“وأمك أيضا”: الحياة والموت وبينهما سيارة

إذا بدأ الفيلم بمشهدٍ لشخصين في لقاءٍ حميميّ، بماذا سوف ينتهي؟

الجنسُ يفتحُ التأويلات حتى آخرها، فقد ينتهي الفيلمُ، بخيانةٍ، أو جريمةٍ، أو وداعٍ بين العُشّاق، أو هدنةٍ بعد حرب، أو جولةٍ أخرى منها، لكن ما تؤول إليه الأمورُ في الفيلم المكسيكي “وأمّك أيضًا” لا تقود إليه الأفكار مهما ركضت بعيدًا.  

“وفيلم أمك أيضًا” Y tu mamá también الذي عرض قبل عشرين عامًا، من إخراج المكسيكي المُبهر ألفونسو كوارون الذي يقف في ثقةٍ ضمن أشهر ثلاثة مُخرجين مُعاصرين في المكسيك مع غيليرمو دِل تورو (“شكل الماء” و”متاهة بان”)، وأليخاندرو غونزالِس إينارّيتو (“أموريس بيرّوس” و”بابل”).

“وأمك أيضًا” يُمكن تصنيفه بسهولة تحت نوعين فرعيين من الأجناس السينمائية وهما “أفلام الطريق”، و”أفلام النضوج” أو Coming of Age، ينتمي إلى النوع الأول الكثير من العناوين، من “لا سترادا” لفيلليني وحتى “غرين بوك” لبيتر فاريللي الحائز على الـ “أوسكار” أفضل فيلم في 2019.

ويندرج تحت النوع الثاني “مالينا” لتورناتوري، و”سرقات صيفية” ليسري نصر الله، و”سليبرز” لباري ليفنسون وغيرها من الأفلامِ.

وإن كان من رابطٍ بين هذيْن النوعيْن فلن يكون سوى حدوث صدمة/ تجربة/ لقاء يطبع قدر الإنسان للأبد، حد أنّه قد يفقده حياته!  

يحدُثُ هذا في الفيلم، إلا أنّ “وأمّك أيضًا” يحملُ شيئًا آخرًا لا يُمكن اختزاله في كلمةٍ واحدةٍ، بل يتم التعرّف عليه رويدًا بمرور الدقائق، جمرة تشتعل تحت الرماد على مهلٍ، إلى أن يقبض عليها المشاهدُ في النهاية.

لقد تعاطى الكثيرُ من النقاد مع الفيلم على مدار عشرين عامًا، وقد ركّز هذا التعاطي، إجمالًا، في المُشاهدة الأولى وحتى الألف على أنّه فيلم ينتقد الأوضاع السياسيّة في المكسيك، وهذا صحيح بالطبع، فالإشارات لذلك متعددة ومنثورة على طول “الطريق”، لكن للفيلم صوتا أعلى بكثيرٍ من حديث السياسة.

تذكرة ذهاب فقط حتى بعد العودة!

تينوتش وخوليو (دييغو لونا وغايل غارسيا بيرنال)، الأوّل ابن سياسي كبير، والثاني ابن لامرأةٍ عاملةٍ، سافرت صديقتاهما إلى إيطاليا للاستجمام فشعرا بالفراغ، كلاهما مراهق لا يشغل تفكيره سوى إشباع الهرمونات المُستعرة، وفي إحدى المناسبات لعائلة تينوتش، التي يحضرها رئيس الجمهورية شخصيًا، يتعرفان على لويزا (ماريبيل بيردو) زوجة قريب تينوتش القادمة من إسبانيا وتكبرهما بعشر سنواتٍ تقريبًا، يعرضان عليها رحلة بالسيّارة إلى مكانٍ اخترعاه لحظتها وأسموه “فم الجنة”، ترفض لويسا العرض، لكنّها توافق لاحقًا لسببٍ يؤجّل كوارون معرفتنا به حتى المشهد الأخير.

ومن العاصمة حتى “فم الجنّة” يحدث ما يُريده الجميع أن يحدث عندما يجتمع مراهقان جائعان مع امرأة قررت الترفيه عن نفسها واللهو برفيقيْ المشوار، لقد كان الهدفُ من الرحلة تجربةً جنسيةً جامحةً لكنّها تصل إلى مكانٍ هو الأعمق والأقسى في التجربة الإنسانيّة.

يُرفِق كوارون مع كل خطوة من رحلة الرفاق الثلاثة حدثًا عامًا، ففي اليوم التالي لحفل العرس، على سبيل المثال، تحدث مجزرة يتبرأ منها المُحافظ، وعندما تحدّثوا عن طرق الإمتاع مع صديقتيهما المسافرتيْن، يمروّن باعتقال الشرطة لموطنين على الطريق، وهذا الإرفاق، أي الشخصيّ مع السياسيّ/العام، علامة “كوارونيّة” مُكرّرة.

وهكذا تسير الرحلة بين فرحٍ وانزعاج، أعلى وأسفل، نعم ولا، حتى مشاهد الجموح الجنسي لم تكن تُراد لذاتها، إنّ الحياة قصيرة وغريبة، قصر تلك اللحظات الهائجة وغرابتها، وبين كل التحامٍ حميمي وآخر، وفي كل مرة يتلصص فيها المراهقان، ونحن معهما، على لويسا يجدانها تبكي، لا تتعرّى، ولا تستمني، تبكي فقط!

إنّ استخدام الإيروتيكية للوصول إلى الموت/ العدم وارد جدًا، يستهل كوارون فيلمه بالجنس للوصول إلى الموت بأكثر صوره “إماتة”، ونقاط التشابه بينهما كثيرة، وما “طلوع الروح” إلا مظهرٌ من مظاهر ذلك، فكل وصال حميمي يحمل موتًا ما بدرجةٍ ما.

كل تقدّمٍ في الرحلة يضع غَرْفةٍ من البَرَدِ فوق رجل  الثلج الذي لا بد أن يحترق في النهاية بحكم طبيعةِ القصةِ،  من أهم تلك اللحظات وقوف المُراهقيْن أمام مُلصقٍ تمثال ديفيد لميكيلانجلو الحاضر غير مرة في أفلام كوارون، يضحك المراهقان ويُعلّقان على نصفه السفلي، بينما تقابل لويسا سيدة مسنة في الـ98، تبيع تحفًا وألعابًا، من بينها دمية محشوة على شكل فأرة، اسمها لويسا، تعود لحفيدة السيدة المسنّة التي ماتت بسبب ضربة شمس وهي تقطع صحراء أريزونا بحثًا عن حياةٍ أفضل، وفي ختامِ الفيلم تعطي لويسا الدمية المحشوة إلى الطفلة لوسيرو، ابنة الصياد وزوجته الذيْن أكرماها في محطتها الأخيرة، بكل ما تحمله قصة لويسا من دراما، وحزن، وانتشاء.   

أمّا المشهد الذي يُكثّف الفيلم حتى آخر ومضة، كان للويسا وهي تختار أغنية عشوائيّة لترقص عليها متقدّمةً نحو المُشاهدين، عيناها مركزتان على الكاميرا/ علينا، متجاهلةً لأقل من دقيقة، البحر، والسُكر، والحقائق الرهيبة التي قيلت لتوّها، ونكاد نسمعُ كوارون يضحك ساخرًا من المشاهدين الذين اعتقدوا أنّ لويسا وافقت على الذهاب مع المُراهقيْن، وهي المرأة المتزوجة، من باب الاحتفاء بمباهج الحياةِ!

تنتهي الرحلة عند شاطئ البحر، حيث يكتشف المراهقان أنّ هناك مكانًا اسمه “فم الجنة” فعلًا، وآخر مشاهد لويسا يقدمها كوارون وهي مُلتحمة بالأمواج، والموتُ المحمول طوال الرحلة صبغ العلاقة بين الصديقين، فمات الجميع حرفًا، ومجازًا.

في فيلم “روما” الذي نال عنه كوارون “أوسكار” أفضل فيلم دولي (أجنبي سابقًا) تتعانق الأسرة أيضًا أمام البحر بعد أن تعي خسارتها، في السينما والأدب، لطالما تغيّرت حيوات الناس بمحاذاة البحر.

 إسوةً بديفيد ميكيلانجلو، يظهر الرجالُ عراةً كثيرًا في أفلام كوارون، أكثر من النساء، هنا وفي “روما” وفي “سولو كُن تو باريخا” أول أفلام كوارون الطويلة، وديفيد التمثال نفسه قد ظهر في فيلم الدستوبيا “تشلدرن أوف مِن” لكوارون بساقٍ صناعية، في إشارة بديعة إلى العطبِ الذي طال الخلودَ بذاتِه!

الكنز هو الكنز لا دخل للرحلة

في “وأمّك أيضًا” هناك قصة جديرة بالسرد لكل إنسان ولكل شيء، حتى الخنازير الـ 23 الذين يُهاجمون متاع الرفاق، يُطلعنا كوارون عن مصيرهم، فنهتم بهم أكثر، ويا للعجب، نتعاطف معهم.

إنّ مُخرجًا يستطيع انتزاع التعاطف مع خنازير، ماذا بمقدورِه أن يصنع مع بشرٍ من دمٍ ولحم ورغباتٍ وذاكرة.

لقد اختلط الموت والحياة في المكسيك، حتى كادا أن يُصبحا شيئًا واحدًا، تقول مابيل زوجة الصياد: في الساحل الذهبي غرق الكثير من الناس لكنه مكان رائع عند الغسق.

فيلم “وأمّك أيضًا” أكثر أفلام كوارون اتصالًا بـ”روما”، وإن كنتُ أميل إلى الفيلم الأول أكثر، لو كان فيلم “روما” يطرح سؤالًا عن أي شيء، فقد كان “وأمّك أيضًا” إجابة مُسبقة عن الكثير.

لو افترضنا أنّ السيارة هي الحياة في المكسيك، وأنّ الرفاق الثلاثة هم المكسيكيون، فهذا يعني أن من بين كل ثلاثة مكسيكيين جُثة مؤجلّة، وآخران على درب فراق لا يُجمع بعده شمل.

هناك مئة وصف صالحٌ لوصف هذا الفيلم، كلها يجب أن يشيدَ بهذا العمل البديع، يكفي أنّ القصة تصل إلى هدفها أنّى نظرنا إليها، فلو قمنا بتصغيرها لوجدناها كاملةً في الفأرةِ المحشوةِ لويسا، وإن كبرّناها لأصبحت قصةَ المكسيك.  

  • كاتبة من اليمن
Visited 67 times, 1 visit(s) today