من أفلام الماضي: “العذراء والشعر الأبيض”.. جرأة القصة وعقم الفيلم!
عندما تستعير السينما فكر الأدب.. فلا إلزام عليها أبدا أن تلتزم بنصه، وإنما يمكن للمخرج والسيناريست أن يقدما وجهة نظر جديدة فى عمل أدبى ناجح له رونقه وسحره وإن كنت لا أميل إلى ذلك طوال الوقت ولكننى أبدا لا أختلف معه، أما أن يقوم المخرج أو السيناريست بتقديم فكرة لا تتفق وبأى شكل مع مضمون وروح فكرة العمل الأدبى، فأنا لا أعتبر ذلك سوى تجنى فى كل حال من الأحوال على هذا العمل وعلى حالته الحقيقية ومضمونه الفكرى.
وهذا ما حدث مع قصة “العذراء والشعر الأبيض” عن حسان عبد القدوس، والتى قدم فيها حالة مركبة شديدة التعقيد تحوى بين سطورها قدر كبير من النضج والجرأة والقدرة على المواجهة، بينما جاء الفيلم المأخوذ عن نفس القصة ليجهض كل تلك المعانى وبكل بساطة بشكل مستفز ومنفر يجعلك تتساءل لماذا تم إنتاج ذلك الفيلم من الأساس؟
“دولت” أو الشخصية النسائية الأولى فى قصة عبد القدوس التى قامت بدورها فى الفيلم الذي أخرجه حسين كمال، نبيلة عبيد، شخصية شديدة الأنانية، رغبتها الجنونية فى الإنجاب تحولت إلى عقدة نقص بعد أن تأكدت أنها عاقر، فتجدها على عكس ما قد تصل إليه إمرأة على هذه الحالة من اليأس، تحرك كل ما حولها تبعا لأغراضها وتتملكها شهوة إمتلاك كل شىء بأى طريقة وبأى ثمن، فتجدها تلك المرأة التى تخون زوجها لتتأكد فى داخلها أنها ليست عاقر، ثم تتزوج من خانت زوجها معه أملا فى أن تنجب فى الوقت الذى أرادته وبالطريقة التى تحددها، وعندما تضطر أن تواجه الحقيقة التى طالما أنكرتها وبكل الطرق تلجأ إلى أن تتبنى طفلة، وتكبر الطفلة وتصبح أنثى ينشغل بها زوجها “محمد” – محمود عبد العزيز- ذلك الزوج الذى وقع فى شباك تلك السيدة القاسية التى أخذت منه أكثر مما أعطت له حتى وإن كانت فى ظاهر الأمر تغدق عليه حنانا وتفيض له حبا، فببساطة قبلت دولت أن يهجرها محمد فى الفراش لأن أولوياتها الأولى والأخيرة تحقيق رغباتها وطالما بقى إلى جانبها وظل فى حدود ملكيتها لا يضيرها أى شىء قد يؤذيه أو يحد من قربه منها.
وكان من الطبيعى ألا يشعر محمد ببثينة (شريهان) الإبنة المتبناه التى تكبر فى بيته وهو لا يعلم عنها شيئا سوى أن يحضر لها هدية فى كل مرة من المرات الشبه دائمة التى يسافر فيها ويبتعد ليعمل بعيدا عن ذلك المنزل الذى أصبح لا يشعر تجاهه بأى إنتماء، ولكن يشعر ببثينة الانثى التى تفكر هى الأخرى فيه كرجل ناضج جذاب أعجبت به ذات يوم وأضحى ذلك الإعجاب يزيد يوما بعد يوم حتى تحول إلى حب حقيقى أعطت فيه محمد كل ما افتقده مع إمرأة مثل دولت.
دولت فى قصة إحسان عبد القدوس لم تحب أحدا سوى نفسها التى يمكنك أن تصفها بأنها نفس غير سوية ، يمكنها ببساطة أن تعلم وتشجع علاقة بين زوجها وابنتها المتبناه فى سبيل أن تحتفظ بكليهما إلى جانبها وحولها ، فتجدها فى نهاية القصة تعلم كل شىء مما دار بين بثينة ومحمد بل وتقترح حلول لذلك الوضع الغريب المنفر ، ومن هنا تأتى جرأة إحسان عبد القدوس الذى عرض الحالة بكل جوانبها وإرتضى أن يواجه المجتمع فى سطوره بنموذج شخصية مثل دولت يوجد منها بين صفوفه الكثير.
وإنما فى الفيلم تجد قصة أخرى غير التى نسجها إحسان تماما ، تجد دولت إمرأة حنونة جدا تريد بشدة أن تنجب ولكن بشكل سوى مقبول ، تحب محمد وحتى نهاية الفيلم تظل العلاقة الجنسية بينهما على ما يرام ، أما بثينة فهى مجرد فتاة مراهقة تتعلق تعلق سخيف بأبوها بالتبنى وتهم فى أحد المشاهد بتقبيله ولكن يلطمها محمد على وجهها لطمة قوية لتعود بثينه إلى صوابها بعد ذلك ، وكأن تعلقها المراهق بمحمد كان بمثابة ذبابة تطن فى أذنها أخرجتها اللطمة بسهولة فعدت رأس بثينة سليمة عاقلة خالية من أى ذباب، أين قصة إحسان عبد القدوس من ذلك لا أعلم ؟!
فضلا عن أن الفيلم على المستوى الفنى مفكك، تشعر أنه ينقسم إلى جزأين كل جزأ منهم فيلم بحد ذاته، فتجد فى البداية حكاية قصة حب دولت ومحمد والتى تجدها شديدة الجاذبية والعذوبة وكأنها حدوتة منفصلة، ثم تأتى فيما بعد حكاية بثينة والذبابة لتخرب كل شىء ولتجعلك تشعر أنك تشاهد فيلما آخر!
هنا يأتى سؤال يراودنى كثيرا ويلح على ذهنى.. ما الجديد الذى قدمه ذلك الفيلم ولماذا تم إنتاج فيلما مأخوذا عن تلك القصة بينما لم يقدم صناع الفيلم القصة من الأساس؟
آخر كلمتين
بخلاف تناقض التركيبة النفسية لشخصية دولت بين القصة والفيلم، تأتى مساحة دور دولت فى القصة أصغر بكثير مما أتيح لها فى الفيلم وهذا يعود لفرض نجمة مثل نبيلة عبيد نفسها على الدور بشكل يجعلها تقبل أن تقدم فيه شخصية سوية لها الظهور الأغلب فى الفيلم مقابل أن لا يكون لذلك أدنى علاقة بالشخصية التى كتبها عبد القدوس.. ولا يمكنك أن تنسى أنها فى ذلك الوقت كانت نجمة مصر الأولى!