“نساء صغيرات”: حكايات إنسانية مبهجة
طرح الأطفال أبناء الناشر داشوود سؤالا على والدهم: هل تزوجت من صديقها في النهاية. ماذا حدث بعد ذلك؟ هذا بالضبط كان الإنطباع أمام فيلم أو “نساء صغيرات” Little Women للمخرجة جريتا جروينج.
إنه تجربة إنسانية شاعرية كما لامرأة عانت من المتاعب فقررت أن تكتب حكايات مبهجة، وهي بالفعل مبهجة رغم تراجيدية أغلبيتها وقسوة الواقع أحيانا، تجربة تستحق الوقوف أمامها كثيرا في تفاصيل حكايات ليست جديدة عن النساء لكن السيناريو والحبكة وطريقة السرد جعلت منه فيلما واحدا من أفضل أفلام عام 2019.
قلب عرضه المتأخر قليلا من موازين الترشيحات لدى البعض ممن لا يشاركون في تصويت جوائز الاوسكار الذين لديهم قوائهم الخاصة واختياراتهم، ويشارك في بطولة الفيلم ساويرس رونان وإيما واطسون وفلورنس باو، وإليزا سكانلن وتيموثي شالاميت ولاورا ديرن، مع النجمة الكبيرة ميريل ستريب.والفيلم مأخوذ عن رواية تحمل الاسم للكاتبة لويزا ماي إلكوت سبق أن قدمت في السينما في أفلام عديدة.
تدور الأحداث حول أسرة “مارش” الإنجليزية التي ذهب عائلها إلى الحرب وترك زوجته مع أربع فتيات بمفردهن وسط معاناة الفقر والاحتياج والوحدة لكن هذا لم يمنع أن تبحث كل من الصغيرات الأربع، عما يحقق أحلامها ويثقل موهبتها، فالكبرى ميج “إيما واطسون” تمتلك موهبة التمثيل، وجو أو جوزفين (سيرشا رونان) تكتب القصص والروايات، والثالثة إيمي (فلورنس باو) رسامة. أما الصغرى بيث (إليزا سكانلن) فهي موسيقية تعزف على البيانو، وسط محاولات الأم (لاورا ديرن) تقديم أفضل ما لديها وفق إمكانياتها المحدودة للحفاظ على الأسرة اقتصاديا بجانب الألفة التي جمعتهم سواء ببعضهن أو في علاقاتهن بالجيران والأصدقاء الى أن يفترق أفراد الأسرة نتيجة ظروف معينة حين تسافر جو لالى يويورك وإيمي إلى باريس، وميج تتزوج.
تدور الأحداث في زمنين مختلفين وهنا نجد الاختلاف الذي يعطي ميزة للمخرجة جريتا جروينج، فقد برعت في الانتقال في الزمن على طول الأحداث من خلال شكل الأسرة الحالي والعودة خمسة أعوام الى الوراء لتسرد الحكاية على لسان جو التي يبدأ الفيلم بذهابها إلى الناشر داشوود “تراسي ليتس” لتقديم كتاباتها، داشوود يطلب منها رواية تعتمد على خفة الظل وزيادة جرعات الضحك لتكون أقرب للجمهور، ثم تقرر جو العودة للوطن بعد معرفتها بمرض شقيقتها الصغرى.
في طريق العودة يسير الفيلم في اتجاهين متشابهين تماما لكن مختلفين في الزمن، وهنا تكمن براعة المخرجة التي لا تجيد فقط الانتقال السريع بين زمنين لكن في الانتقال أيضا في الأماكن، بين الماضي والحاضر.
يرصد الفيلم بدقة التطور الكبير في شكل العلاقات الأسرية والاجتماعية سواء داخل الأسرة الواحدة أو علاقة الأسرة بالجيران والتحولات التي تحدث لكل شخصية بالتقدم في العمر والرغبات والأمنيات التي تتباين في كل مرحلة، فالأحداث تقع في فترة انتقالية في إنجلترا بين جيل قديم كان أكثر رضا بالأمر الواقع وظروف المعيشة في الوطن وحروبه وجيل جديد يرغب في التمرد وإثبات نفسه وفرض موهبته على الجميع.
كل فتاة من الرباعي لديها الموهبة والرغبة في إثبات ذاتها وشق طريقها بهدف التحقق ومساعدة الأسرة مع الحفاظ على شكل الأسرة المترابط ، ثم في مرحلة أخرى تحولت وتغيرت الرغبات طبقا للظروف الجديدة فميج أصبحت أكثر ميلا إلى الزواج من جون “جيمس نورتون”، وإيمي ذهبت إلى فرنسا مع عمتها التي لا تحبها أملا في الزواج برجل ثري الى جانب عرض لوحاتها، واستسلام بيث لظروف المرض، لم يتبقى سوى جو هي التي أصرت على استكمال الطريق دون النظر إلى الأمور الأخرى لدرجة إنها تنازلت عن حب صديقها لوري “تيموثي شالاميت” وكادت أن تتنازل عن حبها الثاني لفريدريك “رفائيل سيلفا” حتى نشرت روايتها.
رغم الانتقال المستمر بين زمنين الا أن المخرجة نجحت في الحفاظ على تماسك الفيلم بشكل جعل المشاهد في حالة شغف مستمر بالأحداث للتفاصيل التي تضمنها السيناريو القوي والحوار الشيق في الاقتراب أكثر من العلاقة التي جمعت الشقيقات الأربع ببعضهن وأصدقائهن، قد يشعر المشاهد في البداية بتوهة نتيجة التنقل الدائم لكن بمرور الوقت واستيعاب وجهة نظر المخرجة المبهرة في السرد تزول تلك العقبة ويصبح الامر اعتياديا نظرا للطريقة الممتعة التي قدمت بها.
بمرور الوقت يفقد الترابط الأسري قوته نظرا لتقدم العمر وتباين الاحتياجات وتشابك الرغبات لكن يظل الحب هو الأساس الذي يجمع الأسرة وهو الرهان الدائم لأسرة مارش، فطاقة الحب التي كانت تفيض وتحديدا من الأم أدت إلى زيادة الاقتراب من خال الجار لورنس (كريس كوبر) وحفيده لوري، وأيضا المعلم جون ثم عودة الأب مع وجود الخادمة نجد أن بمرور الوقت تزيد مأدبة الطعام لدى منزل مارش حتى انضم إليهم فريدرك في النهاية.
من أهم النقاط التي امتاز بها الفيلم الأداء التمثيلي فمن النادر أن نجد عملا يكون كل الممثلين فيه في هذه الحالة الفنية من التألق، فكل الممثلين بلا استثناء قدموا أداء مبهرا وعلى رأسهم الممثلة الموهوبة سيرشا رونان التي تتطور موهبتها من دور لآخر بداية من “بروكلين” ثم “ليدي بيرد” والان “نساء صغيرات”، رغم ان دور جو يعد مزيجا من شخصيتي كريستين “ليدي بيرد” وأليس في “بروكلين” لكن الأداء في “نساء صغيرات” كان أكثر نضجا.
الممثلة فلورنس بوا بعد تألقها في العام الماضي في فيلم “منتصف الصيف” تستمر في أدائها المميز في دور إيمي، وهناك أيضا إيما واطسون التي قدمت أداء مذهلا في دور هو الأفضل في مسيرتها المتواضعة لكن جاء دور ميج ليؤكد على أنها تمتلك موهبة تمثيلية لم تستغل جيدا بعد، وأيضا تيموثي شالاميت برع في دور لوري الشاب الثري ضعيف الشخصية الذي لايملك أي طموحات ليقدم شالاميت بعيد عن دور الولد المراهق كما ظهر في “دعني بأسمك” و”ولد جميل” في هذا الفيلم ظهر كشاب ناضج ، أما مفاجأة الفيلم كانت الممثلة لاورا درين في دور الأم والتي ترشحت للأوسكار أفضل ممثلة مساعدة عن دور المحامية في “قصة زواج” لكن بالتأكيد دورها في “نساء صغيرات” أفضل وأعمق فقد قدمت دور الام المحبة لأبنائها التي تقدم المساعدة للغرباء حتى وهي في أشد الإحتياج التي تنتظر عودة زوجها بفارغ الصبر.
جاءت الموسيقى التصويرية للموسيقار ألكسندر ديسبلت لتتوج العمل وتغلفه بمزيد من الجمال والروعة ونفس الحال على مستوى تصميم الأزياء وسيكون هذا الفيلم منافس قوي في هذه الجائزة مع “حدث ذات مرة في هوليوود”، أما البطلة الحقيقية لهذا الفيلم فهي المخرجة جريتا جرونج التي تخلت عن أضواء التمثيل مؤقتا لتقدم نفسها كمخرجة موهوبة في “ليدي بيرد” ومن بعدها الرؤية المختلفة الجديدة التي قدمتها لأهم الروايات الكلاسيكية في العصر الحديث من خلال صورة مبهرة وسرد ممتع وتنقل بين زمنين بتمكن مذهل.