مهرجان روتردام السينمائي الـ48: حضور كبير للأفلام العربية
تفتتح مساء الأربعاء 23 يناير الجاري الدورة الثامنة والأربعون من مهرجان روتردام السينمائي أول المهرجانات السينمائية الأوروبية الكبرى في العام، ويقام بالتوازي مع مهرجان سندانس الأميركي، ويخصص أقسمه ومسابقاته الرئيسية للتجارب السينمائية الجديدة لشباب السينمائيين في العالم. وتختتم الدورة في الثالث من فبراير.
يقام المهرجان في المدينة الهولندية التي تبلغ نسبة السكان ذوو الأصول الأجنبية فيها من الأتراك والعرب وغيرهم، أكثر من 47 في المائة، وينظم مسابقتين رئيسيتين كما يخصص جائزة الجمهور بنظام التصويت عن طريق بطاقات اقتراع، ويمنح الاتحاد الدولي للصحافة السينمائية جائزة لأحسن فيلم.
ويراعى في برامج المهرجان عادة التمثيل الثقافي للأقليات (ذات الأصول الأجنبية) التي تقيم في المدينة بعرض أفلام من السينمات غير الأوروبية، وكان المهرجان تاريخيا يهتم كثيرا بالسينما العربية والمخرجين الشباب من فلسطين ومصر والعراق والمغرب، كما يحصل الكثير من مشاريع الأفلام العربية دعما ماليا من صندوق هيوبرت بالس للدعم السينمائي الذي يحتفل المهرجان هذا العام بمرور 30 عاما على تأسيسه، وهو يعتبر رائدا في مثل هذا النوع من دعم الأفلام الفنية للمخرجين الشباب من بلدان العالم الثالث على وجه التحديد. ويحمل الصندوق اسم مؤسس المهرجان هيوبرت بالس عام 1972. وقد تبعت روتردام مهرجانات أخرى شهيرة في الشرق وفي الغرب في تقديم الدعم للأفلام الفنية.
ويرصد الصندوق أنواعا متعددة من الدعم لمراحل السيناريو والتصوير وما بعد الإنتاج. وفي العام الماضي حصل 11 فيلما على 110 ألف يورو كما تقاسم فيلمان الدعم المقدم بالتعاون بين صندوق هيوبرت بالس وصندوق الدعم الأوروبي للإنتاج المشترك وحصل كل فيلم على 50 ألف يورو.
يعرض المهرجان أكثر من 240 فيلما وهو مهرجان مفتوح للجمهور، يصل عدد بطاقات الدخول الى عروضه اليومية التي تستمر حتى الثاني من فبراير، أكثر من 330 ألف بطاقة.
يفتتح المهرجان بفيلم “الإله الظالم” Dirty God للمخرجة الهولندية ساشا بولاك، وهو فيلمها الروائي الثالث وأول فيلم هولندي يشارك في مسابقة مهرجان سندانس، وأول أفلامها الناطقة بالانكليزية، وهو من الإنتاج المشترك بين هولندا وبريطانيا وايرلندا وبلجيكا. وموضوع الفيلم يدور حول امرأة تتعرض لحادث بشع من جانب زوجها السابق عندما يقذفها بمادة حارقة (حمض الكبرتيك) تتسبب في حروق بوجهها ورقبتها وصدرهاـ وتغادر المستشفى بعد ان تتلقى العلاج لكي تواجه بمفردها الحياة وتسعى للتعامل مع الواقع برؤية أخرى.
“أبناء الدنمارك” فيلم للعراقي علا سليم مثير للجدل
مسابقة النمر
أما المسابقة الأولى الرئيسية لأفلام الشباب، التي تحمل شعار المدينة ورمزها، أي “مسابقة النمر”، وتمنح جائزة أحسن فيلم وقيمتها 40 ألف يورو يتقاسمها المخرج والمنتج، وجائزة خاصة للإنجاز الفني المتميز وقيمتها 10 آلاف يورو. وقد انخفض منذ العام الماضي تحت إدارة المدير الجديد للمهرجان بيرو بيير، عدد الأفلام التي تشارك في هذه المسابقة إلى 8 أفلام فقط. والأفلام تمثل مخرجين من الدنمارك والبرازيل والبوسنه وهونغ كونغ وروسيا وشيلي والسويد واسبانيا. ومعظم هذه الأفلام كما جرى العرف، من الإنتاج المشترك لكننا نلتزم هنا بنسبة الفيلم إلى مخرجه وليس الى الأطراف الإنتاجية التي أصبحت متعددة بشكل يدعو الى التشوش. وعرض هذه الأفلام في روتردام سيكون العرض العالمي الأول، باستثناء فيلم واحد فقط سيعرض للمرة الأولى خارج بلده عرضا “دوليا”.
وكان الفيلم الفلسطيني البديع “التقارير عن ساره وسليم” قد فاز في مسابقة العام الماضي بجائزة أحسن سيناريو. وهذا العام تغيب أفلام المخرجين العرب من العالم العربي لكن في المسابقة فيلم “أبناء الدنمارك” للمخرج الدنماركي من أصل عراقي علا سليم، ويصور موضوعا يدور حول تنامي اليمين المتطرف في الدنمارك بعد وقوع تفجير إرهابي، وكيف تصبح حياة الأسر المهاجرة مهددة، ثم كيف ينعكس الوضع المضطرب على مصير “زكريا” الذي يحاول انقاذ عائلته من هجمات المتطرفين.
الفيلم البوسني “خذني الى مكان جميل” للمخرجة إيما سندياريفتش، وهو فيلمها الأول، من نوع أفلام الطريق، ويتابع رحلة فتاة شابة من مهاجري البوسنه نشأت في أسرة بوسنية تبنتها لكن عندما تعلم بمرض والدها الأصلي ودخوله المستشفى تقطع رحلة لكي تراه للمرة الأخيرة، وخلال الرحلة تكتشف حقيقة انتمائها وحقيقة نفسها وتكون قد ودعت الطفولة ودخلت مرحلة الأنوثة. وتقول المعلومات المتوفرة عن الفيلم إن مخرجته أعربت عن اعجابها بالأفلام التي يخرجها الأميركي جيم جارموش وأن الفيلم متأثر كثيرا بفيلمه الشهير “أغرب من الفردوس”.
تتميز أفلام مسابقة النمر بالجرأة في اقترابها من المناطق الصعبة كما تفعل شنغزي زو مخرجة الفيلم الصيني من هونغ كونغ “الماضي التام” التي فحصت أكثر من 800 ساعة من شرائط الفيديو عبر عشرة أشهر، لكي تعثر على أبطال فيلمها (التسجيلي الطويل) الذين استغرقوا في التعامل مع مواقع البث عبر شبكة الانترنت بحيث لم يعد بمقدورهم التفرقة بين الحقيقة والخيال، بتركيز خاص على نماذج من مدمني القرصنة وتحميل الفيديوهات من على موقع يوتيوب وغيره، من المهمشين والشخصيات المعزولة اجتماعيا. وتصور المخرجة كيف أصبحت مشاهدة الشرائط الغريبة التي تمتلئ بالعنف والفظائع مادة للكسب التجاري علما بأن عدد من يتابعونها بشغف في الصين بلغ 422 مليون شخص.
الشاشة الكبيرة
المسابقة الثانية في المهرجان هي مسابقة “الشاشة الكبيرة” ومثلها مثل المسابقة السابقة تشمل عرض 8 أفلام جديدة، ويحصل الفيلم الفائز فيها من خلال لجنة تحكيم خاصة، على جائزة قيمتها 30 ألف يورو تنقسم الى 15 ألف يورو تمنح للموزع الهولندي الذي يعرض الفيلم الفائز في هولندا، و15 ألف أخرى تستثمر في المشروع القادم للمخرج. ومن أهم ما يعرض في هذه المسابقة الفيلم الأميركي التسجيلي “مرحبا أيها الشيطان” للمخرجة بيني لين التي تعتبر من أشهر مخرجي السينما الأميركية المستقلة وقد اشتهرت بفيلمها “نيسكونا”Our Nixon. وهناك أيضا فيلم “ملكة القلوب” للمخرجة الدنماركية من أصل مصري مي الطوخي وهو فيلمها الطويل الثاني، ويصور الفيلم علاقة غير شرعية تنشأ بين امرأة متزوجة ولديها طفلان وتبدو سعيدة مع زوجها تقيم علاقة جنسية مع ابن زوجها من زوجة أخرى بعد ان ينتقل للإقامة مع الأسرة.
إلى جانب المسابقتين الرئيسيتين هناك أيضا مسابقة الأفلام القصيرة، ومسابقة قسم “المستقبل المشرق” (20 فيلما). أما قسم “المستقبل المشرق” نفسه فيشمل عرض 47 فيلما منها 19 فيلما تعرض عروضا عالمية أولى.
الحضور العربي
كما ذكرت من قبل هناك فيلم لمخرج عراقي الأصل (أبناء الدنمارك) وآخر لمخرجة مصرية الأصل (ملكة القلوب)، وهناك أيضا 7 أفلام أخرى لمخرجات ومخرجين ينتمون للعالم العربي والثقافة العربية، أولها فيلم “يوم فقدت ظلي” للمخرجة السورية سؤدد كعدان الذي سبق أن تناولناه بالنقد عند عرضه في مهرجان لندن في أكتوبر الماضي. وهو يدور حول مأساة السوريين في ظل النزاع المسلح القائم في سوريا. كما تعرض المخرجة اللبنانية نادين لبكي فيلمها “كفر ناحوم” عن معاناة أطفال الشوارع في بيروت من زاوية إنسانية، وقد حصل هذا الفيلم على جائزة رئيسية في دورة مهرجان كان الماضية، طاف بعدها عددا من المهرجانات السينمائية.
ويعرض ضمن قسم أصوات” أيضا الفيلم الفلسطيني “تل أبيب ع نار” للمخرج سامح زعبي وهو من فلسطينيي الداخل، وهو فيلم كوميدي ساخر مع الكثير من الإشارات والرموز السياسية، يدور حول المفارقات الغريبة التي تقع خلال تصوير مسلسل تليفزيوني فلسطيني وكيف يتعرض بطل الفيلم لضغوط من جانب ضابط إسرائيلي لكي يغير في المسلسل ويجعله يتفق مع وجهة نظر الاحتلال. وقد سبق أن قدمنا نقدا تفصيليا للفيلم عندما عرض في مهرجان فينيسيا. وفي قسم “أصوات” أيضا يعرض “ريح رباني” وهو الفيلم الجديد للمخرج الجزائري مرزاق علواش، الذي يواصل فيه التعبير عن اهتمامه الكبير منذ سنوات، بمسألة التطرف وجماعات العنف السياسي باسم الدين في الجزائر.
“رياح رباني” للجزائري مرزاق علواش عن التطرف
ويعرض في نفس القسم فيلم “صوفيا” للمخرجة المغربية مريم بن مبارك الفائز عن استحقاق بجائزة أفضل سيناريو في قسم “نصف شهر المخرجين” بمهرجان كان.
وإضافة الى الأفلام العربية الخمسة الطويلة هناك فيلمان قصيران الأول هو “جدار بلا جدار” للمخرج الأردني لورانس أبو حمدان المقيم في بيروت وفيلمه يرتبط بمجال اهتمامه كخبير في دراسة تأثيرات الانصات أو الاستماع من وراء الجدران، وهو يتناول هذا الموضوع في فيلمه الذي يقع في 21 دقيقة ومن الإنتاج الألماني. وقد صوره في ستديو في شرق برلين، حيث يستعرض عددا من القضايا التي استمع خلالها الشهود الى أصوات من وراء جدران. أما الفيلم القصير الثاني فهو “حفل في الكابس” Party on the CAPSللمخرجة المغربية الشابة مريم بناني، وموضوعه خيالي وتدور وقائعه في الكابس وهي جزيرة متخيلة يتم فيها تجميع اللاجئين غير الشرعيين تمهيدا لترحيلهم عن طريق تصدير طاقتهم أي دون نقلهم جسمانيا. لكن مشاهدة الفيلم تبقى هي الأساس.
ومن الأفلام المنتظرة في قسم “أصوات” فيلم “الأم السوداء” وهو فيلم تسجيلي طويل للمخرج الأميركي من أصل جامايكي خليق الله، وفيه يقدم صورة دقيقة مثيرة عن التركيبة النفسية والتاريخية لسكان الجزيرة الجميلة، كيف ينظرون الى أنفسهم والى تاريخ العبودية، وكيف يحلمون بالانطلاق من أسر العادات القديمة والتحرر من فكر العبودية والاستغلال، الذي أصبح مرتبكا بمشاق الحياة اليومية.
ومن إيران يشارك الفيلم الروائي الطويل “طهران: مدينة الحب” للمخرج علي جابر أنصاري، وهو فيلمه الطويل الثاني. ويدور حول ثلاثة أشخاص يبحثون عن الحب في المدينة الكبيرة، كل بطريقته الخاصة.
ويعرض المخرج الأرجنتيني ماريو أندريزي فيلمين من النوع التسجيلي الأول هو “توقف في دبي” (27 دقيقة) صنعه من الشرائط التي سجلتها كاميرات المراقبة الأمنية في دبي ويعيد من خلالها عملية تسلل عملاء إسرائيليين لاغتيال القيادي في حركة حماس محمود المبحوح، أما فيلمه الثاني “مسألة القاهرة” (25 دقيقة) ففيه ينتقل من العراق حيث صور رؤيته للعدوان الأميركي عام 2003 الى طهران ثم الى القاهرة حيث سجل ردود الفعل على هجمات أسماك القرش على السياح ثم ما تردد عن مهاجمة بعض التماسيح البشر على ضفتي نهر النيل. وهو يقدم فيلمه هذا في سياق أفلام الجاسوسية.
من فيلم “رسالة الى ثيو”
في البؤرة العميقة
وفي قسم تحت عنوان “البؤرة العميقة” يُعرض فيلم “رسالة إلى ثيو” (63 دقيقة) للمخرجة الودي ليلو التي عملت كمساعدة للمخرج اليوناني الراحل الكبير ثيو انجلوبولوس. وكان أنجلوبولوس قد لقي مصرعه في حادث عندما كان يعبر الطريق في أثينا حيث كان يصور آخر أفلامه الذي لم يكمله، وبعد أن صدمته دراجة نارية في 24 يناير 2012. لم تصل سيارة اسعاف لإنقاذ المخرج المرموق، واعتبر هذا التقصير بمثابة جريمة قتل. ولكن هل قُتل أنجلوبولوس؟ المخرجة الفرنسية التي كانت وثيقة الصلة به وبأفلامه تصنع فيلما متبعة كما تقول المعلومات، نفس أسلوبه في التعامل مع الصورة. ولكن يبقى تقييم الفيلم مرهونا بالطبع بمشاهدته. والفيلم من النوع الذي يمكن وصفه بـ “التسجيلي الخيالي”. أي أنه خيالي مبني على تصور لما وقع.
من أهم ملامح مهرجان روتردام “دروس السينما” التي يقدمها هذا العام عدد من كبار السينمائيين وسيحضر منهم للحديث الى الجمهور عن تجاربهم السينمائية في هذه الدورة المخرج المكسيكي الكبير كارلوس ريغاداس والمخرجة البولنديو أنجيليكا هولاند، والمخرج الفرنسي فيليب بارينو، والمخرجة الفرنسية كلير دينيس، والمخرج الصيني جيا جانكي والمخرج السويسري فابريس أرانو. وكل هؤلاء يعرض المهرجان أحدث أفلامهم في برامجه المختلفة.
الدورة حافلة بالأفلام والأسماء الكبيرة والتجارب الشابة، وهي تتيح الفرصة لاكتشاف الكثير من التجارب الجديدة الشابة، بوجه خاص من سينما جنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية.
المخرج المكسيكي كارلوس ريغاداس: درس السينما