لماذا تصاعدَ اهتمامُ العرب بالأفلام الأجنبيَّة؟
لعل القارئ لن تصيبه الدهشة من القول المباشر: “العرب تتضاعف مشاهدتهم للأفلام الأجنبية”. وفي ظل تزايد يلاحظه الجميع لانتشار الأفلام الأجنبيَّة يجب علينا أن نقف أمام هذه الظاهرة؛ لنحاول اكتشاف أسبابها، والكشف عن فوائدها، وأخطارها.
هذا الوقوف لا ينبغي أن ينحصر في الحيِّز النقديّ فقط. بل يجب أن يناقش وبتمعُّن في حيِّز الثقافة العامّ، وأن يكون مطروحًا دائمًا على طاولة وعينا؛ وذلك لأهميَّة هذا الموضوع، وما يمثُّله من دلالات، وما قد يعقبه من إفادة وخطورة أيضًا.
وسأناقش هذه القضية مناقشة تحاول الكشف عن أعمدتها الأساسيَّة. ينبغي أن تبدأ من معرفة حقيقيَّة بهذا المصطلح “فيلم أجنبيّ”، ثمّ تحليل قواعد المشاهدة؛ أيْ تصنيف فئات المشاهدين حيال ظاهرة “الأفلام الأجنبيَّة”. ثم الخلوص إلى الأسباب التي ساعدت على انتشار هذه الظاهرة في السنوات الأخيرة. وانتهاءً بالفوائد والأضرار.
ما الذي يعنيه مصطلح “فيلم أجنبيّ”
لن ألجأ هنا إلى طريقة التعريف المعتادة في العلوم. بل سأبلور المفهوم حول سمات، وهذا أفضل في شمول رؤيته. فـ”الفيلم الأجنبيّ” هو:
1- هذا الفيلم الذي يصنعه الآخر، وليس أنت.
2- يكون بلغة الآخر. وقد تبدو لك هذه القضية هامشيَّة أو على الأقل فرعيَّة. ولكن مسألة اللغة هي الأهم على الإطلاق في هذا التصنيف “فيلم أجنبيّ”. ولعلّ المُتابع يرى أن أبناء الثقافة الواحدة والمُوحَّدة (الثقافة الغربيَّة) يعتبرون اللغة معيارًا أساسًا في رؤية الفيلم. على سبيل المثال جوائز “أوسكار” تعطى للأفلام الناطقة بالإنجليزيَّة في المقام الأول. وهناك جائزة منها لأفضل “فيلم أجنبيّ” ويدخل في هذا التصنيف كل فيلم ما عدا ما كانت لغته الإنجليزيَّة. حتى إنْ كان آتيًا من الثقافة الغربيَّة نفسها التي تمثلها الأفلام الأمريكيَّة. وهذا -للعلم- هو معيار بقيَّة الفنون فالأدب يحتسب للغة التي كُتب فيها، وليس لجنسيَّة مؤلفه. ولك أن تعلم أنّ جان جاك روسو ليس فرنسيًّا، إنّما كتب بها.
3- يصدر عن فكر وثقافة الآخر، لا عن ثقافتك وفكرك. موسومًا بشخصيِّته.
4- يناقش مشكلاته وقضاياه هو، لا مشكلاتك أنت. إلا في حالة التصيُّد والتشويه. كما تتعامل السينما الأمريكيَّة مثلاً مع دولة “روسيا” وكتقبيح كل ما يتعلق بها. وكما يتعاملون مع العرب والإسلام.
5- يعبِّر عنْ منظومة وعيه كلها؛ من فلسفات، وأخلاقيات، وعقائد، وطرق معيشة. لذلك فالأفلام وسيلة مباشرة لمعرفة الآخر بدقائقه.
أمَّا عن فئات المشاهدين للأفلام الأجنبيَّة -عمومًا-. فتتمحور حول ثلاث من الفئات:
1- فئة المُهتمِّين بالإنتاج الأجنبيّ. وهذا الصنف لم يتغيَّر في سلوك التلقِّي؛ فهو مُمارس لهذه المشاهدة دون تأثير خارجيّ. وهؤلاء لا يدخلون تحت دائرة اهتمامنا في دراسة هذا الموضوع، إلا بصورة فرعيَّة من مثل تأثير هذه الانتشار المُبالغ في سعة القاعدة التي من الممكن لهم أن يشاهدوها من أفلام.
2- فئة القابلِيْن لمشاهدة الأفلام الأجنبيَّة. أيْ أنَّهم مستعدُّون لمشاهدة الأفلام الأجنبيَّة لأسباب عديدة. وهي ليست على الحقيقة فئةً واحدةً، بل من الممكن تفريعها إلى كثير من الطبقات والشرائح حسب سبب القابليَّة للمشاهدة، ونوعيَّة الأفلام المُختارة. وهؤلاء هم الفئة العظمى التي تأثَّرتْ وأثَّرتْ بهذه الظاهرة. فاتجاهها للمشاهدة أدى إلى اهتمام جهات العرض بزيادة أعداد وأصناف الأفلام المُقدَّمة.
3- فئة المُستهدِفِين للتسلية وحسب، بغضِّ النظر عن مصدرها. وهؤلاء مُشاهدون لكل الأفلام، لا لأنهم على علم بها، أو على محبَّة لها، بل لأنَّها مصدر تسلية وتزجية للوقت، وسببًا -كما يرون- للترفيه عن الذات. وهذا هو الفارق الذي جعلني أفردهم بصنف وحدهم. أنَّ الغاية الوحيدة التي يستهدفونها هي التسلية، على خلاف الصنف السابق الذي قد يبدو احترام الفيلم، أو صُنَّاعه، أو محبتهم لأيٍّ من عناصر الفيلم سببًا وجيهًا للمشاهدة عندهم.
وبالقطع معرفة فئات المُشاهدة له تأثير كبير في فهم الظاهرة نفسها، وأسباب انتشارها. بصفتها -أيْ هذه الفئات- هي سبب الظاهرة ونتيجتها.
نصل هنا إلى أسباب انتشار “الأفلام الأجنبيَّة” والتداول الواسع لها. والتي سألخصها في ثلاثة أقسام في العناصر الآتية:
أولاً: أسباب تتعلَّق بالسينما المصريَّة نفسها:
1- وقوع تغيُّرات واسعة المدى في البلدان العربيَّة منذ عام 2011. مما غيَّر كثيرًا من خريطة السينما العربيَّة. وأوقف النشاط السينمائيّ لسنوات، وساعد على إنهاء الكثير من التجارب التي كانت قيد الإعداد أو التنفيذ، في ظلّ تخوُّف واسع من جهات الإنتاج. وكذلك أحجمت كل جهات الإنتاج ذات القوة الضعيفة والمتوسطة، ليبقى في السوق فقط عدد محدود من المُنتجين القادرين على تحمُّل الخسائر. كما ساعدت هذه التغيُّرات السياسيَّة على انتقال كثير من المُمثلين المُجيدين من بلدانهم بسبب اختلافهم مع أولي الأمر الذين استولوا على مقاليد البلاد. وغيرها من الآثار التي من الممكن أن نعالجها في مقال منفرد.
2- الرَّداءة البالغة في المستوى السينمائيّ العربيّ، والمصريّ خاصَّةً في السنوات التي سبقت هذه التغيُّرات السياسيَّة، وتلتْها. والتي أثَّرت بشدة على إحجام قطاعات واسعة من المشاهدين عامَّةً عنها، أو على الأقل متابعتها مع الاستياء الشديد. هذه الرداءة جاءت على الصعيديْن الفنيّ والمعنويّ. خاصةً الأخير حيث انحصرت في قصص البلطجيَّة والمجرمين بشكل يؤثر بشدة، بل يغير في منظومة القيم العربيَّة.
ثانيًا: أسباب تتعلَّق بالأفلام الأجنبيَّة:
1- الجودة العالية التي تمتاز بها هذه الأفلام. خاصَّةً من حيث الفنيَّات؛ حيث تتوفر لها إمكانات ضخمة لعمل هذه المحتويات الفيلميَّة، والتي لا سبيل إلى توفُّرها في السينما العربيَّة. مما يجعل هذه الأفلام على درجة عالية جدًّا من فاعليَّة الإبهار؛ خاصةً للمواطن العربيّ غير المُعتاد على هذه الجودة.
2- محتوى الأفلام الذي يعرض حيوات مُختلفة، وأنظمة حياة مُغايرة، كما يعرض للمُدن، والملابس والأثاث الذي يجذب إعجاب الكثير من المُشاهدين العرب. في ظلّ ما يعانونه من فقر في بلادهم. أيْ أنَّ المواطن العربيّ يريد أن يرى ما يحلم به في مثل هذه الأفلام. وتقوم بدورها بتحقيق أحلامه.
ثالثًا: أسباب تتعلَّق بوسائل عرض الأفلام الأجنبيَّة:
1- كثرة وتزايد القنوات الفضائيَّة المُختصَّة بعرض الأفلام الأجنبيَّة. نرى هذا فور اطلاعنا على قائمة أيٍّ من أقمارنا العربيَّة الفضائيَّة. هذا من حيث العدد. ومن حيث الكيف فهناك قنوات أصبحت ذات تخصص في التصنيف؛ قنوات لأفلام الحركة والجريمة، وأخرى لأفلام الرعب، وثالثة لأفلام الرومانسيَّة. كما أنَّ هذا التزايد شمل تخصيص قنوات لسينمات معينة؛ مثل تخصيص قنوات للسينما الهنديَّة أو الإيرانيَّة.
2- الانتشار الواسع لمواقع سرقة الأفلام الأجنبيَّة. أو ما يُعرف بـ”مواقع القرصنة”. فهناك عشرات من هذه المواقع في الفضاء الإلكترونيّ. وهذه المواقع تمتاز بأنَّها تعرض مختلف أصناف الأفلام، من حيث الجودة، ومن حيث التصنيف الرقابيّ.
رابعًا: أسباب تتعلق بالدعاية للأفلام:
كانت لهذه الأسباب فضل كبير في شُهرة الأفلام، وفي إيصال الجمهور بمنصات العرض. ويتمثَّل أهمها في.
1- الآلة الإعلاميَّة الجبَّارة التي تسمَّى بوسائل التواصل الاجتماعيّ. والتي ساعدتْ في انتشار الأفلام عن طريق الحديث العفويّ عنها باللهجات العاميَّة، عن طريق اقتطاع صور من الأفلام وتركيبها في صورة نكات مصوَّرة. مما يدعو الناس إلى التساؤل عنها والرغبة في مشاهدتها ليكونوا على قدم المساواة في التلقِّي، أو لأن الفيلم أعجبهم.
2- استغلال منصة العرض الأضخم “اليوتيوب” من قِبَل شركات الإنتاج العالميَّة في الترويج المُموَّل للعروض التشويقيَّة لأفلامها. مما يضعها أمام الجمهور إجبارًا.
3- بعض التغطية النقديَّة لهذه الأفلام الأجنبيَّة، في مختلف منصات النشر الورقيَّة والإلكترونيَّة.
وأخيرًا تتمثل خطورة القضية هنا في أنها جزء من التلقِّي الذي يصنع وعي الإنسان، ويشكل كل ما فيه من حيث يدري ومن حيث لا يدري. والنوع الأخير منهما هو الأكثر حدوثًا، وهو الأشد خطورة. وهذا حديث يطول سأفرد له البحث قريبًا.