مهرجان لندن: رحلة نحو فهم الذات والعالم

الميزة الكبرى التي تمنحنا إياها مهرجانات السينما الدولية، هي أنها تتيح لنا فرصة التعرف على ثقافات أخرى، والاقتراب من هموم الفرد في بلدان العالم المختلفة. ومن هذه الأفلام القادمة من سينما لا نعرف عنها سوى أقل القليل، شاهدت في مهرجان لندن السينمائي الـ 65، فيلما من فنلندا هو فيلم “القمرة رقم 6” أو   Comratment No 6 وهو ثاني أفلام المخرج الفنلندي “يوهو كوزمانن” Juho Kuosmanen (42 سنة) الذي سبق أن أدهشنا بفيلمه السابق “أسعد يوم في حياة أوللي ماكي” الذي حصد جائزة أفضل فيلم في تظاهرة “نظرة ما” بمهرجان كان السينمائي عام 2016.

أما “القمرة رقم 6″ فهو فيلمه الروائي الطويل الثالث، وهو مقتبس بتصرف، عن رواية بالعنوان نفسه للكاتبة الفنلندية روزا لينكسوم (صدرت عام 2011). وكان الفيلم قد اختير للمشاركة في مسابقة مهرجان كان السينمائي هذا العام. ويمكن القول إنه أحد ما يعرف بـ”أفلام الطريق” غير أن الطريق هنا نراه في الحقيقة، من داخل قطار يقطع الطريق من موسكو إلى بلدة مورمانسك Murmansk في أقصى الشمال الروسي. وأحداث الفيلم تقع في الفترة التي أعقبت تفكك الاتحاد السوفيتي، أي في التسعينيات، يشي بذلك شكل القطار نفسه وحالته المتدنية، وصرامة حارسة عربة القطار المتجهمة التي تنتمي الى “الحالة” السوفيتية الصارمة المعروفة، وكاميرا الفيديو الكبيرة التي تحملها معها بطلة الفيلم “لاورا” وهي طالبة فنلندية جاءت إلى موسكو لدراسة اللغة الروسية، ثم ما يشير إليه بطل الفيلم أو الشخصية الثانية الرئيسية فيه “إيوها” وهو عامل مناجم روسي خشن المظهر والسلوك.

موضوع الفيلم هو كيف يختلف ويتناقض هذان الشخصيان اللذان ينتمي كل منهما إلى بيئة مختلفة تماما، وثقافة مختلفة، ثم كيف توحد بينهما تدريجيا الوحدة والرغبة في التقارب، ليس على صعيد الرغبة أو العلاقة الجنسية أو المغامرة، بل على المستوى الإنساني، أي أن الفيلم يريد أن يقول لنا إنه مهما اختلفنا فمن الممكن ان نتقارب بل وأن يشعر بعضنا بالبعض الآخر بعد أن ندرك أن ما نتصوره اختلافا عنا، هو في الحقيقة، ما يقربنا لنكتشف أننا متشابهون في القلب وفي الجوهر مهما بدا الشكل مختلفا.

لدينا الشخصية الأولى “لاورا” وهي فتاة متعلمة قادمة من الخارج، من محيط آخر وثقافة أخرى، مغرمة بالبحث في الآثار التاريخية، تريد أن تذهب إلى مورمانسك لمشاهدة صخور قديمة مشهورة منقوش عليها لوحات ملونة. وهي تتطلع إلى “الآخر”، أو الشاب الروسي، بل وإلى كل ما يقابلها في تلك الرحلة الطويلة، من نظرة الغريب الذي يعتقد انه أرقى وأكثر فهما للعالم لكنها تصبح خاصة بعد أن تنتهي ما تصورته علاقة حب نشأت بينها وبين “إيرينا” تلك المرأة الروسية الجذابة المثقفة التي استأجرت غرفة في منزلها الفخم في موسكو، لكنها سرعان ما تدرك أنها لم تكن كذلك بعد أن تغادر وحدها لتقطع رحلتها التي تبدو في البداية رحلة كئيبة، لا تثير الاهتمام.

والحاصل أن الفيلم لا يركز كما في أفلام الطريق عادة، على ما يقع على جانبي الطريق من مفارقات واحداث وشخصيات غريبة، بل يركز فقط على تلك العلاقة الإنسانية التي تنشأ بين لاورا وإيوها، وهي علاقة تفرضها طبيعة تشاركهما القمرة رقم 6 من الدرجة الثانية داخل هذا القطار الذي يقطع الرحلة، ويتوقف ساعات في مدن محددة، حيث تتاح الفرصة للخروج منه إلى بعض المغامرات الخارجية المحدودة.

لاورا ترفض في البداية إقامة أي حوار مع “إيوها” الفظ الخشن الذي يفرط في احتساء الفودكا ويتناول قطع السجق مثل الحيوانات ويحاول يتحرش بها وهو تحت تأثير السكر. تهرب منه الى عربة الدرجة الثالثة، تبحث لها عن مكان آمن وسط قطيع الركاب الفقراء.. تحاول رشوة حارسة عربة الدرجة الثانية لكي تنقلها الى عربة أخرى ولكن دون جدوى. تعود مرغمة الى القمرة رقم 6 لتجد صاحبنا يستلقي على أرضية القمرة في حالة مزرية، يغط في نوم لا يشي بالراحة بل بالقلق والتوتر، لكنه بعد ذلك، رغم استنكاره لأن تكون هذه الأجنبية، قد جاءت لتقطع هذه الرحلة الطويلة فقط من أجل القاء نظرة على تلك الأحجار الملونة، يصبح أكثر احتراما لها وتقديرا ويحاول بشتى الطرق التودد إليها بينما تنشغل هي بتصوير كل ما تمر عليه بكاميرا الفيديو التي تحملها.

إنه يتساءل في تعجب: وما الذي يفيده النظر الى مجموعة أحجار ملونة؟

تجيبه هي بعبارة يمكن اعتبارها مفتاح هذا الفيلم: من المهم أن نعرف ماضينا لكي نفهم حاضرنا. والحقيقة أن الفيلم بأسره، يدور حول فكرة اكتشاف الذات، معرفة من نحن، من أين أتينا، ولماذا أصبحنا كما أصبحنا، وهل نختلف عن غيرنا، أم أن هناك سمات إنسانية واحدة تجمعنا مهما اختلفت الثقافات؟

إن رحلة القطار الطويلة المضنية هي رحلة اكتشاف الذات والآخر.. والقطار يتوقف خلال الرحلة ليلة كاملة في سانت بطرسبورج. تتصل لاورا بصديقتها إيرينا في موسكو.. تريد أن تقطع الرحلة وتعود إلى أحضانها.. لكنها لا تحصد سوى الفتور. لقد كانت إذن مجرد مغامرة عابرة. ويحاول إيوها بشتى الطرق جذب انتباه لاورا إلى أن ينجح أخيرا في اقناعها بالذهاب معه أثناء توقف القطار في بلدة أخرى، لزيارة والدته بالتبني في احدى الضواحي.. ويبدو أنه قد سرق سيارة يقودها وسط الضباب المختلط بظلام الليل في جو صقيعي، مسلحا ببضعة زجاجات من الفودكا وغير ذلك..

المرأة الروسية التي تدعو كليهما الى العشاء.. تردد عبارات تحمل من الحكمة بقدر ما تشي بالفلسفة.. عن المرأة وقوة المرأة قدرتها على مواجهة العالم أكثر من الرجال.. يتشارك الثلاثة في احتساء الشراب والضحك والاستمتاع باللحظة. وهي المرة الأولى التي تتخلى فيها لاورا عن تحفظها وتترك نفسها على سجيتها. لقد بدأت تشعر بالآخر..

عندما تأتي لاورا بعازف جيتار فنلندي ضل طريقه الى عربة الدرجة الثانية ولا مكان له فيها، لكي يقيم معهما في نفس القمرة، تتوتر علاقتها مع إيوها.. الذي يشعر بالغيرة والحنق. وسرعان ما يختفي الراكب الغامض في المحطة التالية بعد أن يستولي على كاميرا لاورا. إنها تبكي ضياع كل ما سجلته من ذكريات في بيت إيرينا الذي أصبح بعيدا نائيا عنها، مجرد ذكرى.. وكأن اختفاء الكاميرا إيذانا بمرحلة جديدة في حياتها. بعد البكاء يأتي الضحك عندما يقول لها إيوها إن من الضروري إبادة الجنس البشري، تعاطفا وتعبيرا عن رفضه ذلك السلوك البشري، الذي يأتي من رجل وضعت هي ثقتها فيه واشفقت عليه. لكنها لحظة أخرى تقربها من إيوها الذي سيكشف تدريجيا عن محنته الشخصية، وحدته في هذا العالم، مع رغبة قوية في الحب.

من أكثر ما يلفت النظر في هذا الفيلم أن الشخصيتين الرئيسيتين لا تنتميان الى عالم النجوم.. بل هما ينتميان للشخصيات “العادية”، فالفتاة ليست صغيرة أو نحيلة الخصر وجميلة دمالا ملفتا مثل نجمات الأفلام الأمريكية، بل مترهلة ذات ملامح فيها قدر من التنافر الذي يضفي طابعا كاريكاتوريا على وجهها، والشاب صغير قصير ونحيل بحيث يبدو كطفل مشاغب لم ينمو بعد.

الفيلم منسوج حلقة وراء أخرى في براعة تامة في السرد، وفي التصوير الذي يحافظ على أقص درجات الواقعية. إنه يجسد صورة صادقة معبرة تشي برائحة الماضي ومزاج اللون والجو العام داخل وخارج القطار.. ملامح من بقايا العصر السوفيتي، مع ملامح من التسعينيات تتضح أكثر عبر شريط الصوت والأغاني المستخدمة في الفيلم.. ويبتكر المخرج مشاهد تكشف عن طفولية إيوها عندما تتطلع إليه لاورا من وراء زجاج نافذة القمرة لتجده يلهو بكرات من الثلج يصنعها ويكورها ويلقي بها ثم يحاول ضربها بقبضة يده دون أن ينجح.

أهم عناصر الفيلم هنا إلى جانب تلك الكيمياء البديعة التي تجمع بين الممثلين الرئيسيين: الفنلندية سيدي هارلا (لاورا)، والروسي يوري بوريسوف (إيوها)، ذلك التصوير البديع الذي يجعلنا نشعر طوال الوقت بالحركة رغم المكان الضيق المحدود.. فالكاميرا تمتلك القدرة على الحركة داخل الديكور المتقن لعربات القطار، الذي أتى مطابقا بدرجة مدهشة لقطارات النوم الروسية في تلك الفترة. وأضاف التصوير طابعا شجيا حزينا على الصورة، كما لو كنا أمام مرثية لعصر رومانسي (نلاحظ تكرار الإشارة الى مصير البطلة في فيلم “تيتانك”).. عصر الوحدة والمغامرة الفردية وفقدان البوصلة خلال الطريق والرغبة القوية في العثور على حقيقة الذات، والبحث عن التواصل الإنساني ولو مع الشخص النقيض. ورغم هذه الأفكار الكبيرة إلا أن الفيلم لا يفرضها علينا، ولا يبدو في أي لحظة، أنه يوجه خطابا مباشرا، بل تظل هذه المعاني كامنة تحت جلد الصورة، تشعر بها من خلال النظرات، تعبيرات الوجه في لقطات الكلوز أب التي تقربنا من الشخصيات ومن مشاعرها واضطرابها ثم انسجامها..

إن “القمرة رقم 6” عمل لا يدعي، ولا يفرض شيئا علينا. بل يقدم صورة صادقة واقعية رومانسية لعالم مضى، لما كنا عليه قبل أن تزداد الحياة تعقيدا، ولعلنا لانزال أيضا!

Visited 13 times, 1 visit(s) today