ملامح تجربة رضوان الكاشف السينمائية

مازن حلمي

يُعدّ مشروع المخرج الراحل “رضوان الكاشف” سياسيًا بامتياز، السياسة لديه ليست بمعناها التقليدي. لا وجود للسلطة على الشاشة، أو حتى الإشارة إليها من بعيد. إنه مشغول بالضحايا لا بالجلادين، بالكشف عن جحيم العالم السفلى حالمًا بالعدالة، والمساواة بين البشر.

يفتح “الكاشف” عين المتفرج على مأساته مقدمًا صورة صادقة إلى درجة الفضيحة، صادمة إلى درجة الإحساس بالعار. تتخفى سينماه في لُباس اجتماعي، فيما تُعتبر منشورات بصرية تحريضية تشحن، وتُحرِّك الوعي العام؛ لتحض على التمرد أو الجنون.

انحيازه لصوت الجماعة وذات الوطن الكبيرة ناتج عن وعى سياسي، وعمق معرفي بحركة التاريخ والشعوب، فالنجاة الفردية مستحيلة، فإما أن ينجو الجميع أو لن ينجو أحد.

لا يُفهم من ذلك التضحية بجماليات الفن على حساب الموضوع. إنه يسير في اتجاهين: الثورة على الشكل، والمضمون، تلك نظرة كل فنان أصيل يعبر عن حياته، وظروف مجتمعه بثوريّة، وبأساليب أكثر مغامرة وتجريبًا.

وُلد “رضوان الكاشف” سنة 1952، وتخرج من كلية الآداب، قسم الفلسفة، ثم اتجه لدارسة السينما، ليصبح الأول على دفعته سنة 1984 بمشروع التخرج لفيلم قصير عنوانه “الجنوبية” حصل على جائزة الدولة عن العمل الأول. كان رضوان أيضا، يمارس تجربة الكتابة، فقد ترك كتابين أحدهما عن ثائر الثورة العربية “عبد الله النديم” هو كتاب بعنوان “الحرية والعدالة في فكر عبد الله النديم”، والآخر كتاب فلسفي عنوانه “قضية التجديد الفكري عند زكى نجيب محمود”، ما يعكس جذور الوعى الذي سيأتي التعبير عنه لاحقًا في روائع سينمائية.

من فيلم “ليه يابنفسج”

عمل “الكاشف” مع كبار المخرجين من أمثال “يوسف شاهين”، “داوود عبد السيد”، “رأفت الميهي”، وغيرهم، لفترة طويلة اكتسب خلالها خبرات فنية، وطرائق أسلوبية، وتجارب حياتية عديدة. جاء حصاده الفني في ثلاثة أفلام روائية طويلة، فيلم “ليه يا بنفسج” عام 1993، “عرق البلح” عام 1999، ثم “الساحر” عام 2002، وترك فيلمًا دون إكمال إثر رحيله عام 2002 هو فيلم “عقبال عندكم”.

ملامح المشروع

ثنائية القهر والهجرة: أو أثر فعل الاستبداد لا الاستبداد نفسه. نحن لا نرى ممارسات، وألاعيب السلطة القمعية، أو أحد ممثليها الفاسدين. إنما آثار سياسيات السلطة على حياة الشعب من تدمير أبجديات الحياة في فيلم “ليه.. يا بنفسج“. الأبطال عاطلون. معدمون. بلا مأوى. يتصارعون للاستلاء على عشة، والزواج والاستقرار بالنسبة لهم يغدو حلمًا.. فئران التجارب تعيش أفضل منهم.

إنها حالة خراب وانهيار أبنية المجتمع كلية. تأتى البراعة في التعبير دون احتجاج أو صراخ. إنه فقط يُعرِّى ويفضح ويدين؛ كي يُثير حس التمرد لدى المتفرج، وتثوير وعيه، ومُساءلة الجناة. إن “رضوان” يدفع المتفرج دفعًا للمواجهة. يتبع القهر فعل الهجرة، وهاجس الهرب سواء إلى الداخل، أو إلى الخارج. في الحالتين تكون العاقبة كارثية.

في بداية فيلم “لية.. يا بنفسج” يعود أحمد “فاروق الفيشاوي” إلى الحارة بحقيبة مليئة بالخيبة، وفي نهاية الفيلم يرجع على بوبي “شوقي شامخ” بعد مغادرة الحارة واحتراف اللصوصية، مقتولًا.

يأخذ أثر الهجرة في فيلم “عرق البلح” رؤية كابوسية تلائم البناء الحكائي. بعد سفر رجال النجع إلى الخارج بحثًا عن الثروة والذهب يُسرق بلح الواحة، ويُعتدى على نسائها، وتجدب أرضها حين تسقط نخلاتها العاليات، وينكشف رعب الشمس. أما المستوى الثاني لقراءة الحكاية- الأسطورة، فهو الأكثر رعبًا. إنه يتنبأ باقتلاع جذور الحضارة، ومحو الهوية، والتلاشي من الذاكرة الإنسانية؛ لُنصبح حكاية من حكايات الجدات (الجدة زيد الخير).

المساءلة أخطر من جمع المال. إنها قضية وجود، وتحديد مصيرنا المصري والعربي.

 تأخذ الهجرة شكلًا مغايرًا في فيلم “الساحر” عبر الانتقال من طبقة اجتماعية أدنى إلى طبقة أعلى؛ بحثًا عن حل أزمات الساحر “محمود عبد العزيز“، لكن المقابل يكون ضياع ابنته. يشير المخرج إلى أن الصراع الدرامي مثل الصراع الطبقي لن يحل بالتذاكي وحيل البسطاء.

الاحتفال بالحياة: لا يخلو فيلم من الثلاثة من طقوس احتفالية كالأفراح، وجلسات السمر، وختان الأطفال، والرقص والغناء. هذا الاحتفاء بالحياة يُخفف من قتامة وسوداوية السرد، ويضفى فرحًا وبهجة على الأحداث، يوضح أن هؤلاء التعساء يتحايلون على الحياة؛ للحصول على متع صغيرة؛ كي تمر أيامهم.

من فيلم “الساحر”

فيلم “الساحر ذاته يحمل عنوانًا جانبيًا (نظرية البهجة). كما أن استخدام فنون أخرى آتية من المسرح كالأداء بالرقص، والتعبير بالأغنية يثرى الوسيط البصري؛ ويحقق تلاحم وتجاورَ فنونٍ مختلفة، ووصول المعنى بمختلف مفردات اللغة السينمائية. يبلغ التعبير بالرقص ذروته في مشهد أغنية “بيبه” حيث تقع نساء النجع في الغواية؛ ومن ثمّ ضياع الشرف.

بلاغة الصورة التعبيرية: تعلو اللغة السينمائية إلى حالة من الشاعرية والإيحاء، تضاهى لوحات الفن التشكيلي، من حيث الاكتناز بالمعنى والجمال الأخاذ. إنها محاولة السير على خطى شعراء السينما.

إن سحر الصورة وبراعة بنائها في فيلم “عرق البلح” يفوق الحوار ذاته قوة وتأثيرًا إذ يجعل الصورة لغة التعبير الأهم التي تخاطب الروح، وتبحث عن جوهر الأشياء والعلاقات بين الإنسان والطبيعة.

أما الصورة في فيلم “ليه.. يا بنفسج” فتقطر عذوبة وحزنًا نبيلًا، تنضح بالأسى والعجز في أحد المشاهد البليغة عندما يُسرق حمار العربجي، يتناوب الأصدقاء جر العربة فيما يركب بقيتهم، فالفقراء يحملون هموم بعضهم البعض. خلاصهم الوحيد بالتضامن والتآزر.

من فيلم “عرف البلح”

المفارقة: تأتى ركيزة في البناء السردي؛ لإيضاح المعنى، ولإحداث السخرية المريرة أيضًا. كل مشهد يحمل نقيضه في داخله: عيد المقرئ “حسن حسنى الذي يعاني من حرمان جنسي، لا ينام إلا على تأوهات طليقته من الطابق الثاني، ومنصور الساحر حين يتعلّم أصول القتال لحماية ابنته، تتبادل القبلات مع ابن الجيران.

رضوان الكاشف يمزج المأساة والملهاة في نسيج واحد؛ لنرى وجهي الحياة معًا. من هذه المفارقة الجزئية إلى المفارقة الكلية في فيلم “عرق البلح”، فالحكاية أسطورية ذات بعد كوني. ينعكس ذلك على اختيار حجم اللقطات الكبيرة، والمناظر الواسعة لا للاستعراض ولا للمبالغة، وإنما لإضفاء طابع كوني، فالحكاية ليست حكاية هذا النجع، بل حكايتنا نحن. عندما تكتمل الملحمة تتفجر المفارقة من فاجعة النهاية.

الصدق الفني: يبدو في بناء عالمه الشعبي والصعيدي من حيث تطابق أدق التفاصيل، بداية من لغة الحارة إلى لهجة أهل الصعيد، وانتقاء الملابس، والديكور، والعادات اليومية، والخرافات، والأساطير. “الكاشف” يخلق شخصيات حية مقطوعة من لحم الحياة، لا يمكنك نسيانها بسهولة.

ثمة ولع لديه بكتابة لافتات وعبارات افتتاحية وختامية في أفلامه مقلدًا كُتّاب الستينات. ربما يريد أن يُعامل الفيلم ككتاب، ووثيقة ضد الزمن يضع عليه توقيعه وبصمته.

 رحل “رضوان الكاشفبعد أن أسمعنا أنين وآلام فقراءه ومهمشيه، ومازال الفقراء يتوجعون.

Visited 13 times, 1 visit(s) today