ملامح فلسفية وجمالية في أفلام بيلاتار
سينما المخرج المجري بيلاتار، سينما تبحث عن المعني الحقيقي لبؤس العالم، تطرح ايقونات المأساة في التاريخ البشري، في المشهدية لبيلاتار ليس هناك بهرجة أو تزيين في القصة والأفكار، دائما سيعي المشاهد أنه بصدد عالم كابوسي عن واقعه وحقيقة عالمه التي كان يهرب منها دائما، سيواجه هذه الحقيقة وهو عاري من أي وسائل دفاعيه لطردها من خياله وتفكيره.
إلى جانب هذا بيلاتار يستحوذ علي المشاهد بجماليات بصرية كبيرة، يمكن القول إنها لوحات فنية تجذب العين والخيال، في هذا المقال، نحاول البحث عن ملامح الجمال البصري والأبعاد الفلسفية في سينما هذا المخرج، حيث تميزت افلامه بكثافة فلسفية مبطنة في الصورة، ومنها الفلسفة المادية للانسان، والقدرة التجريدية لبيلاتار لصياغة الأفكار في صور سينمائية.
الصراع الحتمي والفلسفة المادية
في افلام بيلاتار هناك رفض تام للرحمة وامكانية تدخل العدالة السماوية في الامور، فالمادة والطبيعة وصراعاتها المتعددة تتحكم في سلوك الانسان، فهناك حالة صراعية بحتة للتفاصيل في السرد السينمائي، بلا نستطيع القول أنه الصراع المجرد للاشياء والقيم، فقد استطاع بيلاتار انتزاع كل الستائر والطبقات التي تخفي تفاصيل الصراع، ورميها بعيدا. أنه صراع تمثله تفسيرات اقوي من تفسيرات ماركس حول صراع الطبقات، اقوي من صراعات الرأسمالية نفسها، ايضا صراعاته السينمائية في المشهدية تجاوزت البعد الصراعي لعدمية الشئ وسوداويته لدي الفيلسوف الروماني اميل سيوران.
وفيلمية بيلاتار وفقا لما ذكرا تتجاوز كثيرا ابعاد ومبادئ الفلسفة المادية التي تعتبر من محددت وصف الحياة والعالم لهذا المخرج العبقري، فهو يري العالم من منظوري اخلاقي بأنه مادي صراعي ليس هناك اخلاق، فالانسان تجاوز نفسه والعالم من اجل لذة الصراع المادي. وهذه الفلسفة المادية تنص علي ان الوجود والعالم والاشياء لا تتحق الا في شكل مادي،t الإنسان سيد نفسه ومالك مصيره فهو وحده المسئول عن أن يشرع لنفسه في السياسة والاقتصاد والاجتماع وسائر نواحي حياته. وهو ما يتضح في سينما بيلاتار باقتدار بل يتجاوزه من شدة البصرية المدهشة التي تعبر عن هذه الفلسفة واكثر. وهذه الفلسفة ايضا ترفض الإله بوصفه شرطا من شروط الحياة.
الوعي المرعب النقي
يدخلنا بيلاتار في افلامه نحو الوعي البرئ، وعي الطفل، فيشعر بسوء العالم والاشياء وكابوسية الواقع والحياة، فالمشاهد يصبح لديه وعي اكتئابي حاد، وعي نقي، وعي لاعقلاني حزين، وعي البراءة والبكاء الحار علي ظلم وصراع الحياة، وهو وعي اقرب الي الوعي الكافكاوي او الوعي النيتشوي او الوعي الديستوفسكي. وهو الوعي الجليل المرعب، حيث يقترب المشاهد من الحقيقة وبؤس العالم اشد الاقتراب، بل يلتصق بالحقيقة، فيشعر بألم نفسي واكتئابية مذهلة.
وتصبح هنا النتيجة العكسية علي المشاهد، فأن يصبح شخصا رافضا للتصالح مع الحياة الصراعية، فقد تكشفت امامه اشياء واماكن وافكار صعب بعدها ان يكون عاديا، فيضع بيلاتار الانسان في خيار صعب للغاية يدعوه ان يغسل ذنوبه وان يكف عن الصراع والشر. وهنا يأتي صعوبة اقتراب المشاهد من هذه الفليمية القاسية، هي اشبه بصلاة دينية صارمة الطقوس ليس بها تصالح مع سنة الحياة في التبرير للشر من اجل انتظار مزيد من الخير، هي دعوة جادة لرفض الشر في مطلقه، وولكن بدون فعل، الصمت والجلوس في ركن حزين، انه وعي لا يتحرك الانسان بعده.
المجرد السينمائي
بيلاتار، هو من اكثر السينمائيين المتفلسفين تجريدا للفكرة والصورة، فهو يتجاوز المباشرة في السرد او الصورة، ويمكن القول مجازاً انه علي المشاهد العادي الابتعاد عن سينماه، فهناك عقول ذات صفة تجريدية تنتظر بيلاتار، هي الاحق بهذه النوعية من السينما، وهذا قولا للسخرية للتأكيد علي قدرة بيلاتار علي التجريد، ولكن الصورة الجمالية المصاحبة لافلامه هي لوحات فنية يمكن اي مشاهد الاستمتاع، بها بجانب البعد الفكري والفلسفي الذي يحفز المشاهد علي التأمل.
من فيلم “حصان من تورينو”
ماذا يعني التجريد في الفيلم، هو الوصول الي فكرة عميقة فلسفية عبر الصورة السينمائية، فهناك مثلا الجدل حول المادية والروحية في الفلسفة نجدها تناقش في السينما، فالاكثر تجريدا وتكثيفا للفكرة عبر الصورة هو الاقرب للقدرة علي التفلسف، لان طبيعة الفلسفة هو التجريد. وقد استطاع بيلاتار التجرد والتفلسف دون يؤثر ذلك علي البعد الجمالي البصري والتكوينات الفنية، بل ان هذه الابعاد هي التي تخرج مجردات فلسفية، انها قدرة عظيمة لدي بيلاتار.
واستطاع بيلاتار تجريد كثير من الافكار منها بؤس العالم وكأبته ونهايته في فيلمه حصان تورينو، فهناك تجريد عالي للسرد والشخصيات، فحتي الكلمات والسيناريو ضيئله جدا، ويدل علي بؤس الشخصيات، بجانب نظرات ووعي الشخصيات بهذه الكأبة ونهاية العالم، فتصبح الفكرة مجردة تصل للمشاهد السينمائي دون تزيين او روتوش.
استطيقيا أدورنو
في افلام بيلاتار كما ذكرنا اعلاه هناك امكانية كبيرة لوصول المشاهد الحقيقي والذي يتأثر بسينمها ويتأملها الي الوعي البرئ والالتصاق بالحقيقة، وهذا الامر يساعد كثيرا في التحرير من الزائف في افكار العالم، ورواسب العقل الاداتي، والحداثة المهزومة ونقائض الرأسمالية، وهو بذلك يحقق شروط الاستطيقا لدي الفيلسوف الجمالي ادورنو حول قدرة الفن علي مواجهة هزيمة الانسان ومعاناته، ومواجهة العقلنة الانسانية، وهي نظرة تشاؤمية هروبية حرجة للانسان، تستدعي سلب ورفض العقل بمجمله، وايضا سلب الخطاب الفلسفي كحطاب استدلالي برهاني غير قادر علي مواجهة ازمة الانسان، لتبقي الاستطيقا كحل.
هذه النظرة التشاؤمية لدي ادورنو تتمثل في عدم جدوي العقل في حل ازماته بنفسه، او انتظار وجود تغييرات تؤكد علي أمال واسعة للانسان، ويعتبر الانتظار بائسا، هذه النظرة التشاؤمية في جوهرها تميل الي وعي بدون زيف وعي يعيش في رحم الفن، بعيدا عن العقلنة بشكل كبير، وشروط الفن لديه شروط جمالية ذات وعي ناضج، وهذا ما نجده لدي بيلاتار حيث الوعي النقي من تشاؤمية مشهدية تصفي النفس من رواسب العالم المزيف، فهي تعلن عن نهاية العالم تعبيرا عن رفضه، وتارة تعلن عن صراع انساني قاسي ومجرد، يصدم المشاهد ويجعله متفهما لزيف الانسان المعاصر.
المادية الماركسية
يؤمن بيلاتار بأن الانسان حاد الواقعية يسعي دائما لاهدافه، يؤمن بالصراع من اجل ذاته، واذا كان فاشلا او مضحوك عليه او غبيا فأن ذلك لفقدان القدرات وعدم قدرته علي الحصولنه مكاسب ولا يعني انه يزهد في الاشياء والصراع، هو فقدان القدرة وليس فقدان الطبيعة المادية الصراعية للانسان، ويفتقد دائما للحس المثالي والروح المتسامحة والعطاء الذي لا ينتهي فليس ذلك في قاموس الانسان البيلاتاري وهو بذلك يؤمن بالمادية الماركسية، التي تقصد أن حقيقة الإنسان مادي وواقعي وحسي وموضوعي وخلق بقدرات طبيعية مما يعني أنه لديه أهداف واقعية وحسية من أجل طبيعته كأهداف للتعبير عن حياته أو أنه يستطيع فقط أن يعبر عن حياته بأهداف حسية واقعية.
من فيلم “رجل من لندن”
حيث يفترض ماركس ان التاريخ البشري يتضمن تحويل الطبيعة البشرية والتي تشمل البشر والاشياء الي تفاعل مادي دائم، والانسان باستمرار يدرك ذلك وانه يملك ذات واقعية تتفاعل في العالم المادي، وطبقا لرأي ماركس فإن طبيعة الإنسانأو تحقيق النوع لذاته فيما بعد توجد بوصفها وظيفة للعمل الإنساني. فكرة ماركس الأساسية حول العمل الهادف هو الإفتراض بأن على الفرد أن يؤثر أولاً على واقعة والأشياء المادية في بيئته ليتصالح مع أهدافه المتنافرة. وهذا ما نلاخظه في سينما بيلاتار حيث الصراع نحو المادة هو هدف صراع شخصيات الافلام ففي فيلم تانجو الشيطان كان صراع شخصيات الفيلم كله حول اموال مشروع قام بالنصب علي الاخرين، ونصب لهم الفخاخ، من اجل الهروب بهذه الاموال لوحد، وباقية الشخصيات الضحايا كانت تتصارع مع بعضها ومع هذا النصاب من اجل رجوع الاموال لهم.
فيورباخية بيلاتار والطبيعة
يهم بيلاتار في افلامه في مناظر الطبيعة ويعتبرها معادل بصري لكثير من الافكار التي يريد التعبير عنها سينمائيا، ففي فيلم حصان تورينو للمخرج المجري بيلاتار تسيطر الطبيعة علي مفردات المشهد، تصبح الطبيعة كائن واعي بذاته فنجد تفاصيلها تسيطر علي المشهدية، وبذلك نجد بيلاتار فيورباخي للغاية، حيث يعتبر الفيلسوف الالماني فيورباخ أن الطبيعة الكائن الاول في الزمان وهي تعني وجود الانسان اللاوعي، والانسان هو جوهرها الواعي، الطبيعة تظل رغم كل شيء هي الكائن الأساسي، الكائن الأول والأخير، إن فهم الطبيعة يمكن من فهم الإنسان ذاته.
وهو ما تؤكده المشهدية في افلام هذا المخرج، ويضيف لها بيلاتار الالوان الابيض والاسود والاجواء السوداوية الكاتمة، فليس هناك مساجة للمناظر الخلابة السعيدة المرحة للطبيعة، فهو لا يعبرعن المرح والسعادة في افلامه، انما يريد للطبيعة بذلك ان تعبر عن مأساة العالم وحقيقته الصادمة، تعبر عن أن الانسان دائما يسعي وراء الشر، وان الانسان والعالم في منتهي الحزن بشكل دائم، فهناك اشارات دائمة للطبيعة في المشهدية تؤرخ للانسان والعالم تعبر عن ماهية الاشياء، فاحيانا كثيرا تنطلق المشهدية من رحم الطبيعة فيكون الوعي والدافعيه نحو الاشياء منها. فطبقا لفيورباخ الطبيعة بدورها جزءا من ماهية الإنسان، وأن الإنسان هو الطبيعة الواعية بذاتها، جوهر التاريخ، جوهر الدول، جوهر الدين.
تانجو الشيطان
عن الشيوعية المجحفة، عن حلم المجتمع الاشتراكي الذي يفشل دائما، بفعل الشر داخل الانسان وليس بفعل عدم نجاعة الحلم، في فيلم تانجو الشيطان للمخرج المجري بيلاتار، تظهر لنا صورة الحشود الاكتئابية الفاقدة للثقة والجدوي، هذا ابله ذو غباء كبير، وهذه امراة تجيد الخيانة الزوجية، وهذا رجل قليل الذكاء ولكنه اكثر ذكاءا، هذه التوصيفات قالتها السلطة الشيوعية التي تحكم وتراقب من اجل مصلحتها. وهذا النصاب اريمياش يجمع اموالهم من اجل المشروع الاشتراكي ولكنه يفر، انه يمثل السلطة الشيوعية في اعلي صورها.
دمدمات، مياة طينية، سماء مظلمة، حشود متشائمة، مادية طبيعة، نزعة فيورباخية لعلاقة الانسان بالطبيعة، فالكادرات تصدمنا بوحشية الطبيعة، وظهور حيوان البومة دليلا علي الانهيار والانحطاط، تنتصر الطبيعة علي الانسان في الفيلم، فتصبح الامطار والطين والهواء مصدر الخوف والخواء والهروب والهزيمة، يتحكم بيلاتار ويتلاعب بشخصيات الفيلم عبر الطبيعة.
من فيلم “رجل من لندن”
ليس هناك براءة، هناك صراع مجرد، البقاء للأقوي، الانسان الاعلي النيتشوي يغلب، الحيوان البرئ يموت، ليس هناك سوي ابقار شاردة لا تعرف اين تذهب، الطفلة تسرق اموالها، فتغضب وتري وهي بجانب المنزل زبائن امها العاهرة، فتذهب للقطة لتقتلها، فهي الاقوي، ثم تشعر بالبراءة والضعف فتقتل نفسها هي الاخري لتقول للعالم انها وقطتها لا ينفعان في الحياة، فهي بريئة مثل القطة، ضعيفة مثلها.
طبيب ضخم يعاني من الشحوم الجسدية، والوحدة الكبيرة، تتجسد فيه السلطة العليا، وعدالة السماء المفقودة، يراقب من منزله الافراد ويكتب عنهم، لا يفعل شئ، هو يمثل العلم، والسمو، والرقابة الالهية، ولكنه يري كل شئ، ويظل صامت، حتي يمل، فيغلق النافذة التي يري منها كل شئ، ويستمر في وحدته متألما باحثا عن زجاجات الراندي وسجائر لطيفة تروح عنه قليلاً.
يجمع بيلاتار كل هذه الخيوط الاربعة علي الاقل تم حصرها، في اكثر من سبع ساعات من الجمال البصري والسردي، فيموت المشاهد بالصدمة نتيجة هذه الكوارث الاربعة، ما بين شيوعية فاشلة، ومادية طبيعية للانسان، ونيتشوية مفزعة، وعدالة سماوية مفقودة، فيصاب باكتئابية مشهدية حادة قد تذهب به الي حد الانتحار، او علي الاقل التحصر علي حال البشرية وقذراتها الكبيرة.
وأخيرا، هناك كثير من الفلسفات والافكار التي تتناص مع افلام بيلاتار وهي شبيهة بما ذكر في اعلاه، ولم يسع المقال لذكرها، ومنها الفلسفة الدرواينية، وملامح الصراع المادي للطبيعة والاشياء، وهناك ايضا عدمية بيلاتارية، بالاضافة الي روية السوداوية الكاتمة الكابوسية في سينماه، فالحزن والنهايات والصمت البائس يغزو اللقطات بشكل كبير، ةالرؤية النيتشوية للاشياء والانسان حاضرة في سينما بيلاتار، المنفعة لدي بيلاتار، وهذا يدل ان سينما هذاا لمخرج تزخر بالفلسفات والافكار، وانها سينما تحفز العقل قبل العين علي التأمل والتفكير..