مسلسل “اللعبة”.. جدية مفرطة وراء كل هذه الكوميديا

مع بدايات عام 2020 تحديدًا في الوقت الذي استقبل فيه العالم أخبار انتشار فيروس كورونا الذي أنتج اكتئابا عالمياً، كان شُح الأعمال الكوميدية مقلقا، ربما لأهمية تواجدها كعنصر تنفيس. في هذا الوقت المثالي تمامًا خرج الموسم الأول من مسلسل “اللعبة”، فكان عبثًا تحتمل خفته للتهوين على ما يحدث، ومساحة كوميدية جديدة مخلصة تمامًا للكوميديا بشكلٍ جاد.  

تدور أحداث المسلسل حول ويسو (شيكو) ومازو (هشام ماجد)، وهما صديقان متنافسان منذ صغرهما، يخوضان في كل حلقة تحديا جديدا. تصنع تلك الحدوتة نجاحا ساحقا على مدار عرض مواسمها الأربع الذي انتهى آخرهم قبل وقت قصير.

يمكن النظر إلى تجربة المسلسل وأبطاله كنموذج رحلة طويلة من الإخلاص والاستيعاب للتجارب الكوميدية السابقة التي كانت تهتم برسالة الفنان وقضيته في مقابل حبهم المخلص الكبير للضحك في ذاته، أي للكوميديا فقط دون الحاجة لأي قضية، الاستثمار في تلك النظرة عمليًا، والعمل مرة بعد أخرى لصناعة الضحك في “اللعبة” بشكل مدروس مخلص للكوميديا فقط، هو أقوى ما يميز المسلسل الذي استقبله الجمهور في كل موسم بحفاوة بالغة.

في البوستر الدعائي للمسلسل يقف البطلان بجانب بعضهما البعض، صدر كل منهما مشدود للأمام، يضعان يديهما على قلبيهما، على وجهيهما نظرة حالمة ترغب في التحدي والبطولة، تمامًا كالتي نشاهدها كتحية عسكرية صارمة، تبدو غير مناسبة للهزل الذي يحتوي عليه المسلسل، إلا أن نظرة أعمق تقول إن كل مناطق الكوميديا في المسلسل تنبع من تلك الجدية في التعامل.

المعرفة بجدية تجربة الثنائي وفهمهما لصناعة الكوميدياـ يجعلك تتفهم تمامًا هذه “التصديرة” التي تصلح كبوستر لفيلم أكشن، الضحك هنا لا يعني الاستظراف أو التساهل والمرونة في استقبال الأشياء للتهريج الفارغ، ربما أبعد من ذلك، وإذا كانت تلك تجربتك الأولى في مشاهدة أبطال اللعبة الجدد غير المألوفين، ستدخل بشكل غير واعٍ بجدية غير معهودة لاستقبال هذه الكوميديا التي تعتمد على هيئة أو وضعية الأبطال الجدية غير المألوفة التي تصنع الضحك الشديد.

هنا ستجد فقط بطلين يقفان بشكل عادي تمامًا، بل جاد، لا يلفت نظرك أي غرابة على هيئتهما الجسدية أو ملابسهما أو أي شيء يحيط بهما، يصيبك القلق نسبيًا من تلك الجدية لكن عربون الصداقة الذي قدماه سابقًا يسمحان بتقبل تلك الجدية في صناعة “لعبة”.

يستخدم تتر البداية موسيقى إلكترونية تبدو صالحة لخلفية حرب، لا زلنا حتى مع مشاهدة التتر نحمل الجدية التي تفرضها فلسفة المسلسل عمومًا، كل ذلك يؤهّل المشاهد للدخول إلى هذا العالم الصارم و”الحرب” الجديدة التي ربما بات عليه أن يختار إحدى فرقها التي تناسب ذوقه وشخصيته ليشجعها وينتصر من خلالها، كل بطل لديه أسلوبه في المنافسة والتهريج، وعلى المشاهد أن يختار بنفسه من خلالهم، تلك المسئولية الأخلاقية التي يوضع المشاهد فيها لها دلالتها الكوميدية، فالضحك يأتي من الموقف الذي يضع المشاهد نفسه فيه.

لا يعتمد بناء الشخصيات والعمل عليها، على حشو المسلسل بأي تعليق لفظي (أو إيفيه) يمكنه الإضحاك وحصد الإعجاب، بل يأتي الإخلاص الحقيقي للكوميديا من بناء درامي وتشخيصي للأبطال؛ من يقول هذا الكلام؟ كيف يقوله؟ لماذا ينتصر هذا على ذاك هنا والآن بينما يخسر في الحلقة القادمة؟ كل تلك الأشياء تُبنى بشكل أكثر جدية من المعتاد، نرى من خلالها تاريخا شخصيا لكل بطل رئيسي وثانوي.

ثمة “لعبة” خفية تصنع التحدي بين “وسيم” المخلص لعمله وبالتالي لأسرته بشكل يدعو للاحترام بالرغم من كل سخفه و”تلزيقه”، في مقابل “ماظو” المخلص الآخر لبطالته وعدميته تجاه أي مجهود بشكل يدعو للاحترام بالرغم من كل “وضاعته”. هذا الإخلاص يدعونا للاحترام بالرغم من كل شيء.

التحدي الأول في اللعبة يكون بأن يخرج كلاهما إلى شرفة الشقق المتجاورة أثناء إقامة عزاء في الأسفل وترديد أغنية نانسي عجرم “ابن الجيران اللي هنا قصادي مش عارفة بس أعمله أنا إيه” بأعلى صوت ممكن للحصول على المال وكسب الرهان.

دون تردد كبير نفهم من تنفيذ التحدي مدى رغبة كل منهما في الانتصار مهما كانت النتجية وبغض النظر عن نظرة الآخر أو أي شيء. ومنذ سنوات طويلة لم نشهد سخرية كوميدية تحدث في مأتم أو خلاله منذ المشهد القصير الخالد ليحيى الفخراني في فيلم “الكيف” (1985)، بينما هنا نستهل التعرف على هذا العالم من خلاله، بداية موفّقة ومكمّلة للإخلاص للإيفيه الذي يمكن أن نرى من خلاله كل شيء.

في أربع مواسم متتالية يحصد اللعبة الإعجاب، كل مرة أكثر مما سبقها ربما، إخلاصا تاما لكل حركة، وتطورا نوعيا يصحب الشخصيات والعوالم من منطقة واحدة وهي الإخلاص، السخرية من كل شيء طالما تخدم الإطار، من الميت كأقصى مساحة يمكن أن تصل إليها السخرية مرورًا بأعمار الأبطال الكبار (شويكار وبسيوني الملط) وصولًا للابن الذي يهتم بدراسته ومستقبله ولا يريد أن “يلعب” فينال لقبه دون رحمة بأنه “الابن العاق”، هل هناك إخلاص أكثر من ذلك؟

في الحلقات الأخيرة من الموسم، نكتشف صراحة حالة إفلاس نسبي والعجز عن اختراع ألعاب جديدة، ويلجأ صانعو العمل إلى إعادة إنتاج نفس الألعاب في سياق حلقات جديدة. وتعيد حلقة الموسم الرابع التحدي الأول الذي بدأت به اللعبة، ويتصادم الأبطال للمرة الأولى في المواسم الأربعة اعتراضا على تفاهة المقابل المادي بعد أن أصبح بالملايين وارتد إلى خمسين ألف فقط، بينما تصبح النتيجة أنه يتعين عليهما تخطي المستوى نفسه للذهاب إلى مستوى أصعب وأقسى، وهو المستوى الذي بات فيه تجديد الدم الصارم بالتخلص من الخاسر للأبد مرة بعد أخرى.

التخلص من الأبطال الذين اعتاد المشاهد عليهم فقط من أجل صناعة ضحكة جديدة عن طريق موتى جدد أيضًا، يحوّل الإفلاس إلى منطقة قوة كبيرة، والإيفيه أو التعليق اللفظي الساخر هنا، هو أهم من أي شيء آخر، وربما يفسر هذا لماذا تتزايد نجاحات هذا الثنائي في مقابل التواضع الذي نشاهد به في الفترة الأخيرة المنتج الكوميدي المنافس من أشخاص امتلكوا صالات السينما من قبل مثل محمد هنيدي تحديدًا الذي قدم آخر إنتاجه بشكل سيء منذ أيام في “مرعي البريمو”، عدد كبير من منتجي الضحك عمومًا باتوا يقفون في المنطقة المضمونة التي تجاوزها الزمن نوعًا ما.

نتساءل عمومًا هل تصبح اللعبة وأبطالها على قدر الإخلاص من عدم التورط فيما فعله الكبار من حلب للإيفيهات والعوالم والاكتفاء بهذا الموسم دون جديد والعمل على مشروعات أخرى، وترك هذا الإخلاص للإشادة والاكتفاء بما حققه من نجاح، يبدو في لحظة مفككة مثل التي نعيشها نجاحا ساحقا؟ يرفض الصنّاع، بل يعلنوا أنهم بصدد عمل موسم آخر قريبًا. لننتظر ونرَ.

Visited 4 times, 1 visit(s) today