ماذا قال فيلليني عن رائعته “ثمانية ونصف”؟
أمين صالح
*في حالة هذا الفيلم، شيء ما حدث لي، وكنت أخشى حدوثه. لكن عندما وقع الشيء، كان رهيباً بدرجة لم أكن أتخيّلها. لقد عانيت ما يعانيه الكاتب حين يشعر بشلل ذهني تام، بعجزه عن الخلق، وعدم قدرته على التعبير عن أي شيء. كانوا ينتظرون مني أن أصنع فيلماً. ما لم يعرفوه، هو أن الفيلم الذي كنت أنوي إنجازه هرب مني.
مع أن الاتفاق قد تم مع الممثلين الأساسيين، وشُيدت الديكورات، حتى أنني من المكتب الذي أجلس فيه وأكتب، تصلني أصوات مطارق النجارين وهم يعملون في تركيب الديكورات، إلا أنني أردت التخلي عنه وتركه يتبدد في الهواء، أن أبتعد عنه.. ذلك لأنني لم أعد أتذكر ما كنت أرغب في فعله، في تحقيقه.
*الإحساس، الروح، النكهة، الجوهر، الصورة الظلية، الوميض.. كل ما أغواني وسحرني كان قد اختفى، تلاشى، ولم أعد استطيع العثور عليه. خلال الأسابيع الأخيرة حاولت، بتوق شديد، أن استعيد مجرى نشوء ذلك الفيلم الذي لم استطع حتى أن أحسم عنوانه. كنت قد اخترت له عنواناً مؤقتاً: ثمانية ونصف.. إشارة إلى عدد الأفلام التي حققتها. لكن كيف ولدت الفكرة؟ ماذا كان الاتصال الأول، الاحتكاك الأول، الشعور السبقي الأول، بذلك الفيلم؟
رغبة غامضة، مشوّشة، لخلق بورتريه (صورة شخصية بمختلف طبقاتها) لرجل في يوم معيّن من حياته، بكل ما يشتمل عليه من وقائع مختلفة، متناقضة، مراوغة.. بكل احتمالات وجوده ومستوياتها. ذلك أشبه بمبنى تتقوّض واجهته كاشفة عن الباطن كله: سلالم، أروقة، حجرات، أدوار علوية، أقبية، أثاث، أبواب، أسطح، أنابيب مياه، زوايا حميمية وسريّة.
أردت أن اتحدث عن شخص ليس لديه بعد أي هوية شخصية أو مهنية (في البداية لم يكن مخرجاً). أردت أن أسرد الأبعاد المتعددة ليوم واحد، حياة واعية ولاواعية تتفتح وتبدو للعيان مثل حلزون، بلا تعيين للتخوم، متخلياً عن أي فكرة لحبكة ما، لصالح سرد حر، محادثة. الفكرة هي استعادة الإحساس بالزمن، حيث الماضي والحاضر والمستقبل والأحلام والذكريات والرغبات تكون متمازجة معاً.
الحياة مركّبة من متاهات متعرّجة، متغيّرة، مائعة، تتصل بالذاكرة، بالأحلام، بالمشاعر، بالتعقيد اليومي المرتبط على نحو لا ينفصم بالذكريات والتخيلات والأحاسيس والحوادث التي وقعت منذ زمن طويل والتي تتحد مع تلك التي تحدث الآن. مزيج من النوستالجيا والشعور السبقي في وقت رائق لكنه مختلط، حيث لا يعود بطلنا يعرف هويته أو ماضيه أو إلى أين ستمضي حياته.. حياته التي تبدو الآن مجرد نوم يقظ طويل، يخلو من المشاعر.
*كنت أتحدث عن هذا، ذات مساء، مع إنيو فلايانو فيما كان يقود سيارته نحو البحر في أوستيا. بالتحدث عنه حاولت أن أوضح لنفسي غرض ومغزى الفيلم. فلايانو كان يصغي في هدوء، لم ينطق بكلمة، لم يطرح أي تعليق. كان مفعماً بالارتياب، الاستخفاف، الحذر. وتكوّن لدي انطباع بأنه يعتقد أن الثيمة لا تنتمي إلى الفيلم، وأن ما سردته عبارة عن تدفق مفرط في الادعاء والغطرسة، ولا يمكن تحقيق أبعاده إلا من خلال الأدب وحده.
توليو بنيللي، الذي إليه حاولت أن أنقل الإحساس بهذا الخيال العابر بعد بضعة أيام، كان أيضاً صامتاً في حيرة وربما في شك من إمكانية بناء قصة على باعث غريب وصعب جدا ترجمته إلى حالات وأحداث.
أما برونيلو روندي، بحماسته الفائضة المعهودة، فقد عبّر على الفور عن موافقته بالمشاركة. إنه يمثّل الجمهور النفيس: يحب كل شيء، كل مشروع يثيره، وهو مستعد لأن يسلك أي سبيل ويتعاون في كل اتجاه وفي أي شيء.
هكذا بدأنا، نحن الأربعة، في الكتابة على نحو مستقل. قد اقترح ثيمة، صراعاً، حالة معينة، ويشرع كلّ من بنيللي وفلايانو وبرونيلو في كتابة نسخته أو ترجمته الخاصة للمشهد.
كان مشروعاً طموحاً جداً إلى حد أنني لم استطع التعبير عنه. بعدئذ ذهبت إلى منتجع صحي لتلقي العلاج. هذا المحيط – الاصطفاف الشعائري في طابور حاملاً كأساً في انتظار أن تشفى، فخامة المنتجع، الإحساس المطهّر الذي هو حاضر دوماً عندما تتحد مجموعة من البشر في ممارسة الطقس ذاته.. مثل باليه – جلب لي (هذا المحيط) الخلفية لهذه التأملات: رجل واقع في شرك لحظة من التعطل في إيقاعاته اليومية، لأن ثمة تهديداً، ربما مرضاً.
لكنني لم أكن أعرف شخصيتي، لم أقرر بعد أي نوع من الرجال نسعى إلى تصويره، وأية مهنة يمارس: كاتب، محامي، مهندس، صحفي؟ لم استطع أن أحسم أمري، وتلك الذكريات، تلك التأملات، هي بلا وجه، وتتلاشى في اللاشيء.
يوماً قررت أن أضع بطل فيلمي في منتجع صحي، عندئذ بدأ غرض الفيلم يتسع لاحتمالات أكثر صلابة. كتبنا مشهد الحريم. الليل في الحمامات مع الصديق المنوّم المغناطيسي. البطل الآن لديه زوجة وعشيقة. لكن عندئذ بدأت الحبكة في الانحلال. لم يكن هناك لبّ مركزي منه تنمو القصة، لا بداية ولا نهاية، ولا أقدر أن أتخيّل كيف ينتهي العمل. كل صباح كان بنيللي يسألني عن مهنة بطلنا، وأنا لا أعرف بعد، ولا يبدو لي أن ذلك مهم، رغم شعوري بشيء من التوتر إزاء ذلك.
ربما هذا كان الدرس العظيم للفيلم: في موضع ما، قلت لنفسي: “اجعل المحرّك يبدأ، ليصعد كل شخص على متن السفينة. شخص ما سوف يوفّر الإمدادات. ارغم الآخرين على دفعك لفعل شيء ما”.
وهذا ما فعلته. فكرت أن من العبث الاستمرار في السيناريو. شعرت أنه، لكي انسجم مع الفيلم، يتعيّن عليّ أن اباشر في النظر إلى الشخصيات عن قرب، أن اختار الممثلين وأحدّد المواقع وأحسم أموراً كثيرة، ثم أمضي باحثاً عن فيلمي بين الناس وفي كل مكان.. في محلات الملابس، في المسارح. كان عليّ أن اتظاهر بأن الفيلم جاهز ويمكننا الشروع في تصويره خلال شهر.
قررت أن اختار مارسيلو ماستروياني، ساندرا ميلو، وجعلت أنوك إيميه تأتي من باريس. وفي غابة بالقرب من روما بدأنا في تشييد المبنى الضخم، وفي استوديوهات سكاليرا بنينا مزرعة الجدّة وغرف الفندق. آلية الإنتاج الضخمة كُرّست للفيلم وتمت المباشرة بالعمل: مواعيد، عقود عمل، خطط إنتاجية، تقديرات وتخمينات، ديون.
لكني، أنا المعتكف في مكتبي، الجالس قبالة الآلة الكاتبة، بعد شهرين من العمل المجهد والمضني، أدركت أنني لم أكن أعرف بعد ما أريده. لم استطع بعد العثور على فيلمي. لم يعد هناك، كان قد مضى بعيداً، وربما لم يوجد أبداً.
*كنت أذهب كل يوم إلى الأستوديو وأقضي النهار كله في مكتبي: أرسم، أجري الاتصالات، وانتظر.
لم استطع إيجاد شعوري الوجداني. جلست في الأستوديو، وشرعت في كتابة رسالة، نابعة مباشرة من القلب، إلى منتجي أنجلو ريزولي، شارحاً له الحالة التي كنت فيها. رجوته أن يتفهم حالة التشوّش التي أمرّ بها، وأنني غير قادر على إنجاز شيء.
كنت في منتصف الرسالة عندما سمعت صوت مينيكوشيو المدوّي، رئيس العمال، يناديني من الأسفل، من الفناء، طالباً حضوري إلى الموقع للحظةٍ لأن غاسبارينو، وهو ميكانيكي آخر، كان يحتفل بعيد ميلاده ويقدّم كؤوساً من الشمبانيا. تركت رسالتي وذهبت إلى حيث يحتشد الجميع في انتظاري، النجارون والميكانيكيون والرسامون، وكل واحد منهم يحمل كأساً في يده. كنا في المطبخ الهائل، قيد الإنشاء، الذي سيكون نسخة طبق الأصل من المطبخ في منزل جدتي الريفي لكن المضخم بفعل الذاكرة. غاسبارينو، بخوذة البناء على رأسه والمطرقة مشدودة بطوق إلى فخذه، فتح الزجاجة وهو يقول: “سيكون فيلماً عظيماً يا دكتور. في صحتك.. عاش فيلمنا ثمانية ونصف”.
ظننت أنهم سوف يشربون نخب من يحتفلون بعيد ميلاده، لكنهم شربوا نخبي وتحفتي الفنية. بالطبع، لم تكن لديهم أية فكرة بشأن ما أنوي فعله، لكن ثقتهم بي كانت تامة.
فرغت الكؤوس وكل شخص صفق في استحسان، أما أنا فقد انتابني إحساس غامر بالخجل، وشعرت أنني أكثر البشر ضآلة.. شعرت أني خائن.. الربان الذي هجر سفينته وتخلى عن بحارته. كانوا يسموني الساحر، أين هو سحري؟
لم أعد إلى المكتب حيث الرسالة التي لم تكتمل تنتظرني، وعوضاً عن ذلك جلست، شارداً وخاوياً، على مقعد صغير في الحديقة وسط الحركة النشطة والدؤوبة للعمال والتقنيين والممثلين العاملين في فيلم آخر.
*عدت إلى مكتبي، مذهولاً. لقد أوشكت أن أؤذي هؤلاء الأشخاص بجعلهم يفقدون أعمالهم. سألت نفسي: والآن ماذا عليّ أن أفعل؟ لكن لم أعثر على إجابة. ثم سمعت صوتاً واهناً، صوت الخلق بداخلي. لقد عرفت. القصة التي أريد أن أرويها هي قصة كاتب لا يعرف ماذا يريد أن يكتب. إنه يناضل من أجل التعامل مع معضلاته ومشاكله، وتجاوز عادية حياته وابتذالها. والتغلب على الحواجز والعوائق العديدة التي تفرضها طبيعة مهنته. عندئذٍ مزّقت رسالتي الموجهة إلى ريزولي.
*في ما بعد، حوّلت مهنة جويدو من كاتب إلى مخرج سينمائي لا يعرف ما يريد أن يقوله ويفعله. من الصعب تصوير كاتب على الشاشة، يمارس أفعاله بطريقة مشوقة، بينما عالم المخرج السينمائي مفتوح على احتمالات لا حدّ لها.
قلت في نفسي، أنا في موضع مغلق لا منفذ له، وضع من لا يجد لنفسه مَخرجاً. كنت المُخرج الذي أراد أن يحقّق فيلماً لم يعد يتذكره. في تلك اللحظة، سطعت أمامي الفكرة، وذهبت مباشرة إلى لبّ الفيلم. قررت أن أسرد كل ما حدث لي. قررت أن أحقّق فيلماً يروي قصة مخرج لا يعود يعرف أي فيلم يريد أن ينجز.
*كنت أعلم أن الآخرين سوف يعتقدون، بجعلي جويدو مخرجاً، أنني سأتحدث عن نفسي، وأن العمل سيكون سيرة ذاتية. صحيح أن أجزاء الفيلم تشير إلى حياتي، وهذا أمر حتمي، لكن بعض الأجزاء تصبح تدريجياً محرّفة، بينما الأجزاء الأخرى تتشكّل أثناء التصوير. النتيجة هي قصة مخرج يتوجب عليه أن يبدأ الفيلم، لكنه لا يستطيع أن يتذكر الحبكة، ويستمر في التأرجح بين مستويين: الواقع والخيال.
*بعد أيام قليلة، أعلن عمال المعامل السينمائية الإضراب. في هذه الحالة، يستحيل علينا فحص نسخ التصوير اليومية واكتشاف العيوب، لذلك اقترح الجميع التوقف عن التصوير، لكنني رفضت، مصراً على المواصلة. صورت لمدة أربعة شهور من غير أن أشاهد ما صورته، بل طلبت هدم الديكورات المكلفة الصنع لتوفير حيّز لتشييد ديكورات جديدة، من دون التأكد من جودة اللقطات التي صورناها. المصور أصيب بانهيار عصبي. عندما انتهينا من تصوير الفيلم، قضيت ثلاثة أيام في صالة العرض لأشاهد ما عملناه في أربعة شهور. كان ذلك سابقة تاريخية: أن يصوّر شخص فيلمه من دون أن يعرف ما الذي يفعله.
*لقد وُلد الفيلم من رحم الهجر، التلقائية، الثقة والتحدي. الفيلم المحظوظ الذي نجح في ما بعد إلى حد أنه صار نوعاً سينمائياً مستقلاً. إلى جانب الويسترن وأفلام التحري، هناك نوعية ثمانية ونصف.
*إذا كان هناك درس تعلمته من هذه التجربة، فهو أن كل شيء يحدث خلال إنتاج الفيلم، سواء أكان هناك تناقض أو معاداة أو عوائق أو إضرابات.. كل هذه الأشياء يمكن أن تصبح غذاءً للفيلم.
الخوف من الكارثة هو أمر محفّز جداً بالنسبة لي. أنا أعبد الخراب، تهديد النهاية، النهاية المرئية كعلامة لبداية جديدة. أنا لا أسعى وراء الكوارث، لكنني احتاج إلى هذا الجو المهدّد.
*يتعيّن على الفيلم أن يساعد في التخلص من العُقد العصابية التي تستبد بأولئك الذين يرغبون في تغيير الآخرين. في اعتقادي، ينبغي قبول الآخرين كما هم وليس بالصورة التي نريدها لهم. إذا استطاع الفيلم أن يحيي أو يجدّد هذا الاحساس بالحرية، فإنني اعتبره ناجحاً.
*”ثمانية ونصف” فيلم شخصي.. حققته لإرضاء نفسي ثم الجمهور.
* مصادر متعدّدة