هل يمكن الحديث عن نقد سينمائي في تونس؟
هذا السؤال يُطرح كثيرا في تونس والحال أنّ الإجابة عنه تبدو سهلة وواضحة.. لدينا الكثير من الصحفيّين الذين يكتبون في السّينما وعن السّينما ولكن يصعب اعتبارهم نقادا سينمائيين.
أذكر أنّه لمّا اصدرت مجلتي شاشات تونسية في منتصف الثمانينات شجعني الأستاذ مصطفى نقُبو مدير مجلّة الفن السّابع وقام بالدعاية لها واعتبرها اضافة مهمة للساحة السينمائية.. وكنا نلتقي للتفكير في واقع النقد السينمائي في تونس وخرجنا بقناعة تقضي بضرورة تكوين جمعية للنهوض بالنقد السينمائي وتقاسم عضويتها فريق ممثل للمجلتين الفن السابع وشاشات تونسية وضم أول مكتب مسير للجمعية النوري الجنزوري ونايلة الغربي ومنير الفلاح وهشام بن عمار وعادل موتيري وغيرهم.
في النّقاش الذي دار بيننا عند تكوين الجمعيّة ساد الإعتقاد بأنّه لا وجود لحركة نقد سينمائي في تونس كما هو متعارف عليه في البلدان التي تملك صناعة سينمائيّة قائمة الذّات ولهذا السبب جعلنا الهدف الرّئيسي للجمعيّة النّهوض بالنّقد السّينمائي.
ففي تلك الفترة كان لدينا نقاد قليلون مجتهدون، ولدينا أيضا الكثير من الصحفيين الذين يكتبون في السّينما وعن السّينما ويركزون على الجوانب الخبريّة واجراء المقابلات الصحفيّة مع المخرجين.
ومستوى الكتابة عن الأفلام يتباين بالطبع. فهناك من يكتب من قلب الفيلم،
وهناك من يكتب حول الفيلم أي من خارجه فيما يعتبر أقرب الى التحقيق الصحفي الانطباعي>
ويميل أغلبيّتهم الى الفرقعات بتركيزهم على ما يقع في حفلات افتتاح المهرجانات ولباس النّجوم وتسريحة شعرهم، ولا يتطرّقون لأمّهات المشاكل التي يتخبّط فيها قطاع السّينما استغلالا وإنتاجا وتوزيعا…يتحاشون الحديث عن قضايا حارقة تهم القطاع مثل الرقابة ودور الدولة وطبيعة العلاقة بين السينمائيين والنقد، ونظرة المجتمع الى السينما، ومشاكل دور العرض والجمهور وفلسفة المهرجان السينمائي ودوره الحقيقي كما ينبغي أن يكون، ومشاكل معاهد السينما ودراسة السينما بوجه عام، وصولا إلى القضايا والاشكاليات الثقافية العامة والقضايا الفكرية ثم القضايا الجماليّة.
وما يعاب على هذا الصنف من النقد، رغم أهميته، أن مستوى تداوله لا يتجاوز الفضاءات المغلقة التي تحتضنها مناقشة الأفلام وهو بذلك لا يمكن تداوله على نطاق واسع بل ولا يمكن توثيقه ونقله إلى قراء مفترضين، عكس النقد الصحفي المعتمد على التوثيق سواء تعلق الأمر بالإعلام المكتوب أو المرئي أو المسموع.
إنّ النقد السينمائي مرتبط أساسا بالسّينمًا، ومنبثق عنها،
إذ لا يمكن وجود نقد سينمائي دون أن يكون هناك صناعة سينما حتى لو كانت نسبة الإنتاج 10 أفلاما في السنة فقط،
ولكن هذا لا يعني أنه تابعًا لها أو مُلحقًا بها، النقد السينمائي “فَنّ” قائم بذاته، ومجال واسع وحيوي ومتجدد له كتّابه ونجومه وأبطاله، ودور الناقد السينمائي أن يحلل ويفكك رموز الفيلم، وأن يغطي تحليله كل العناصر الفنية مثل القصة والإخراج والموسيقى والتصوير والإضاءة.
فالناقد هو الواسطة بين الفيلم وجمهوره، بين الفنان ومتابعيه، ولا ينحصر دوره في الحديث عن الجوانب السلبية كما يتصور البعض،
النقد يوضّح الجوانب القويّة واللافتة في الفيلم تمامًا كما يتحدث عن النواحي السلبية فيه، وسيظل النقد السينمائي موجودًا مدام هناك فيلمًا يُنتج ويُعرض، ويتطلب النقد السينمائي شغفًا بالسينما وقدرة على المطالعة والقراءة ومتابعة تيارات السينما، والاطلاع على فنون معرفية أخرى مثل السياسة وعلم النفس والأدب والتشكيل وغيرها الكثير، ولذلك فهي مهمة مُتعبة وشاقة وممتعة في نفس الوقت.
فما هو حال النّقد السّينمائي في تونس؟ومن هم روّاده؟ وما هي أهمّ التجارب التي عرفتها بلادنا منذ الإستقلال الى الإن؟
للإجابة على هذه الأسئلة الحارقة سنرتكز بالأساس على الدراسة القيّمة التي قام بها النّاقد والباحث عبدالكريم قْابوس احد الكوادر السّابقة لحركة نوادي السّينما.
فبعد خروج المستعمر عن بلادنا بقيت بعد الاستقلال ثلاث صحف يوميّة ناطقة بالفرنسيّة هي La Presse و، Le Petit Matin l’Actionو وجريدتين باللّغة العربية الصباح والعمل.
وقد تناولت تلك الصّحف الإخبار السينمائي بطرق مختلفة ولم تبرز صفحات أسبوعية خاصة بالسينما الا في أواسط السبعينات فقد كتب المقالة الخاصة بالسينما عديد الادباء والصحفيين والسينمائيين ومنهم الحبيب بولعراس والتيجاني زليلة والطاهر الشريعة ومصطفى الفارسي والمنصف شرف الدين وأحمد حرز الله وهشام الجربي ومحمد عزيزة واختص من بينهم ثلاثة عبد المجيد الشرفي (وهو صحفي غير الشرفي الباحث) وعبد الحميد القْماطي الذي كان يوقع باسم ميدوني والمرحوم محمد محفوظ وخاصة محمد الكامل في جريدة العمل.
وفي أواخر السبعينات برزت جريدة Le Temps التي أعطت أهمية قصوى للسينما بتخصيص صفحتين أسبوعيّتين بالتوازي مع صحيفة La Presse وقد برز منها أقلام مثل المنصف بن مراد ونجيب عياد والهادي خليل وكان عبدالكريم قْابوس المشرف على تلك الصفحات الى جانب صفحات التلفزة التي كان يُخصّص لها مقال نقديّ أسبوعيّا.
وهكذا تركزت السّينما على أعمدة الصحف وتركزت صفحات السّينما الاسبوعيّة التي لم يصمد منها الا صحيفة لابراس التي تنشطها منذ أكثر من عشرين سنة سميرة الدامي الى أن برزت الشروق والصريح والأنوار وTunis Hebdo وLe Quotidien ، وغيرها التي ستحوّل مجرى تناول قضايا السينما الا في ما ندر الى الاخبار عن النجوم والمخرجين والاحداث السينمائية دون ممارسة النقد الا في حالات استثنائية
المجلات المختصة
فقد برزت من حين الى آخر محاولةّ ان تختص في السينما غير ان جلّها لم يصمد الا شاشات تونس التي اختفت هي ايضا في الأشهر الأخيرة.
وأول دورية مختصة في السينما كانت مجلة Film التي صدرت في تونس عام 1929 وبرز منها عددان فقط وفي مدة الاستعمار لم تبرز الا مجلتان بالعربية وواحدة بالفرنسية اقترنت فيها السينما بالمسرح.
الاولى تأسست عام 1938 وهي مجلة الراديو والسينما بمناسبة بعث أول محطة راديو بتونس والثانية كانت طموحة أسسها الصحفي والمترجم محمد رضا الأحمر وهي مجلة المسرح والسينما التي لم تصدر الا عددان الى جانب مجلتين بالفرنسية الأولى Hebdo وكان يحرر مقالاتها النقدية في السينما الفنان حاتم المكّي الذي أصبح أول مدير لمصلحة السينما بوزارة الاخبار والارشاد والثانية Ciné وهي تتناول المسرح والسينما والراديو، وكانت تخصّص مقالا أسبوعيا لكل فيلم يعرض في العاصمة.
أما أهم تجربة نقدية سينمائية برزت عن طريق نوادي السينما،
فمنذ بداية الخمسينات كانت حركة نوادي السينما نشيطة خاصة في صفاقس على يد الطاهر الشريعة الذي كان وراء ما يسمى بمجلس “الثلاث” اذ كان نادي السّينما بصفاقس ينشر كل أسبوع جدولا لأفلام يقدّم فيه الطاهر الشريعة والنوري الزنزوري صحبة أحد الاساتاذة الفرنسيين تقييمهم للأفلام المعروضة في الاسبوع والنصح بمشاهدة أهمها كما كان نادي السينما بصفاقس يطبع ملحقا صغيرا يثبّت على الملصقات العلنية للأفلام ينصح بمشاهدتها.
وهكذا أدت تلك التجربة الى بروز أول دورية مختصة في السينما،
وهي مجلة نوادي التي كانت ذات مستوى رفيع صدرت منها اعداد ثم اندثرت حتى أعيدت على شكل مجلة أخرى تصدرها الجامعة التونسية لنوادي السينما وهي مجلة شريط لم تصمد سوى عددين الى جانب مجلة أصدرها نادي سينما القيروان تحت عنوان جحا حوّلها صاحب الرخصة مصطفى النڤبو الى مجلة الفن السابع التي صمدت وتصدر كل ما استطاعت للنشر سبيلا،
وأصدرت في باريس مجموعة من محبي السينما مجلة أضواء صمدت ثلاثة أعداد وكانت بالتوازي تصدر نشريات داخلية في صلب نوادي السينما مثل Ecran بالمنستير وحمام الانف والعزيمة وهاني جوهرية وغيرها.
وقد أصدر منير الفلاح ومنيرة يعقوب مجلة شاشات تونسيّة لم تصمد ثم أعيدت الى الوجود وصدرت بإنتظام وبالالوان لكنّها توقفت عن الصدور منذ أشهر لأسباب ماديّة.
ولا ننسى تجربة مجلة وزارة الثقافة التي اصدرها الطاهر الشريعة المسرح والسينما التي صدر منها أربعة اعداد عام 1966
وتبقى في تحريرها ومحتواها وتبويبها اهم مجلة مختصة في ميدان السينما.
واهتمت دوريات مثل إيبلا والحياة الثقافية بتخصيص ملفات حول السينما وكذلك الاسبوعيات مثل المغرب وحقائق وملحق لابراس الاسبوعي. غير أن أهم تجربة حسب وجهة نظر الأستاذ عبدالكريم قْابوس وأكثرها حرية في تعاطي النقد السينمائي قام بها الطاهر الشيخاوي في صلب جمعية النهوض بالنقد السينمائي وهي تجربة كتابات سينمائية في شكل ورقات سينمائيّة وتوقفت بمغادرة الطاهر الشيخاوي رئاسة الجمعية المذكورة
كما إعتبر قْابوس بعض الكتب المنشورة المهتمّة بالسّينما حلقة من حلقات النّقد السّينمائي ككتاب تاريخ السينما لصاحبه عمر الخليفي والذي يبقى مرجعا مهما وتج.ارب أخرى مثل مؤلفات مومن التونسي وسنية الشامخي وعلي العبيدي ومحمود الجمني وإعتبر قْابوس أنّ أهم تجارب نشر الكتب السينمائية في تونس كانت على يده ويد الهادي خليل.
فالهادي خليل قام بنشر عدة كتب وجمع مقالات أو دراسات كان قد نشرها. وأهمها كتابه أبجديات السينما التونسية في حجم ضخم في نسختين عربية وفرنسية مرفوقا بقرص DVD فيه مقتطفات من الافلام التونسية ويعتبر الهادي خليل أغزر كتّاب السينما كتابة وتحليلا ثم تجربة كتاب السينما 1984 الذي انطلق سنويا ولم يصمد وهو من تأليف قْابوس نفسه وأيضا كتابه المرأة والسينما في تونس الذي تم توزيعه عالميا لأنه صدر عن مركز البحوث والدراسات والتوثيق حول المرأة
كما خصص كل من فريد بوغدير، ومحمد حمدان وحاتم الجعايبي حمادي بوعبيد وسنية الشامخي وعبد الكريم قابوس أطروحات دكتوراه حول السينما التونسية كما أنّه توجد العشرات أو المئات من رسائل البحث في معهد الصحافة وعلوم الاخبار وفي المعهد العالي للتوثيق والمعاهد السينمائية الجديدة ومعاهد الفنون التشكيلية أطروحات لابد من التفكير في نشرها لتعمّ الفائدة.
- ناقد سينمائي من تونس