كيارستمي في “24 إطارا”: البحر عند أطراف أصابعنا
إحدى الصفات المميزة للسينما البطيئة أن هناك عدداً من الأفلام، خصوصاً الأفلام التجريبية، تستجوب الاختلاف بين التصوير الفوتوغرافي والسينما. الفن السكوني وفن الصورة المتحركة يتفاعلان ويخلقان جاذبية معينة لا تستطيع أن تمتلكها غير تلك الأفلام.
في بداية فيلم “24 إطاراً” 24 Frames (2017)، يلاحظ عباس كيارستمي “أنني دائماً أتساءل إلى أي مدى يصبو الفنان أن يرسم واقع المشهد. الرسامون يأسرون إطاراً واحداً فقط من الواقع، لا شيء قبله ولا شيء بعده”.
الصور المتحركة ساعدت في جعل الحياة المسجلة أكثر واقعية. السينما منذ بداية نشوئها لقيت ترحيباً عندما خلقت نسخة حقيقية من الواقع. السينما أصبحت امتداداً للتصوير الفوتوغرافي. وبإمكانها أن تذهب إلى مدى أبعد. الحركة وحدها كافية لجعلنا نصدّق أن ما نراه حقيقي، أو هكذا يبدو. إن كيارستمي، المصور الفوتوغرافي والمخرج السينمائي، يضبّب الحد الفاصل بين السينما والتصوير الفوتوغرافي في العديد من أعماله، وبالتالي يطرح الأسئلة بشأن طبيعة كلا الشكلين الفنيين.
مع “24 إطاراً”، السؤال يصبح أكثر إلحاحاً. إنه ليس فيلماً بالمعنى المتعارف عليه، وهو أيضاً ليس تصويراً فوتوغرافياً. إنه سؤال. تحديداً، 24 سؤالاً يجعلنا ننساق نحو حلم يقظة.
أغلب لقطات كيارستمي هي مناظر طبيعية شتوية، كأنها تنتسب إلى أرض الأحلام، أرض بعيدة، آمنة، مع ذلك هي مهدِّدة. لقطات، ساكنة، توحي بالموت. فقدان الحس، الصمت، التأمل. لكن الموت يوحي بالحياة. كل موت يخلق الحياة من نواح أخرى. إنها دائرة سرمدية. لا شيء يموت بشكل نهائي. وبالتالي فإن المشهد، أحلام اليقظة، جميلة، ثاقبة مثل أعين أفراد العائلة في صور فوتوغرافية من عهد مختلف، يبدأ – هذا المشهد – في التحرّك. الثلج يتساقط. ندف الثلج تهب في اتجاهنا. الريح تعصف. الأيّل يعدو عبر المروج بعد أن سُمع دويّ طلقة. طلقة في البعيد. بعيداً، مع ذلك هو قريب جداً. المشهد الهادئ المسالم تعمّه الفوضى. الطلقة تثير السخط، تصدم، تقلق السكون. صدمة الطلقة الموجهة نحو الأيّل هي مؤذية وجارحة. فما الذي حدث؟
هل هذا حقيقي؟ هل انتابنا كابوس؟ هل الذي يتحدث هو لاوعينا؟
عالم كيارستمي متخيّل. إنها رحلة، رحلات عديدة، منبهات تجعلنا نفكر في طبيعة الصورة. وفيلمه يخلق 24 إطاراً لرحلة شامانية (إلى عالم محجوب) يقوم بها المتفرج مع المخرج.
الغربان تملأ الكادرات، وربما يذكّرنا هذا بطيور هتشكوك. لكن كيارستمي مختلف. هذا لا يشكّل تهديدا. غراب كيارستمي له علاقة بما هو روحاني، بالنبوءة. الحكمة، التحوّل، فعل التغيير. إنه مخلوق غامض والذي يحوّل الصورة الفوتوغرافية أو اللوحة إلى صورة متحركة. الغراب يجعلنا نسأل، يجعلنا نتساءل. إنه يستهل رحلة داخل أنفسنا.
البحر. لا نهائي، غاضب، هائج. لكنه أيضاً يطهّر. بحر كيارستمي محطة مهمة في رحلته نحو اللاوعي. المطر ينهمر، الريح تعصف. إنه مشهد متوعّد، مهدّد، مع ذلك هو مهدّئ. البحر مكان بلا تخوم، بلا حواجز. مكان يحرّر عقولنا، يسمح لنا بالغوص في حلم اليقظة والذهاب أينما نريد. هذا أيضاً يعد رحلة. رحلة شخصية إلى مكان حيث نظن أن علينا التواجد فيه. رحلتنا تصبح غايتنا. إننا نسافر عبر ذكرياتنا.
الصور الساكنة، كما يقول كيارستمي، لا تأسر إلا إطاراً واحداً من الواقع. “24 إطاراً” يتألف من 24 قصاصة، 24 صورة ذهنية، 24 محطة في رحلة نقوم بها بوداعة. إننا نطل من خلال النوافذ المفتوحة، الأبواب المفتوحة. مناظر طبيعية والبحر عند أطراف أصابعنا. “24 إطاراً” هو دعوة، يد ممدودة نحونا. “تعالوا معي”، يقول الفيلم، “دعوني أرشدكم”.
ليس هناك أي فيلم آخر يكون انفتاحه الضمني فسيحاً هكذا، محرّراً هكذا، فاتناً هكذا، وشخصياً هكذا. الفيلم لا يسمح بأي رفض. هو هناك ليرافقك في رحلتك.
المصدر:
موقع The Art(s) of Slow Cinema