كيف تأثر فيلم “باب الوداع” بأفلام تاركوفسكي
قبل مشاهدة فيلم باب الوداع للمخرج المصري كريم حنفي، وبعد مشاهدة الإعلام الترويجي للفيلم قد تلمس من خلال من اول لقطة، أن صانع العمل متأثر كثيرآ بأعمال المخرج الروسي الراحل اندريه تاركوفسكي، وهو ما اكده المخرج نفسه فيما بعد في احدى الندوات حيث أكد تأثره كثيرآ بأفلام تاركوفسكي وبكتابه “النحت في الزمن”.
من البداية ونقطة السر للاهتمام بهذا العمل هي تاركوفسكي، وكيف لا، وانت ترى احد المخرجين الشباب الطموحين يتجرأ ويعمل على صنع عمل مختلف تمامآ عن ماهو سائد في السينما المصرية والعربية، كما انه يصنعه متأثرآ بمبدع سينمائي يعتبر في ظن الكثيريين من اعظم المبدعين السينمائين واكثرهم عمقآ ورهافة واحساس، وهو شاعر السينما المخرج الروسي أندريه تاركوفسكي.
تاركوفسكي، المتهم أحيانآ بصعوبة أعماله ونخبويتها، قد يصبح مهضومآ ومفهومآ، بل ومعشوقآ للكثيرين، من خلال مشاهدة افلامه وايضآ قرأة كتابه المهم (النحت في الزمن) والمترجم الى العربية بلغة رائعة للمبدع امين صالح، ويعد ذلك الكتاب من اهم المراجع ليست السينمائية.
عرض الفيلم حديثا بنادي سينما الجزويت (سينما جمعية النهضة) بالقاهرة، وبعد العرض أقيمت ندوة مع مخرجه كريم حنفي، واثنين من ابطاله هما شمس لبيب واحمد مجدي، ولم تخلو الندوة من ارهاق المخرج بأسئلة متوقعة ومكررة من نوعية، لماذا الحوار قليل؟، لماذا الفيلم صعب وبطيء؟، ماذا تريد ان تقول؟
في الحقيقة كانت إجابات المخرج على تلك النوعية من الاسئلة مقنعة، واذكر مثلآ قوله الشجاع إنه كان أراد عمل الفيلم الذي يريده، وانه يعلم جيدآ انه مختلف، وانه ليس حريصا على نجاحه الجماهيري بقدر حرصه على اخلاصه للغة البصرية وانتصاره للناحية الجمالية والفنية والسينما كوسيط ابداعي وفكري قبل ان تكون وسيلة للتسلية والترفيه.
عن الميزانسين
هناك مشهد في فيلم “باب الوداع” لطفل يقترب ليفتح باب غرفة نوم امه، ناظرآ اليها وهي بداخلها تجلس تمشط شعرها من امام مرآة تسريحة غرفتها، ومن ثم تتحرك الكاميرا حركة امامية من فوق رأس الطفل حركة تراك ان، ليخرج الطفل من الكادر وتدخل يد تمسك باب الغرفة ثم تغلقه من جديد، لتتحرك الكاميرا يسار بحركة بان، لنرى الطفل اصبح شابت، هذا المشهد بتفاصيله منقول حرفيآ من مشهد حلم الشاعر الروسي في فيلم (نوستالجيا) لتاركوفسكي، حين توقف الشاعر الروسي امام مرآة دولاب متروك بوسط احدى الحارات، وحين فتح الشاعر الدولاب وتغيرت زاوية الرؤية في المرآة اكتشفنا حينها ان من يقف ليس الشاعر بل دومونيكو الشخصية الرئيسية الاخرى في الفيلم، في محاولة ناجحة من تاركوفسكي لدمج الشخصيتين مع بعضهما بهواجسهما وصراعتهما الداخلية المتشابهة.
لم يكتف كريم حنفي بنقل بعض او محاكاة او تقليد او نقش بعض ميزانسين تاركوفسكي، ولكن ويالدهشة، اكاد اجزم ان كل كادر وكل حركة وتصميم للمشهد في “باب الوداع”، منقول حرفيآ من افلام تاركوفسكي.
لا يقتصر الأمر على التأثر بأسلوب مخرج ومبدع ما، فتاركوفسكي نفسه كان قد تأثر بمخرجين عدة، منهم برجمان وكيروساوا وبونويل وغيرهم، وقد ترى احيانآ بعض التشابه في التكوينات، لأن سينما تاركوفسكي تتميز بالأصالة والجدة، والسؤال هل نرى تلك الاصالة في فيلم باب الوداع؟ الجواب في ظني هو بالنفي، فـ “باب الوداع” عبارة عن مجموعة من الاسكتشات المنقوشة حرفيآ من افلام تاركوفسكي، وادعو الجميع لمراجعة افلام تاركوفسكي للتأكد من ذلك.
هناك مشهد آخر للأطفال وهم يجرون في حالة رعب وهرج في ممر يؤدي إلى أحد الابنية، وهو ميزانسين منقوش من اخر افلام تاركوفسكي، أي فيلم “القربان”، والمشهد الاصلي مكون من مجموعة من الاشخاص يجرون متخبطين في رعب وهرج ايضآ.
هناك أيضا مشهد المقابر وتجمع النساء، وهو منقوش من مشهد تجمع النساء بالكاتدرائية في فيلم “نوستالجيا”، جلوس الام امام المرآة ايضآ من مشهد للمترجمة اوجينيا وهي جالسة في غرفة الشاعر الروسي في فيلم “نوستالجيا”، التكوين والغرفة وسرير النوم منقوش من نفس الفيلم.
مشهد الشموع المحترقة امام البورتريه، حركة الكاميرا العرضية المستمرة المتبادلة من الطفل الى الشاب، منقوش من مشهد الشاعر الروسي من داخل منزل دومونيكو من نفس الفيلم، ومشهد اخر لعائلة الشاعر من امام منزله الريفي.
التيمة الاساسية لموسيقى فيلم باب الوداع، (مع العلم ان مؤلف موسيقى الفيلم هو راجح داود) منقوشة ايضآ من موسيقى ادوارد ارتيميف في فيلم ستالكر لتاركوفسكي، ماذا يحدث هنا؟
كل شيء منقوش، لا يوجد في الفيلم ميزانسين اصيل وجديد، ( للأسف ليس لدي نسخة من الفيلم لأسترجع منها لقطة بلقطة وحتى اعرض تلك المنقوشات واحدة تلو الاخرى، ولكن كل ماكتبته يعتمد على ذاكرتي من مشاهدة للعمل مرة واحدة فقط.
لقد نسى او تناسى صانع عمل “باب الوداع”، قولآ لتاركوفسكي عندما يغرد حرفيآ في كتابه “النحت في الزمن”، بتلك الكلمات والتي هي من ذهب لمن يريد ان يتعلم من تجربة الرجل، فهو يقول في صفحة العاشرة “ليس للميزانسين الحق في أن يتكرر، تمامآ مثلما لا يتشابه شخصان ابدآ، حالما يتحول الميزانسين الى سمة، الى كلشيه مفهموم، فإن كل شيء، الشخصيات، الأوضاع، الحالات السيكولوجية،.. يصبح عندئذ وهميآ وزائفآ”.. تمامآ كـ “باب الوداع”.
عنصر الزمن
عنصر الزمن فيما يسمى السينما الشعرية له منطق خاص ومختلف عنه في الافلام الرائجة التي تعتمد في بنائها على حبكة تمتاز بالوضوح الصريح، لا تتطلب من المتلقي جهدا وتركيزا كبيرين لفهم العمل ومعايشته، السينما الشعرية او منطق الشعر في السينما يعمل في الاساس على مشاركة المتلقي في اكمال بناء العمل بنفسه، كل منا حسب تجربته الخاصة، في الاساس هي تفرد مساحة كبيرة للتعمق والتأمل فيما يجري امامنا، فعنصر الزمن في السينما الشعرية وخاصة في سينما تاركوفسكي يعتمد في الاساس على محاولة الامساك بالزمن، او النحت في الزمن، وكما يقول تاركوفسكي في نفس الكتاب: “الغاية هي ان تختار وتربط معآ اجزاء من الواقعة المتعاقبة، وان تعرف وترى وتسمع بدقة ما يقع بينها، وأي نوع من القيود توحدها وتجعلها متماسكة..هذه هي السينما”.
متماسكة؟ يالها من كلمة واضحة، لن تجدها ابدآ في “باب الوداع”، ففيه يكون مطلوبا من المتلقي ان يشاهد مجموعة من الفقرات او الشذرات المتفرقة لعدت دقائق تنتهي في بعض الاحيان بموسيقى عالية ومفتعلة مع اختفاء تدريجي، وهي فقرات بدون اي ترابط او حدث (ليس بالضرورة في سياق حبكة تشويقة)، دون أنتجعلنا تلك الفقرات نعيش مع الشخصية، ولكنها سواء من الزمن الواقعي او الزمن النفسي الميتافزيقي (التخيلي) او الاحلام، لم تستطع ولو للحظة واحدة ان تصنع حالة من التعاطف او التأثر مع الشخصيات ومعاناتها، لم تستطع كأي عمل ابداعي عظيم ان تخلق شيئا جديدآ عند المتلقي، او تترك لديه اثرآ يذكر او اكتشافا ما قد يترك بصمة ما او لمسة ولو صغيرة في نفسه (مع العلم ان الفيلم من المفترض انه عن الموت) وهيو موضوع شائك عند كل انسان، فقط انتظر بعد نهاية المشاهدة ليحضر اليك صانع العمل ويبدأ في سرد تصوراته ومقاصده، ( وهل العمل الجيد يحتاج الى تلك التفسيرات)!
الزمن لدى صانع العمل ليس له اي قيمة تذكر، ليس موجودا من الاساس، وكأن الانسان يحيى حياة عشوائية ومبهمة طائرآ في الفضاء بلا جاذبية، كائن هلامي بل زمن ومن حوله تسبح الأرواح (وان كان الانسان يتمنى ان يعيش مثل تلك اللحظات)، اليس الانسان يعيش زمنا واقعيا؟، او زمنا تخيليا (احلام يقظة وشرود)؟، او زمنا غير معقول عندما يحلم؟، تلك هي الازمنة التي كان يستخدمها تاركوفسكي ويصنع بها اعماله الخالدة، تشكيل الزمن ونحته كنحات التماثيل، ولكن تاركوفسكي مع كل ذلك يخلق من النحت في الزمن حالة مؤثرة تثير النفوس وقد تغيرها الى الابد.
مشكلة الزمن او السرد الزمني في “باب الوداع” لا تبتعد كثيرآ عن مشكلة الميزانسين، وتفسير ذلك ان صانع العمل بانشغاله واهتمامه بنقل ونقش من افلام تاركوفسكي، أصبح رغمآ عنه لايستطيع دمج واذابة تلك المشاهد في وحدة منصهرة متماسكة تصنع فيلمآ، وذلك لابتعاد صانع العمل عن الاهتمام باصالة الموضوع واصالة الميزانسين ومن ثم عنصر الزمن، ومحاولة اخراج مضمون عمله من خلال مجموعة من الاسكتشات الجاهزة، وهوما أضر كثيرآ بعنصر الزمن نفسه.
ايجابيات التجربة
لكل تجربة ايجابيات، وفي ظني أن تجربة باب “الوداع” لكريم حنفي (على حالها) مليئة بالايجابيات، اول تلك الايجابيات ان صانع العمل لديه رغبة واضحة وملحة في صناعة سينما جادة، تلمس ذلك ليس فقط من خلال شكل عمله المختلف، ولكن من احاديث المخرج وايضآ صديقه واحد ابطال العمل الممثل والمخرج الشاب احمد مجدي، فلديهما طموحات جادة وايمان بأهمية وجدية دور الفن في حياة الانسان ومجتمعه، وهو أمر جيد.
نقطة ايجابية اخرى هي، صورة الفيلم، وفي ظني انها كانت صورة جيدة بالرغم من استخدام صناع العمل للكاميرات الديجيتال، ولكن كانت الصورة سينمائية ومقبولة الى حد كبير، لذا يجب الاشادة هنا بالتصوير والإضاءة وبحركة الكاميرا وصبر صانع العمل وطاقمه على تنفيذ المشاهد الصعبة والمركبة، كما انه على الرغم من كل ما ذكرته مسبقآ عن نقش التكوينات من افلام تاركوفسكي، لكن تكوينات العمل فنيآ وتنظيميآ كانت جيدة جماليآ، وقد تلمس بها موهبة لدى صانع العمل وخاصة انه كان منسق المناظر له، وهو ما يجب ان يعمل على استغلاله مستقبلآ في صناعة اعمال اكثر اصالة وذاتية له.
لقد ألقى كريم حنفي، وبعيدآ عن قيمة العمل فنيآ، بحجر في مياه راكدة، ونتمنى ان يأتي من بعده مجموعة من الشباب المبدعين، ليعملوا على جريان تلك المياه وتدفقها، لنرى اعمالا جيدة تهتم بفن السينما كوسيط ابداعي قبل ان يكون وسيلة للتسلية.