“مانك”.. قصيدة هجاء لفيلم عظيم
يحكي فيلم “Mank” أو “مانك” كواليس كتابة سيناريو فيلم “Citizen Kane” أو “ المواطن كين” الذي يعتبره الكثيرون أحد أعظم ما جادت به السينما، وذلك من خلال تتبع مراحل كتابة السيناريو بواسطة الكاتب المثير للجدل هيرمان مانكويز، والظروف والملابسات التي صاحبت كتابة القصة وعلاقة مانكويز بالأحداث الحقيقية التي أستلهم منها حكايته في “ المواطن كين”.
رواسب الماضي
يرتبط فيلم “مانك” إرتباطاً وثيقًا بفيلم “ المواطن كين” ليس فقط من حيث توثيق الأول لكواليس صناعة الآخر، ولكن أيضًا بسبب ذلك الجدل الواسع الذي يحاول فيلم “مانك” فك شفرته ألا وهو الخلاف طويل الأمد بين مخرج “المواطن كين” أورسون ويلز، وكاتب الفيلم – بطل فيلم “مانك”- هيرمان مانكويز، حول من هو صاحب الفضل الأول في نجاح الفيلم وصاحب الحق الأدبي في سيناريو الفيلم الذي حاز على جائزة الأوسكار وقتها.
سخط الكاتب
في خضم كل تلك التحديات والرواسب القديمة التي تواجه مخرج “مانك” دافيد فينشرفي حكايته؛ يغتنم فينشر الفرصة ليقدم نسخته عن العصر الذهبي لهوليوود. لا يعطينا الفيلم نظرة حالمة أو تحية لعالم صناعة السينما الكلاسيكية وما خلف الكاميرات بل يفعل العكس تمامًا.
هنا تتوارى الجماليات في الفيلم ويضع فينشر على السطح نسخة قاتمة ساخرة عن استديوهات هوليوود وجميع عناصر البيئة السينمائية. في بداية الفيلم يوجه المشرف الخاص بمانكويز نصيحة له فيقول “كما يخبرنا الكاتب، أسرد القصة التي تعرفها” فيرد عليه مانكويز “أنا لا أعرف ذلك الكاتب” في إشارة إلى النزعة النقدية الثورية التي سينتهجها مانكويز في كتابة قصته والتي سيظل فينشر هو الآخر مخلصًا لها في فيلمه.
نقد السلطة والنفوذ
علامات تهكمية ساخرة عديدة يضعها الفيلم طوال مدته للتدليل على ذلك، أول مشهد داخل استوديو بالفيلم يكون داخل حمام، غرفة كُتاب السيناريو مُعلّق على بابها لافتة مكتوب عليها “لا للإزعاج.. العباقرة يلعبون” وعندما ندخل الغرفة نجدهم يتراهنون بقطعة نقود ونجد سيدة عارية الصدر تكتب على الآلة الكاتبة.
واستكمالا للطابع الهزلي ينتهى المشهد برفض شركة باراماونت فكرة فيلم فرانكشتاين بحجة أنه فيلم تجاري لا يرقى للمستوى فيما نجد على حائط الغرفة بوسترين لفيلمين هما المعنى الحقيقي للفيلم التجاري. لكن الفيلم لا يكتفي بذلك بل يذهب لما هو أبعد في نقده وذمه، فنشاهد السينما كأداة استغلال وتحريض في أيدي القوى السياسية وأصحاب المال.
الكاتب يعجز عن الحصول على التقدير الأدبي والمادي، الممثلون مشردون في الشوارع في حين تحصل ممثلة عديمة الموهبة على فرصة تلو الأخرى وتنتقل من باراماونت لـ وارنر براذرز (من شركات إنتاج).
استطاع فينشر أن يجد لنفسه مساحه يسرد من خلالها حكاية أكثر إتساعًا وشمولية؛ حكاية عصر وحقبة غارقة في الإضمحلال والتخبط. يُمثل فيلم “مانك” في الواجهة حكاية هيرمان مانكويز ولكنه يتسلل من خلاله إلى رؤية عامة لأمريكا وتحديدًا ولاية كاليفورنيا وانعكاس إقتصادي وإجتماعي وسياسي لتلك الحقبة الزمنية في البلاد. يراقب الفيلم صراع الإنتخابات المحلية في كاليفورنيا وكيف مالت الكفة تجاه مرشح لآخر بصوت الإعلام ولكنه يفعل ذلك بمحاذاه ذكية مع قصة بطلنا الكاتب مانكويز وعلى مقربة من بطل الحكاية الأخرى في فيلم “ المواطن كين”.
عبثية المشهد العام
أما مانكويز على المستوى الشخصي، فهو كاتب سليط اللسان وصعب المعشر وسكير، وهو يستخدم سخريته كأسلوب حياة لكن هذا الجانب الساخر فيه هو بمثابة ردة فعل للعالم العبثي المتخبط من حوله فنجده في إحدى المشاهد القليلة التي يحاول فيها نفض غبار الترفع عن الحياة والذي يغمر شخصيته في محاولة لفعل شئ تجاه قضيته، يجري خلف عربة شخصية “ماريون دايفز” –ممثلة – كي يحاول أن يقنعها أن تخرج من سيارتها لتخبر صاحب شركة الإنتاج أن يوقف شريطا دعائيا من شأنه أن يغير مسار انتخابات كاملة فترفض بحجة أنها قامت بالفعل بمشهد خروجها “السينمائي” أمام الصحافة! وينتهي المشهد بضحكات عالية من مانكويز؛ ضحكات تعبر عن هشاشة الكيانات المنوط بها تغيير الوضع السائد، ضحكات تنفس عن غضب تجاه مجتمع المثقفين بهوليود، ضحكات هي السبيل الوحيد لمسايرة الواقع خشية الإنسياق للجنون.
ثأر قديم
يستخدم مانكويز السخرية في حياته لمواجهتها ويستخدم كتابته لسيناريو “المواطن كين” للبصق على عالم كواليس السينما من حوله، ومشاهدة فيلم “المواطن كين” قد تكون ضرورية للمُشاهد للتواصل مع فيلم “مانك”، فلا يمكن – على سبيل المثال لا الحصر- أن تتفهم مدى تأثير مشهد فيلم “مانك” الذي يُطرد فيه مانكويز من قصر الصحفي الشهير ورجل الأعمال ويلي هيرست – بطل “ المواطن كين” – عليه إلا عندما ترى إنتقامه من ويلي في سيناريو “ المواطن كين” عندما يتركه عجوزًا وحيدًا في قصره الفارغ المهجور بلا حول ولا قوة.
حيوات منسية
يقدم الفيلم شخصيات ربما ليست بالعمق الكافي في تحليلها لكنها تصنع مجموعة مميزة من الحوارات الجذابة المصبوغة بروح أفلام هوليوود الكلاسيكية وخبرة فينشر في إدارة حوار إنسيابي تتفاعل جميع عناصره حركيًا بشكل مبهر.
وعندما نتحدث عن سينما دافيد فينشر فلا بد أن نذكر أحد أهم الاعيبه السينمائية على مدار مسيرته والتي تواجدت مجددًا في “مانك”؛ التحايل المونتاجي بالمشاهد وتداخلها.
يستعمل فينشر الفلاش باك لسرد الجانب المتعلق بالقصة الحقيقية لشخصيات فيلم “ المواطن كين”، وفي أحد تلك المشاهد يأتي مشهد انتحار شخصية ثانوية بدافع تأنيب الضمير بسبب تصويره لتلك المشاهد الدعائية المزيفة، يقطع فينشر المشهد على صوت طلقات الرصاص ونعود فجأة للحاضر ولكن عند عودة القصة لفلاش باك جديد يضع كاميرته في عزاء يمتلئ بحشد كبير من الناس داخل كنيسة ونتوقع كمشاهدين أن يكون ذلك عزاء الشخصية المنتحرة منذ دقائق، لكننا نكتشف سريعًا أنه عزاء مخرج آخر يعد من أهم مخرجي شركة “أم جي أم”.
قامت الكاميرا في تلاعبها الخفي بإنتقاء مماثل لذلك الموجود في عالم هوليوود، ذلك المسكين الذي وضع حدًا لحياته عندما خان مشاهديه تحت وعد بفرصة إخراج فيلمه الأول، لن يحظى بأي إهتمام ولن يعرف أحد سبب موته بينما الشخص الذي دفعه لفعل ذلك سيتم تكريمه في جنازته كرمز من رموز الصناعة!
فض الإشتباك وتحية الأبن لوالده
استطاع فينشر أن يفض الصراع بين مانكويز وأورسون ويلز على أحقية سيناريو “ المواطن كين” من خلال تأكيده على إضافات وتعديلات ويلز على المسودة الأولى لسيناريو مانكويز، ومنح الفرصة لكلاهما في كلمتهما الأخيرة عن الجدال بحيادية حتى ولو مال الفيلم لجانب الكاتب بحكم أن الفيلم في الأساس قصة حياته.
في النهاية يمكن الجزم أن إنجاز دافيد فينشر الحقيقي هو عدم تركيزه على ذلك الصراع الضيق بل إستخدامه كنافذة لرصد حال صناعة السينما خلف شاشتها البراقة الخادعة في عهد الكساد الإقتصادي والترهل الإجتماعي. إنجازه هو تحقيق حلم والده – جاك فينشر- في خروج سيناريو الفيلم للنور وبهذا الشكل بعد سنوات طويلة من النسيان داخل الأدراج وتسليط الضوء على أهمية الكتابة الإبداعية الحرة والأصوات المجهولة التي لم تجد الفرصة للحياة.