محمد رسولوف وكيف صفع النظام الإيران بفيلمه “بذرة التين المقدسة”

في قصة مثيرة تتكشف أحداثها ببطء، رجل مُطارد من نظام بلاده الاستبدادي، يفر هاربًا من عقوبة السجن للمرة الثانية، يقطع الجبال سيرًا على الأقدام. لقد هرب في اللحظة المناسبة لعرض فيلمه الذي قام بتصويره سرا، وحظي عنه بإشادة عالمية.
إن ما يبدو وكأنه حبكة ميلودرامية لفيلم ما، هو في الواقع مجرد عرض موجز للرحلة الاستثنائية لانتقال فيلم محمد رسولوف “بذرة التين المقدسة” من السيناريو إلى الشاشة.

حكاية صنع هذا الفيلم الدرامي الاجتماعي المشحون سياسياً، أصبحت جزءا لا يتجزأ عن الفيلم نفسه، وهو عن قصة أحد المحققين القضاة، ترقى حديثًا في المحكمة الثورية في طهران، تنهار علاقته مع زوجته وابنتيه وسط فترة الاضطرابات السياسية الأخيرة في إيران.

الفيلم الذي جرى تصويره في الخفاء قبل عرضه في مهرجان كان في مايو الماضي، وفاز بالجائزة الخاصة للجنة التحكيم، عرض أيضا في عدد كبير من المهرجانات مثل لوكارنو، تيلوريد ، وتورونتو، ونيويورك، ووقع عليه الاختيار لتمثيل ألمانيا في الفئة المنافسة لأفضل فيلم غير ناطق بالإنجليزية في جوائز الأوسكار. ولن يعرض الفيلم أبدا في إيران، اللهم إلا إذا طرأ تغيير على نظام الحكم هناك، حيث يواجه مخرجه عقوبة الجلد، والسجن لمدة ثمان سنوات، وفق الحكم الذي أصدرته المحكمة الثورية الإسلامية الايرانية، لكن رسولوف يصر على أن هذا هو بالضبط سبب فراره.

يوضح المخرج قائلا “لطالما كان هدفي أن يشاهد الإيرانيون أفلامي، لكن هذا أمر من رابع المستحيلات في ظل النظام الإيراني المستبد، لذلك اصنع أفلامي وأرسلها للخارج حتى ترتد عائدة إلى إيران مثل قطعة الكيد المرتد. وأجد في هذا الأمر نوعا من العدالة.

حركة “المرأة، الحياة، والحرية” كانت تنتشر خارج جدران السجن، لقد فاجأنا الجيل الجديد، لدرجة أننا شعرنا كما لو أنهم قد ظهروا فجأة مثل النبت الشيطاني. شعرت وقتها بأمل مدهش مفاجئ. اعتقدت أن المجتمع قد أصابه الخدر، وأصبح جثة هامدة، لكن في تلك اللحظة، التي لم تكن في الحسبان، تغير كل شيء”.

لم يفقد المخرج حس السخرية والأمل لديه حتى وهو وراء القضبان، فيقول
“قلت للمحقق الذي استجوبني ذات مرة، سأستعين بك في أحد أفلامي، على الرغم من أنني كنت معصوب العينين، ووجهي للحائط ولم أر وجهه أبدا.”
وحتى بعد إطلاق سراحه من السجن، كان تجديد الحبس يلوح في الأفق، وكان أمامه حوالي ثمانية أشهر لإنتاج فيلم في هذه الفترة.
يقول جان كريستوف سيمون الرئيس التنفيذي لشركة فيلم بوتيك، الذي أنتج الفيلم عبر شركته الفرنسية باريلل 45 بالتعاون مع روزيتا هينديجانيان وماني تيلجنر لشركة راناوي الالمانية للافلام في تعاون مشترك مع سينما آرت فرانس، “لقد تواصل معي محمد وأبدى رغبته في إنتاج الفيلم في أسرع وقت ممكن، وبأكبر قدر ممكن من السرية”.

الفيلم هو العاشر في تاريخ مخرجه – الذي يبلغ من العمر 52 عاماًـ وهو يخرج الأفلام منذ عشرين عاما، ولم يتم اختيار الممثلين لهذا الفيلم بالطرق التقليدية، ولم يكونوا على دراية حينها أنهم يعملون في فيلم من إخراج محمد رسولوف، الذي يصف نفسه: “أنا معروف في إيران بأنني مجرم ثقافي”!

لم يكن العثور على الممثلين أمرا مستحيلا وهم كل من ميساج زاره، وسهيلة جولستاني، ومهسا رستمي، وستاره مالكي، وأدوارهم بالترتيب في الفيلم كالتالي، دور القاضي إيمان، وزوجته نامجة، وابنتيهما رضوان وسناء. لكن التفاوض معهم كان أمرا صعبا، كما يقول المخرج: لقد احضرناهم واحدا تلو الآخر، وأخبرناهم انه فيلم قصير، ثم جرى اخبار الممثلات بأنهن لن يرتدين اللباس المعتاد – الإلزامي للنساء – أي غطاء الرأس في بعض المشاهد، وذلك قبل الكشف لهم في النهاية عن تفاصيل العناصر المشحونة سياسيًا في النص.

يستكمل المخرج متذكرًا، لقد انسحب عدد من الممثلين في مرات كثيرة، فلم يكن لديهم أي شروط للتعاون، تحديدا فيما يخص شؤونهم العائلية الخاصة التي قد تجعل العمل في مثل هذا الفيلم أمرا محفوف المخاطر.

أثناء عملية التصوير السرية، كان رسولوف يدير الإخراج عن بعد، ووضع سيناريو بديلا، فإذا جاءت السلطات الإيرانية للتحقق من الفيلم، كان طاقم العمل والممثلين يتظاهرون سريعا بتصوير فيلم آخر مختلف تماما، وتقوم الممثلات بتغطية رؤوسهن، بل ولم يكن أمام البعض من فريق العمل سوى الجلوس على مقعد المخرج . يتذكر رسولوف عملية تصوير الفيلم واصفا إياها بأنها كانت مثل أفلام الإثارة الكوميدية.


ويضيف سيمون: كانت المشاهد اليومية المصورة تُرسل بشكل آمن، لكن لم يكن في مقدوري معرفة كيف كان محمد يحرر الفيلم أثناء التصوير. يفضل كل من رسولوف وسيمون التزام الصمت بشأن فريق عمل الفيلم والممثلين، في حال قد يتسبب أي تعليق في حدوث مشاكل لهم، ولكن استطاعت كل من رستمي ومالكي حضور العرض الأول للفيلم في مهرجان كان.


جرى تصوير الفيلم خلال الفترة ما بين ديسمبر 2023 ومارس 2024. وعندما علم المخرج بالتهمة الرسمية الموجهة إليه، يقول انه كان أمامه ساعتين ليقرر ما إذا كان سيبقى في إيران ويواجه ما لا يقل عن عشر سنوات في السجن، أو يغادر أملا في إحداث تأثير أكبر خارج حدودها.

يقول رسولوف: “تحدثت هاتفيا مع المنتجين وأخبرتهم أن أي شيء قد يحدث في أي لحظة، وحتى اذا كانت هناك عراقيل، أو تم إلقاء القبض علي مرة أخرى، أو حتى لو لقيت حتفي، من المهم جدا أن يُعرض هذا الفيلم على الشاشة الكبيرة، لابد أن تعرضوه في الخارج.

أجريت عمليات المونتاج وما بعد الإنتاج ما بين ألمانيا وفرنسا، أثناء رحلة هروب رسولوف الطويلة من البلاد. وقال سيمون “انتابنا القلق لفترة طويلة”، وأوضح أن رسولوف كان قد ترك وراءه جميع الأجهزة الإلكترونية، لذا لم يكن من الممكن الوصول إليه في وقت ما لعدة أيام قبل أن يصل أخيرًا بسلام في بلد آخر حيث تمكن من الاتصال بفريق الإنتاج.

قام المنتجون بإرسال نسخة غير مكتملة من الفيلم بدون موسيقى أو مؤثرات لمدير مهرجان كان تييري فريمو وأعضاء لجنة اختيار الأفلام. واكتمل الفيلم عشية عرضه الرسمي في مهرجان كان، وشاهده المخرج لأول مرة في اختبار العرض في مسرح لوميير.

يقول سيمون إن مسألة وجود الفيلم، واستعداده للعرض في مهرجان كان، بحضور محمد رسولوف وعدد من الممثلين لتقديمه في المهرجان، ثم حصوله على جائزة فيه، وتحقيقه إيرادات وصلت 4 ملايين دولار في شباك التذاكر خلال اربعة اسابيع من عرضه في فرنسا، ليقع الاختيار عليه أخيرا للأوسكار، هو أمر لا يقل عن كونه معجزة.

عرض الفيلم في هذا التوقيت من قبل شركات مثل نيون في أمريكا الشمالية، وليونزجيت في المملكة المتحدة، يجعله مؤهلاً للتنافس في فئات متعددة لحفل توزيع جوائز الأوسكار والبافتا البريطانية، وهي نتيجة لم يتوقعها المخرج أبدًا حتى لو لم يكن أمر الجوائز غريباً عليه، حيث فاز بشكل خاص بجائزة الدب الذهبي في مهرجان برلين عام 2020 عن فيلم “لا يوجد شر”Evil doesn’t exist والجائزة الكبرى في “نظرة ما” في مهرجان كان عام 2017 عن فيلم “رجل شريف” A Man of Integrity

يقول رسولوف “لم يخطر موضوع الأوسكار قط في بالي، لأن في إيران الدولة هي التي تقوم باختيار الفيلم. ولطالما كان حلمًا طريقه مسدود أمامي دائمًا.
مضيفًا: “إن المخرجين أثناء عملهم يفكرون في الفترة التي سينتهي فيها فيلمهم، ومتى سيتم عرضه، أما أنا فلم أفكر في مثل هذه الأمور أبدا من قبل.
ويظل شغله الشاغل في الرسالة التي ينوي إيصالها لوطنه إيران عبر جمهوره حول العالم: تحلوا بالإيمان فقط.

Visited 6 times, 6 visit(s) today