“كل شيء هادئ على الجبهة الغربية”.. عندما تنصهر المفاهيم في ساحات الحروب

د. ماهر عبد المحسن

إن قادة الحروب وصانعي القرارات لا يخوضون الحروب بأنفسهم، وإنما يجلسون في مكان آخر، بعيدا عن ميادين القتال ونيران المدفعية، ليس هذا فحسب، بل إنهم يمارسون حياتهم اليومية بشكل طبيعي من حيث المأكل والملبس والمكاتب المكيفة. فالحروب الحديثة تختلف عن الحروب القديمة التي كان يتقاتل فيها الجنود بالسيوف ويتقدمهم القائد في ساحة المعركة كما قرأنا، وشاهدنا سينمائيا، عن خالد بن الوليد والناصر صلاح الدين، وغيرهما.

القادة في الحروب الحديثة يشبهون المدراء في الشركات والمدربين في الملاعب الرياضية، الذين يضعون الخطة ويصدرون التعليمات من أماكنهم التي تفصلها مسافة عن الحدث، لكنهم لا يشاركون فيه فعليا! وهذه المفارقة بين من يصدرون التعليمات ومن يقومون بالتنفيذ، بين من تتوفر لهم أسباب الرفاهية ومن يحرمون أسباب الحياة الطبيعية هي الإضافة ذات الأهمية التي قدمها إدوارد بيرجر مخرج فيلم “كل شيء هادئ على الجبهة الغربية” على الرواية التي كتبها إيريك ماريا ريمارك عام 1929، وكانت تحمل نفس الاسم.

الفكرة الأساسية التي كان يرمي إليها الكاتب هي التحذير من ويلات الحروب، خاصة أنه كان يكتب من واقع تجربته الشخصية كجندي ألماني خاض الحرب العالمية الأولى التي راح ضحيتها 17 مليونا من الأشخاص.

وبالرغم من أن الفيلم قد حافظ على هذه الفكرة إلا أن المسألة ذات الأهمية الخاصة إنما تكمن في تلك الأخلاقية التي حرص ريمارك على إبرازها في ساحات القتال، وهي أخلاقية تجافي منظومة القيم التي تحكم الحياة المدنية.

والوقوف في مواجهة الموت من شأنه أن يغير الكثير من المفاهيم التي كان يظنها الإنسان من الرسوخ بحيث لا يجوز خرقها، فتحت وابل القنابل يمكن لسروالك أن يسقط أو تبول على نفسك دون أن تشعر بالحرج، كما يمكنك أن تسرق أوزة من حظيرة أحدهم كي تسد جوعك أو تقيم علاقات عابرة مع نساء لا تعرفها من أجل إشباع رغبة في الحياة أوشكت نيران الحرب على التهامها!

إن الجندي في المعركة يمثل حالة فريدة من الوعي الذي يجمع بين قيم المدنية التي تربى عليها وقيم الحرب التي فرضتها تجربة العيش على حافة الاحتمال بين الموت والحياة، فالعمر لحظة كما رصدها ريمارك في روايته وكما عبّر عنها يوسف السباعي بعده بنحو نصف قرن في رواية تحمل نفس الاسم.

والخطاب الحماسي الذي ألقاه ناظر المدرسة على مسامع الطلبة، صغار السن، حول البطولة والوطنية في الفيلم، وأحاديث الناس في النوادي وسهراتهم الاجتماعية حول المعاني نفسها في الرواية ما هي إلا عالم مثالي موازي لا يتقاطع مع عالم الحرب بأي نحو من الأنحاء.

وقد نجح السيناريو في اختيار مجموعة من الشباب تشع أعينهم ببريق الحياة، وترتسم على محياهم ضحكات ملأي بالأمل حتى أنهم يذهبون إلى حياة الجندية بروح من المرح توحي بأنهم ذاهبون إلى رحلة ترفيهية، غير أن كادرات بيرجر العنيفة لم تمنحهم مزيدا من الوقت قبل أن تصدمهم بالحقيقة المروعة: أنهم على موعد مع الموت!

يدرك باول باومر (فيليكس كامرير)، الشخصية الرئيسية في الفيلم، هذه الحقيقة عندما يعثر على نظارة صديقة مدفونة في الوحل في واحد من مشاهد البداية، وعندما يرى بعيني رأسه صديقه الآخر في مشهد تال وهو يموت متفحما بفعل نيران الأعداء الذين لم يستجيبوا لتوسلاته المهينة بعد أن وقع في الأسر، ثم بعد ذلك يتوالى السقوط المروع لباقي الزملاء مع مرور أحداث الفيلم الدامية.

وبروح لا تخلو من براءة، يحاول شباب الجنود التمسك بأي شيء من ملامح الحياة حتى لو كان منديلا معطرا تركته فتاة مجهولة مع أحدهم أو صورة لفنانة فاتنة معلقة على الجدران في ساحة مقفرة لا أثر فيها لأحد! إن المفارقة الصارخة الت بين العقيدة العسكرية لدى القادة، وبين براءة الشباب الذي يقاتل استجابة لشعارات فوقية، تفصح عن نفسها بقوة في مشهد يصور أحد القادة جالسا على مائدة طعام باذخة، يطعم كلبه المقعي إلى جواره، ويحكي لزميل له عن بطولات الأب الذي خاض حروبا ثلاثة تحت قيادة بسمارك وعاد إلى بلاده منتصرا، وهو يتساءل ماذا يفعل الجندي في حياته إذا لم يحارب؟

وهو نفس المنطق الذي دفع بهذا القائد إلى إصدار التعليمات بمواصلة القتال قبل موعد إيقاف إطلاق النار بساعات قليلة ما أدى إلى مزيد من الجرحى والقتلى، فالقائد الذي يؤمن بهذه العقيدة لا يرى معني لحياة الجندي دون قتال، لأنه لا مهنة أخرى يجيدها سوى الحرب.

وهذا على العكس من الجنود الصغار الذين يخوضون الحروب تنفيذا لتعليمات القادة، فمنهم المزارع ومنهم الصانع ومنهم المدرس ومنهم الموسيقي ومنهم الشاعر، فحياة الجندية واجب مؤقت يؤديه الشاب ثم يعود مرة أخرى إلى الديار لمواصلة حياته المدنية التي رسمها لنفسه وتلقى التعليم لخوض غمارها.

يكشف الفيلم، في أكثر من مشهد، كيف أن صلف القادة وكبرياؤهم الزائف يمكن أن يتسبب في مقتل آلاف الجنود على نحو يخلو من أي شعور بالإنسانية، فـ “كل شيء هادئ على الجبهة الغربية” تقرير عسكري يعني بكل بساطة، أن كل شيء قد مات، ولم يتبق سوى صمت مطبق وأشلاء مبعثرة هنا وهناك.

الحرب تغير مفهوم الإنسان ليتحول الجندي إلى سترة عسكرية وخوذة وحذاء يرتديهما آخرون بعد موت الجندي الأول، وقد عبّر أحدهم عن هذا المعنى قائلا: “أنا مجرد زوج من الأحذية مع بندقية”. فالجندي في ميدان القتال مجرد رقم أو لقب أو خوذة لامعة تستهدفها رصاصات الأعداء، حتى الفلسفات الشعاراتية التي يرددها القادة وأولو الأمر، صباح مساء، تتحول لدى الجندي إلى فكرة وحيدة مسيطرة تحت وابل النيران: أن تعيش رغم أي شيء!

يتضح ذلك في مشهد الجنود الألمان حين يقتحمون واحدا من خنادق الفرنسيين وينجحون في القضاء عليهم جميعا، ثم ينقضّون على الأطعمة التي تركوها ليأكلوها بنهم شديد، وكأن شيئا لم يحدث!

فكرة القتال إذن لم تعد تعبيرا عن الدفاع عن الوطن، لكن دفاعا عن النفس في لحظات استباقية، إما يموت فيها الجندي أو يموت العدو. وحتى فكرة العداء نفسها لم تعد ذات معنى، لأن الجندي لا يقاتل أعداء حقيقيين، لكن يقاتل الفكرة أو الرمز، ولا يوجد هناك تعبير أكثر بلاغة عن هذه الفكرة مما كتبه ريمارك في الرواية على لسان أحد الجنود، ونقله بيرجر حرفيا، وبنحو مدهش، في الفيلم عندما قال:

“أنا لم أطعنك وإنما طعنت هذه الفكرة المخيفة التي تسلطت علي، فكرة المباغتة والمبادأة.. لكنني أرى الآن وللمرة الأولى أنك إنسان مثلي.. كنت أفكر من قبل في قنبلتك اليدوية، وفي حربتك، وفي بندقيتك.. أما الآن فلست أرى إلا زوجتك -أو أمك- ووجهك وزمالتك.. اغفر لي أيها الزميل واصفح عني، فنحن لا نفتح أعيننا إلا بعد فوات الأوان”.

إنها المرة الأولى التي يلتقي فيها باول، عن قرب، بواحد ممن جعلتهم آلة الحرب أعداء دون سابق معرفة، فقد اعتاد على القتل دون تمييز، كما يحدث في ألعاب الكومبيوتر الآن، لكنه في تلك اللحظة يجد نفسه وجها لوجه أمام إنسان مثله بلفظ أنفاسه الأخيرة، وعندما يحاول إسعافه، تلبية لنداء الإنسان الذي بداخله، يعثر في سترته على بطاقة للهوية تشير إلى أنه عامل طباعة، وصورة عائلية تجمع بين زوجته وابنته الصغيرة!

رواية “كل شيء هادئ على الجبهة الغربية” التي نشرت عام 1929، وكانت تصور أهوال الحرب العالمية الأولى، بيع منها مليونان ونصف نسخة خلال ثمانية عشر شهرا، وترجمت إلى معظم لغات العالم، وتحولت عام 1930 إلى فيلم سينمائي حصل على جائزتي أوسكار لأحسن فيلم وأحسن إخراج، لكنها فشلت في منع قيام حرب عالمية ثانية راح ضحيتها  سبعين مليون إنسانا.

فهل تنجح النسخة المعاصرة من الفيلم، التي حصلت على أربع جوائز أوسكار، في أن تمنع قيام حرب عالمية ثالثة ربما يروح ضحيتها أكثر مما راح في الحربين السابقتين؟

ربما تكون الإجابة رهن الاحتمال، لكن المؤكد أن قوة الفن أضعف كثيرا من الغباء الإنساني!

Visited 6 times, 1 visit(s) today