“هاربة من الماضي” تجسيد المعاناة الأنثوية
في إطار مجتمع الساتمار، تدور أحداث مسلسل “غير متشددة” Unorthodox المستوحى من رواية “هاربة من الماضي.. رفضي السافر لجذوري اليهودية الحاسيدية” للكاتبة ديبورا فيلدمان، ومن إخراج ماريا شريدر، ويُجسد المسلسل رحلة هروب إستر شابيرو من مجتمع يهود الساتمار إلى برلين. وهو المسلسل الذي تعرضه حاليا شبكة “نتفليكس”.
“سأتزوج، سأُكوِّن أسرة مع يانكي شابيرو، سأنجب أطفالًا كثيرين، بيت حقيقي، لن أحتاج أبدًا إلى مكان آخر لأذهب إليه، هذا هو ما أريده”، لم تُدرك إستر وهي تتحدث بثقة عن مستقبل حياتها، أنها ستقف بعد عام واحد فقط لتقول بإصرار: “إن لم أهرب الآن، فمتى؟”. تُرى كيف تبدلت الحياة ليُصبح الهروب هو ملاذ إستر الوحيد؟
“إستر شابيرو” الفتاة التي تعيش مع جَدَّيها في مجتمع يهود الساتمار بحي ويليامسبيرغ، لن تُكمل تعليمها بعد السابعة عشرة من عمرها، ستتخلى عن دروس البيانو التي تحبها فالعزف محرمٌ على النساء، ستتزوج لتؤدي دورها الأساس في الحياة – حسب شريعة مجتمعها- المتمثل في إنجاب الأطفال. تُدرك إستر أنها مختلفة عن الأخريات، تبحث عن المتعة في كل فعل، تُنقب عن حياة زوجية سعيدة، تعيش فيها كملكة، إلا أن التعليمات دائمًا كانت تقول شيئًا واحدًا: “يجب أن يشعر زوجك أنه ملك، وأن تُنجبي له الأطفال، ولا يُنتظر منك ما هو أبعد من ذلك، فقط أنجبي الأطفال”.
إستر ليست الوحيدة التي تتبع هذه القواعد الصارمة، بل المجتمع بأكمله. مجتمع الساتمار الذي تعود أصوله لبلدة ساتمار بالمجر، أفراده هم بقايا من نجا من الهولوكوست، استقروا بحي ويليامسبرغ – نيويورك إبّان الحرب العالمية الثانية، يتبعون حركة اليهود الحاسيديم بكل ما يعنيه هذا الانتماء من انغلاق وتمسك بالأصول الدينية، بالإضافة إلى التمسك بهدف أساسيّ في الحياة، إنجاب أكبر عدد ممكن، “الأطفال عندنا هم أغلى شيء، حتى وإن كان هذا صحيحًا في كل مكان، إلا أننا نعيد بناء الملايين ال 6 الذين فُقدوا، اليهود الذين قُتلوا في الهولوكوست” هكذا تقول إستر بإيمانٍ وتسليم.
تمرد لا بُد منه
قد يكون العمل بأكمله عن الهروب من مجتمع شديد التحفظ، لا يُتقن أي شيء كما يُتقن وضع التعاليم الصارمة التي وُضعت باسم الدين بغض النظر عن مدى صحتها، إلا أنه -وبالموازاة مع ذلك- يُجسّد المعاناة الأُنثوية بامتياز، يرسم تفاصيل القهر الذي يقع على النساء في المجتمعات الدينية المتشددة أو حتى المجتمعات التقليدية المحافظة، وهو ما عَبَّرت عنه إستر شابيرو عندما سُئلت عن سبب هروبها إذ قالت “الرب كان يتوقع مني ما يفوق طاقتي”.
إذ سرعان ما تتبدد سعادة إستر وزوجها يانكي شابيرو بانتهاء حفل زفافهما، ينتصر عليهما واقع الحياة الرتيب في ويليامسبيرغ، كيف لا والجميع يتربص ويتساءل لماذا تمر الأشهر دون أن تحمل إستر بطفل بين أحشائها؟، بالإضافة إلى وظيفية الحياة بينها وبين زوجها التي لا تُعينها على تحمل ضغوط من حولها، ف “يانكي” لا يعرف عن “إستر” أي شيء، ولا حتى كيف تقضي يومها، ولا يتوقع منها أكثر مما يتوقعه المجتمع بأكمله، إنجاب الأطفال.
تجسيد الانكسار الأنثوي كان واضحًا ونجحت فيه الممثلة “شيرا هاس” Shira Haas التي قامت بدور إستر، فالانتقال من السعادة إلى الخوف والفزع، ثم التوجس من الجميع، والتعبير بصريًا وجسديًا عن مشاعر القلق والتردد، إذ تترقب نظر الجميع، وينعكس اهتزازها الداخلي في نظراتها ونبرات صوتها، لتنقل مشاعرها للمُشاهد بتلقائية فريدة. قد لا يعود الفضل في هذا الإتقان إلى أداء الممثلة فقط، فمن ورائه إصرار صُناع العمل على التعبير عن هذه المشاعر بدقة منقطعة النظير، معتمدين على أشخاص مروا بتجربة الهروب ذاتها، ومحاكاة مراحل الاضطراب التي عايشوها في أبسط السلوكيات.
برلين.. مبتدأ المعاناة ومنتهاها
“أحيانًا يتوجب علينا التخلي عن الماضي لنتمكن من المُضيّ قُدُمًا”، فالهروب من حي ويليامسبيرغ لن يكون إلا بالعودة إلى أصل المشكلة، برلين، المدينة المليئة بأرواح الملايين من اليهود الموتى، في كل حيّ من أحيائها ذكرى لقرار أو مجزرة أو معاناة.
هنا تكمن المفارقة التي يقدمها صُناع المسلسل، إذ بينما ينفر المجتمع بأكمله من برلين، تصبح المدينة هي الملاذ الوحيد أمام إستر لأن أصول والدتها تعود إليها فيحق لها العودة إلى “الوطن” لتواجه إستر ماضيها ومستقبلها في الآن ذاته، يُحاصرها الماضي متمثلًا في الأماكن التي شهدت قرار إبادة أجدادها، والأحياء التي سكنوها، وينتظرها مستقبل عليها البحث عن موطئ قدم له في برلين بدون مهارات ولا نقود ولا أي خبرة في الحياة. لتجد نفسها مضطرة لمخالفة القواعد لتصنع لحنها الخاص، فلا مجال للعودة، برلين أو الموت البطيء في ويليامسبيرغ.
ورغم أن إستر تعي جيدًا معنى أن تعيش كيهودية في برلين بالذات، إلا أنها مدركة أن الموتى لم يبقوا في برلين، وإنما رافقوا ذاكرة كل الناجين، “الموتى معنا في كل مكان بغض النظر أين نعيش” كما تقول. نظرتها المغايرة واختلافها عن نساء مجتمعها سيكون الدافع الأكبر لإستر في معركتها مع الماضي، وستسعى جاهدة لرسم مستقبل في الفن الذي لطالما أحبته بقدر حرمانها منه، الموسيقى.
التجسيد بآلية سينمائية
المدة الزمنية لمسلسل “غير متشددة”Unorthodox التي تركزت في ثلاث ساعات ونصف عير حلقاته الأربع، أعطت لصُناعه فرصة الاشتغال بآليات سينمائية بامتياز، فالتركيز على سيميولوجيا المكان بدايةً من اختيار برلين كمكان رئيس للأحداث، واختيار الأماكن المطبوعة في الذاكرة الجمعية لليهود كالبحيرة والمقبرة والبنايات القديمة، جعلت الإبادة تُحيط بالشخصيات طوال الوقت، وكأن المكان يقول ضِمنيًا: “الماضي يحيط بك، ابكِ عليه أو تحرر منه”. بالإضافة إلى التركيز الشديد والتدقيق في دلالات الحوارات والإشارات، فكل جملة تحمل دلالة، على الماضي أو الحاضر أو حتى المستقبل، لا شيء يحدث دون قصد، كل نظرةٍ تُحيل إلى معنى ما، وكل كلمة تشير إلى ما وراءها.
ومن ناحيةٍ أخرى، فإن إتقان التفاصيل من أهم ما يُميز هذا العمل، فاختيار الملابس المناسبة للحقبة الزمنية التي تدور خلالها الأحداث، ثم الوقوف على أدق تفاصيل الثياب الخاصة بمجتمع اليهود سواء على مستوى الإكسسوار أو القبعات أو الملابس المحافظة للنساء والرجال، جعل كل هذه العناصر تؤدي دورها في ترسيخ الحكاية.
أما على مستوى التشخيص، فقد تم الاعتماد على عدد كبير من غير المحترفين في التمثيل”، فمعظم الوجوه التي أدت الأدوار الكبرى في المسلسل كانت لأشخاص يقفون أمام الكاميرا للمرة الأولى، البعض منهم ينتمون لمجتمع الساتمار بالفعل، مما أضفى مصداقية كبيرة على الحكاية، فأن تؤدي دورًا ما ليس كأن تُعبِّر عن نفسك وحالتك الحقيقية، وهو ما أكّد عليه صناع العمل بقولهم: “كان مهمًا جدًا ألا نُحاكي فقط الشكل والروح، والملابس والشعائر وكل شيء بشكل صحيح، بل أن نعيش في أفكار وعوالم تلك الشخصيات بطريقة صادقة”.
كل هذه العناصر مُجتمعة تجعل من “هاربة من الماضي- Unorthodox” عمل إنساني بامتياز، ينقلك إلى عوالمه وشخوصه بخفة وبراعة، يُعبّر بشكل أو بآخر عن الصرخات غير المُعلن عنها، ليس فقط في ويليامسبيرغ وإنما في كل مكان يفرض تسلطًا عبثيًا على كُل نفسٍ بشرية.