مسلسل كوفيد 25.. الوحش في صورة إنسان!
يدرك المتابعون لأعمال الفنان يوسف الشريف أن سر نجاحه لا يكمن في براعة الأداء ولا في الرؤية الإخراجية الخاصة، لكن في الأفكار الجديدة، التي تجعله خارج المنافسة، خاصة في السباق الدرامي الرمضاني. فالشريف لا ينافس إلا نفسه، والجمهور ينتظره بشغف وترقب كل عام لهذه الأسباب. غير أن مسألة “الجدة” في حد ذاتها كانت دائماً محل تساؤل، لأن أعمال الشريف تحمل، دائماً، روحاً أجنبية، ولا يجد المشاهد، حتى غير المتمرس، صعوبة في اكتشاف هذه المفارقة، أن تقدم الجديد، القديم في الوقت نفسه. فهو جديد بالنسبة للدراما العربية، لكنه ليس كذلك بالنسبة للدراما الأجنبية أو العالمية عموماً.
والمشكلة لا تُثار بسبب الاقتباس من الأعمال الأجنبية، فهذا أمر مشروع، لكن لأن صنّاع العمل لا يشيرون إلى الأعمال الأصلية كما كان يفعل الكتّاب الكبار من رواد الدراما العربية مثل أسامة أنور عكاشة، الذي كان يحرص على أن ينسب الفكرة لأصحابها مهما كانت تفاصيل عمله مختلفة عن الأصل، كما فعل، على سبيل المثال، في مسلسل “وقال البحر” عندما كتب على التتر أن القصة مستوحاة من رواية “اللؤلؤة” للأمريكي جون شتاينبيك.
وإذا كان من سمة يمكن أن تميز أعمال يوسف الشريف، بعيداً عن فكرة الاقتباس، فهي توافر عناصر التشويق والإثارة في العمل. وبهذا المعنى لا تنحصر أعماله في النوع البوليسي فقط وإنما تمتد لتشمل كل ما هو شيق ومثير سواء على المستوى البوليسي أو الإعلامي، أو الرعب أو الخيال العلمي.
والخيال العلمي هو آخر المحطات التي توقف عندها الشريف، لتكون موضوعاً لمسلسليه الأخيرين، “النهاية” و”كوفيد 25″. وعن هذا الأخير سيدور مقالنا.
وبغض النظر عن تشابه العملين مع أعمال أخرى أجنبية، إلا أن بهما عناصر مشتركة، تعكس اهتماماً خاصاً لدي الشريف بفكرة الزمن، خاصة ما تعلق بقضايا المستقبل ونهاية العالم. فالأول تدور أحداثه بعد مائة عام، والآخر تدور أحداثه بعد خمس سنوات، وفى كلا العملين نرى ظواهر كارثية من شأنها أن تؤدي إلى القضاء على البشرية. والملاحظ أن النهايات الكارثية، في العملين، تستند إلى نظرية المؤامرة التي تُحاك خيوطها بأيدي الماسونية في “نهاية العالم” وشركات أدوية عالمية في “كوفيد 25”. وفي أعمال الشريف يتواري البعد السياسي الذي يهدد حياة المواطن، خلف الأحداث المثيرة التي يشوبها الغموض حتى اللحظات الأخيرة من حبس الأنفاس، غير أن المسألة تكون أكثر خطورة في العملين الأخيرين لأن البعد السياسي المتواري خلف الأحداث لا يهدد المواطن الفرد في بلد ما، لكنه يهدد البشرية كلها التي تحيا على كوكب الأرض.
فالمستقبل عند الشريف مظلم وكارثي وأسباب النجاة تبدو معدومة أو احتمالية غامضة على أفضل تقدير، لأنه لا يقدم موضوعاته في سياق رومانسي حالم ينتمي إلى اليوتوبيا (المدينة الفاضلة)، وإنما في سياق رؤية مشؤمة، تنذر بالموت والدمار، ما يجعل أعماله الأخيرة تنحو باتجاه الديستوبيا (المدينة الفاسدة) بنحو أكثر. وربما كان السبب هو أن الديستوبيا هي الأنسب للمزاج البوليسي التشويقي الذي يعمل عليه الشريف في جل أعماله.
ويُلاحظ أن الفكر التآمري في الأعمال الخيالية يميل غالبا إلى النزوع العنصري، ففي “النهاية” لم يكن التخطيط للقضاء على سكان الأرض جميعاً، لكن للقضاء على البعض دون البعض الآخر، ذلك البعض الذي يدين بالولاء للماسونية، وللمسيخ الدجال تحديداً، وهي نفس التفرقة التي تبدت في “كوفيد 25” عندما كشف أحد العاملين في شركة الأدوية عن أن الدافع لصناعة الفيروس كان القضاء على نسبة من سكان العالم حتى يمكن أن تعيش النسبة الأخرى نظراً لقلة الموارد قياساً بالزيادة السكانية.
ويمكن لهذه الفكرة العنصرية أن تجد أساسها الأدبي في رواية “آلة الزمن” لويلز، كما يمكن أن تجد أساسها النظري في مبدأ “إرادة القوة” في فلسفة نيتشة التي ترسخ للقوة، وتعمل على إقصاء الضعفاء. والحقيقة أن العلاقة بين الحق والقوة لا تحتاج إلى خيال، لأنها مسألة يعكسها الواقع في كل لحظة، غير أن الخيال، العلمي أو الفني عموماً، يحاول أن يصل بالمفارقة إلى حدودها الكارثية القصوى.
وفي هذا السياق، يمكننا أن نقول إن “كوفيد 25″، ليس خيالاً صرفاً، لأنه ينطلق من وقائع حقيقية صاحبت ظهور “كوفيد ١٩”، الذي نعيشه الآن، على الحقيقة، ولا يبتعد كثيراً في الزمان بحيث لا يتجاوز السنوات الخمس القادمة. وهي مسألة إيجابية بالنسبة للسيناريو، الذي كتبته إنجي علاء، لأنها تحقق المصداقية للمشاهد من ناحية، وتجلب مزيداً من الرعب والإثارة من ناحية أخرى.
يتتبع المسلسل التطورات التي لحقت بفيروس “كوفيد ١٩” حتى تحول إلى “كوفيد 25” الذي لا يصيب الجهاز التنفسي فقط، لكنه يمتد كي يصيب المخ والأعصاب والخلايا الوراثية حتى يحيل المصاب إلى وحش يقتل نفسه ويقتل الآخرين، ما يرفع من جرعة الإثارة في الأحداث، خاصة أن العدوى لا تنتقل عن طريق اللمس كما في “كوفيد ١٩”، لكن عن طريق مجرد النظر. وهي مسألة تحمل قدراً كبيراً من التنويعات الرمزية التي يمكن استخلاصها من العمل. فيكفي أن الرؤية، التي هي أداة للإدراك والوجود، تتحول إلى سبب للموت والدمار.
تتطور حالة المصابين بالفيروس حتى أنهم يفقدون حاسة البصر، ولا يربطهم بالعالم سوي الأصوات القادمة من الخارج، فيتحولون إلى زومبي، ولا يكتفون بقتل الآخرين من الأصحاء، لكنهم يتحولون إلى أنفسهم ليقتلوا بعضهم بعضاً. وهو تحول يأتي بالتوازي مع تحول آخر يصيب علاقات الأصحاء المحاصرين بأحد المستشفيات، المعزولين عن الخارج الموبوء، فيقتلون بعضهم كذلك، بدافع من الكراهية أو الطمع أو الرغبة في الانتقام، وكأن الأصحاء يعانون من نوع آخر من الوباء الذي لا يصيب العقل فحسب، لكن الوجدان والضمير أيضاً. إننا بهذا المعنى، أمام زومبي من نوع آخر، يحيا بالجسد دون الروح، أو بالروح والجسد دون الضمير. فقد أجادت انجي علاء في رسم الشخصيات التي تعاني العزل الصحي، بحيث طغى البعد الإنساني في معظم الحلقات على الأحداث. فنحن، طوال الوقت، أمام شخصيات شائهة، الزومبي من الخارج، والبشر من الداخل. غير أن الزومبي كيان ذو بعد واحد، لا يعرف سوى رذيلة القتل، فى حين تتعدد رذائل البشر وتتعقد بحيث تشمل القتل والسرقة والخيانة، ولا تنتقل العدوى بالنظر، وإنما بالابتسامة الخبيثة التي تضمر عكس ما تظهر.
يضع السيناريو التفسير العلمي للظواهر بجانب التفسير الخرافي، فالعلم ينسب الفيروس إلى اتحاد جيني بين خلايا الغراب وخلايا الفئران وينسب نقل العدوى إلى الموجات الكهرومغناطيسية، والتفسير الخرافي يعتمد على حركة الكواكب والنجوم. غير أن السيناريو ينتصر للتفسير العلمي، الذي يعتمده أساساً لفهم الظواهر بحيث يظهر شخوصه (يوسف الشريف وزكي فطين عبد الوهاب) في منتهى الجدية، بينما تظهر الشخصية التي تؤمن بقراءة الطالع وتأثير حركة الكواكب والنجوم بشكل هزلي، ويظل البعد الديني غائباً كواحد من أعمدة التفسير المهمة، بالرغم من الحضور الطاغي للبعد الإنساني والنفسي والاجتماعي للشخصيات، التي لابد أن يلعب الدين دوراً كبيراً في حياتها وطريقة تفكيرها. وبهذا المعنى يأتي الحسد، كأداة تفسير، على لسان الشخصية التي تمثل الخرافة، لا الدين.
وتقودنا قضية التفسير إلى قضية الحقيقة والزيف، التي تثيرها الحياة الازدواجية التي يعيشها إنسان هذا العصر ما بين عالم حقيقي وعالم افتراضي، يتضح ذلك في مشهد استهلالي يصور “ياسين” (يوسف الشريف)، الطبيب الذي ترك مهنة الطب واحترف العمل في السوشيال ميديا كيوتيوبر، وهو جالس على شاطئ البحر يذيع واحداً من فيديوهاته، في اللحظة التي يظهر فيها، في الكادر من خلفه، شخص يتجه إلى المياه في طريقه إلى الانتحار. وعندما يتلقى تنبيهات من المتابعين بما يدور خلفه يهرع إلى نجدة الشخص المقدم على الانتحار، إلا أنه يُفاجأ بأن البعض لا يصدق ما حدث ويعتبره نوعاً من الخداع.
والمشهد ينطوي على مفارقة تعبّر عن حالة الخلط الشديدة بين العالمين الواقعي والافتراضي. فياسين كان يقف على الحدود بين الواقع والافتراض، غير أنه كان غائباً عن الواقع ومستغرقاً مع متابعيه الافتراضيين، فى حين كان متابعوه أكثر يقظة ووعياً بواقعه الذي يسجل منه فيديوهاته. وفي كل الأحوال نحن أمام لعبة يتفق المشاركون فيها على مدى حقيقتها.
غير أن ياسين، في الحلقات الأخيرة وعن طريق الفلاش باك، يقدم رؤيته الخاصة لمفهوم الحقيقة ذات الطابع الإنساني أمام طبيبه النفسي المعالج. فيري، من خلال تجربته كطبيب، أن المرضى الذين على فراش الموت لا يقولون الحقيقة، ويحاولون أن يظهروا كأشخاص طيبين ومسالمين، فى حين أنهم أمام الكاميرا على مواقع التواصل الاجتماعي لا يتورعون عن فضح أنفسهم وكشف حقيقتهم الداخلية للجميع. ومن هذا المنطلق ينحاز للعالم الافتراضي، ويرى أن السوشيال ميديا وسيلة مهمة لكشف الحقائق.
وإذا أردنا أن نفهم المسألة بنحو أبعد، فيمكننا أن نقول إن تركيز المسلسل على حاسة البصر يتسق تماماً مع طبيعة العلاقة المشهدية التي تربط إنسان هذا العصر بالعالم المحيط به. وفي هذا السياق، تلعب الكاميرا دوراً هاماً في الكشف عن الحقائق، كاميرا الموبايل أو كاميرا المراقبة أو كاميرا أحمد جلال مخرج العمل. فما يميز عصر السوشيال ميديا، إنما هو توافر الكاميرات في كل مكان بحيث يمكن مشاهدة الحدث أثناء وقوعه عن طريق البث المباشر، أو مشاهدته لاحقاً عن طريق استرجاعه بعد تثبيته كصورة أو تسجيله كحركة.
وفي كل الأحوال تتكئ الحقيقة الحاضرة والسلوك المستقبلي على الماضي، فمعظم الشخصيات تحدد تصرفاتها القادمة وفقاً لعلاقات ماضية تم اكتشفها أو استرجاعها في الحاضر، كالرجل الذي قتل زوجته عندما اكتشف خيانتها له، والمرأة التي قتلت زوجها لأنه كان يعاملها بقسوة. وليس هذا بالأمر الغريب، لأن معني الانتقام نفسه يتأسس على رد فعل حاضر تجاه فعل تحقق في الماضي. هذا عن الوجه السلبي، أما الوجه الإيجابي فيتمثل في شخصية ياسين الذي كان حريصاً على أن يعدل سلوكه تجاه ابنيه الحاليين بعد أن تسبب بإهماله في فقدان ابن ثالث في الماضي.
وفي السياق نفسه، تلعب كاميرات المراقبة في المستشفى دوراً كبيراً في الكشف عن معظم حالات الإصابة والقتل التي كانت تتم في الخفاء، كما نجحت بعض مقاطع الفيديو في الكشف عن طبيعة الأبحاث التي كانت تدور حول عملية تخليق الفيروس. كذلك يمكننا النظر للمسلسل برمته باعتباره نظرة مستقبلية تعتمد على أحداث ماضية صاحبت ظهور كوفيد ١٩، ما جعل أحمد جلال يعتمد كثيراً على تقنية الفلاش باك لتفسير الكثير من الأحداث وسلوكيات الشخصيات التي تتحرك على الشاشة بنحو يشوبه الغموض في معظم الأحيان.
بعد تصاعد الأحداث، وازدياد حدة الصراع بين الزومبي (البشر المصابون بالفيروس) والبشر الذين يبحثون عن فرصة أخيرة للنجاة، تأتي الحلقة قبل الأخيرة بمثابة التطهير، حيث يختبئون في قطار ينطلق بقوة نحو المجهول. ففي هذه الأثناء تسترجع الشخصيات الهاربة ذكرياتها الآثمة في محاولة للكشف عن الأسباب التي دفعتها لأن تسلك على النحو الذي يبدو بغيضاً أمام الآخرين، مثل رامي (أحمد صلاح حسني) الذي كان يعيش دون هدف ولا يقيم وزناً لشيء ثم تحول إلى بطل حقيقي للأحداث حتى أنه ضحى بحياته من أجل إنقاذ الآخرين، ونفس الشيء يمكن أن يُقال عن سائق رجل الأعمال الذي عاش طوال حياته يشعر بالمهانة أمام رجل الأعمال (عماد رشاد) وقرر أن يتخلص من هذا الشعور بأن يترك العمل معه عندما يصلون إلى محطة النجاة، لكنه يعود ليتصالح معه عندما يطلب منه الصفح، ويعلم أنه كان يعاني من الوحدة وجفوة الأبناء، بل ويضحي بحياته من أجله موصياً إياه برعاية أبنائه.
وفي لحظة مراجعة للنفس، يعترف ياسين أمام زوجته السابقة (أيتين عامر) بأنه لم يكن يفهم معنى السعادة عندما أهمل أسرته في سبيل تحقيق النجاح الشخصي في العمل، وأنه اكتشف أن السعادة الحقيقية ليست في تحقيق الأهداف الكبرى البعيدة، لكن في تحقيق الأهداف الصغيرة القريبة مثل الاقتراب من الزوجة والأبناء والعمل على تحقيق سعادتهم اليومية البسيطة.
وهو اكتشاف لحكمة فلسفية تلخص رسالة المسلسل كله، و تذكرنا بحكمة باولو كويلو في “الكيميائي” أن الكنز في الرحلة. وفي الرحلة يسقط أناس كثيرون وينجو آخرون، غير أن المعيار الأخلاقي لا يرتبط بالقدرة على النجاة رغم المخاطر، لكن بالقدرة على التضحية من أجل الآخرين. وليس هناك أبلغ من الابتسامة التي رسمها رامي على وجهه وهو يرمي بنفسه في أحضان الزومبي بعد أن نجح في فصل عربات القطار عن عربة الزومبي، وترك نفسه كي يفتكون به وحده، بينما نجا الآخرون.
وتبقى مسألة الإيمان ذات أهمية خاصة في مواجهة المخاطر، والتي تبدت في واحدة من الشخصيات الأكثر هدوءاً وطمأنينة، رغم سخونة الأحداث وشبح الموت الذي يطارد الجميع طوال الوقت، فهي ترى أن المرض نعمة لأنه جعلها أكثر قوة وقدرة على مواجهة المصاعب، وهو نفس المعنى الذي عبّر عنه ياسين بعبارة بليغة عندما قال إن الفيروس جعله يرى أشياءً لم يكن يراها من قبل.
وفي كل الأحوال، نحن أمام لون جديد من الدراما العربية، ومسلسل يستحق المشاهدة. نجح أحمد جلال في الاحتفاظ بإيقاع ثابت ومنتظم من الترقب والإثارة طوال الحلقات، ساعده في ذلك السيناريو الذي اكتفي بطرح فكرته في خمس عشرة حلقة فقط. غلبت البطولة الجماعية على الأحداث، غير أن البطولة الحقيقية توزعت بين يوسف الشريف الذي كان بطلاً للفكرة كعادته، وأحمد صلاح حسني الذي أجاد في الأداء الحركي مستغلاً تكوينه الجسماني الضخم، وإدوارد الذي كان موفقاً في دور الشرير النذل، الذي لعبه ربما لأول مرة.
وكعادة أعمال الرعب اختتم المسلسل أحداثه الكابوسية برسالة مخيفة تنبئ بأن الخطر لم ينته تماماً، وأن المستقبل مازال يحمل في طياته ما من شأنه أن يهدد حياة واستقرار البشرية، فيظهر على شاشة التليفزيون، بعد مرور عامين، أحد المسئولين الذي يعلن عن ظهور كوفيد 27، لتظل البشرية مهددة بالخطر، ويظل جمهور يوسف الشريف في حالة ترقب وانتظار لجزء ثان من المسلسل!