا أن النظرة الفنية الموضوعية تكشف أننا أمام عمل يملك رغبة صادقة في التعبير، لكنه يفتقر إلى الحرفة التي تحول هذه الرغبة إلى فن.

ويبقى فيلم ولنا في الخيال حب مثالًا واضحًا على الفارق بين الحلم وصناعته.

(*) يعرض الفيلم في صالات السينما بدأ من ١٩ نوفمبر القادم.