نهاية تيرانس ماليك: تداعيات من وحي فيلمه الجديد
هل مضى حقا ما يقرب من 20 عاما منذ خرج تيرنس ماليك من عزلته ليرجع إلى السينما بفيلم جديد؟ على ما يبدو نعم – كان الوقت هو عطلة عيد الميلاد عام 1998 عندما عرض فيلمه الجديد الرئع “خط أحمر رقيق” أول فيلم يخرجه منذ عام 1978.
لحسن الحظ كنت في نيويورك، وشاهدت الفيلم بعد افتتاحه في سينما تفيض بشعور من الترقب والسعادة. في ذلك الوقت، وطيلة عقدين من الزمن، لم يكن أحد يعتقد أنه سيكون هناك فيلم آخر لماليك. وكان ماليك قد قدم عملين أصبحا من الكلاسيكيات قبل أن يبلغ الـ 35 من عمره، هما “الأراضي الوعرة” و”أيام السماء”، معلنا عن نفسه كفنان سينمائي شاب موهوب، ثم اختفى – ولكن الفيلم الجديد كان انتصارا، وقد ترك الجمهور حائرا، وكان رجل في الصف الأمامي قد انتفض عند منتصف الفيلم الذي يبلغ زمن عرضه ثلاث ساعات صائحا: “هذا هراء”، وبدأ في مغادرة السينما، ثم كرر بصوت مرتفع “هذا هراء”.
يوم الجمعة، بدأ عرض أحدث فيلم لماليك، وهو فيلم “أغنية إلى أغنية”، في أوستن، بولاية تكسا،س وهو اختيار منطقي لأن أوستن هو الموقع الذي صور فيه الفيلم الذي يشترك في بطولته كل من رايان جوسلينج، مايكل فاسبندر، ناتالي بورتمان وروني مارا، في أدوار عشاق وخصوم على خلفية المشهد الموسيقي في المدينة. ومع ذلك، كان المزاج مختلفا، كما كان الأمر بالنسبة لكثير من أفلام ماليك الأخيرة. بالطبع هناك المتشددون الذين يعتبرونه مقدسا، وعند نوع معين من نجوم السينما أيضا، يظل مخرجا يمكن أن يخاطر النجم بالعمل معه مخاطرا باستبعاد دوره عند المونتاج النهائي للفيلم.
لقطة من فيلم “أغنية إلى أغنية”
ولكن الرجل النيويوركي الغاضب من عام 1998 سيتمكن الآن من العثور على مزيد من أمثاله الحانقين على ماليك. فمنذ ذلك الحين، وبعد أن قصرت المدة الزمنية بين الأفلام التي يخرجها ماليك والرأي العام يواصل الانحدار. سبع سنوات تفصل بين “خط أحمر رقيق” و”العالم الجديد” الذي لقي الاعجاب بشكل عام، وأحيانا أصبح فيلمه المفضل لدى الجمهو، ثمست سنوات بين “شجرة الحياة”، الذي يجمع بين ذاكرة الطفولة ومظاهر الرعب الكونية وهو الفيلم الذي عمق الشعور بعدم الارتياح. وبعد ذلك بعام، قدم ماليك “إلى الأعجوبة” To the Wonder، الذي يصور من خلال صور هامسة الوقوع في الحب ثم الخروج منه، من خلال شخصية بن أفليك الذي يقوم بدور شاب من أوكلاهوما يقع في غرام امرأة أوكرانية ثم تفشل علاقته بها. وفي العام الماضي، جاء فيلم “فارس الكؤوس”، من بطولة كريستيان بايل الذي لم يلق اعجاب النقاد.
ماليك، من الأسلم أن نفترض، أصبح يفتقد إلى حد ما، القدرة على النوم، بسبب آراء الجمهور في افلامه الأخيرة، لكن يتعين علينا أن نحيي اصراره على المضي قدما في اخراج الافلام كما يرى، فمن الممكن جدا أن يكون سابقا لعصرن، وأننا سوف ندرك فقط كيف أفلاما عظيمة في مرحلة لاحقة قبل أن نموت جميعا. ولكن الآن، حتى من بين صفوف عشاق أفلامه هناك شعور بعد الارتياح ازاء ما قدمه مؤخرا، وأصبحت سمعته تتراجع مع كل فيلم جديد يقدمه. وهو ما يعني أن فيلمه الجديد “أغنية إلى أغنية” يعتبر علامة فارقة في مسيرته تماما كما كان فيلم “خط أحمر رقيق”.
مع أفلام ماليك الحديثة، فإن المشكلة غالبا تتعلق بما يظهر على السطح من تذبذبات واجترار الذات مع كثير من اللقطات بالكاميرا المتحركة التي تدور مع السماء والشمس مع التعليق الصوتي المأثور عن طبيعة الرغب. وقدأصبح بالمقارنة مع الإعلان المبتذل عن العطور نوعا من الكليشيه، وهو ما اتضح الشهر الماضي عندما ظهر إعلان عن عطور شركة غيرلان من بطولة أنجيليا جولي (بدا وكأنه فيلم من أفلام تيرينس ماليك). ولكن القضية أعمق من هذا.
خذ مثلا فيلم “فارس الكؤوس. إذا شعرت بالتوتر قليلا من فكرة إرسال كريستيان للبحث عن شريك مثالي للحياة، فإن واقعا أشد قسوة من ذلك سيتبدى: فيلم عن رجال ملتحين يفكرون بعمق بينما تمرح النساء في مكان قريب، وأحيانا حفاة الأقدام.
لقطة من فيلم “فارس الكؤوس”
أحد الجوانب الغريبة في مسيرة ماليك السينمائية أنه صنع أفلامه تدور كلها في الماضي ولكن عندما بدأ يخرج افلاما في الحاضر بدت من الطراز القديم جمهوره من الشباب يلهم، ولكن الآن، ماذا يمكن أن يفعل ماليك.
جزئيا انها إطاره المرجعي – ليست كل الأفلام حول الموسيقيين الشباب ستشمل تشيلي بيبرز ريد هوت. ولكن في برميل بارود سياسي نلحظه في عام 2017، يمكن للمخرج أن يقول الكثير ببساطة من خلال الشخصيات التي يختار تصويرها في أفلامه، وبطبيعة الحال، ما يهم ماليك حقا هي الاشياء التي تحلق فوق عالمنا، وهي للأسف، مازالت تشغل معظمنا أيضا.
ثم مرة أخرى، لا توجد أفلام يمكنه أن يقدمها وتصبح قادرة على التنافس مع أفلامه الأولى بينما في التسعينات كان غيابه مفتقدا إلا أن معظم عشاق السينما كانوا يستمتعون بافلامه. وبينما جلس لمدة 20 عاما في الظل، لم يكن هناك “كثبان رملية” أو “لون المال” للاحتفال بسحرها. بدلا من ذلك، كانت أفلامه السابقة علامات تنتمي للتحف السينمائية التي كانت تظهر في السبعينات ولم تعد شركات الانتاج ترحب بانتاحها. كان ماليك قد ذهب.. وكان دوره المتلاشي لغزا منالألغاز المجيدة لما قبل ظهور الانترنت. لقد كان أكثر جودة مما يمكننا أن نستوعب.
لذا تخيل خيبة الأمل عندما برز مرة أخرى. كان الأمر كما لو الكاتب سالينغر قد ظهر فجأة في برنامج من برامج التوك شو في وقت متأخر من الليل، ليناقش كيف أنه يحب إعطاء الزهور للمشردين. وأما لا أعلم أبدا أنه قد تمت مسامحة ماليك في أي وقت.
ولكن هنا شيء. في نفس الوقت تقريبا عند ظهور الممثلة إيموجين بوتس في “فارس الكؤوس”، هناك لقطة لكلب من تحت الماء وهو يحاول القبض على كرة بين فكيه، ثم تبتعد الكرة عنه قليلا قيكرر المحاولة. إنها لقطة مثالية – فكرة فلسفية مرهقة، صورت في صورة واحدة بليغة يمكن أن تتكرر إلى ما لا نهاية. في سياق واحد من أكثر الأفلام التي شاهدتها أزعاجا في السنوات الأخيرة، أصبح هذا المشهد على الفور واحدا من المشاهد المفضلة عندي في السينما. وربما يعبر هذا المشهد ذهني كل يوم. ما أريد أن أقوله هنا أنه حتى الآن، عندما يتعلق الأمر بفيلم ماليك الجديد “أغنية إلى أغنية”، بل وبكل فيلم لماليك من الآن وحتى يوم القيامة، على الرغم من أنني سوف أتفهم إذا كنت ترغب في الخروج فإنني سأبقى في مقعدي ولن أصرخ بصوت عال “هذا هراء”.