قراءة فيما وراء أزمة “آخر أيام المدينة”


أيهما استبعد الفيلم من القاهرة السينمائي.. المنافسة أم الرقابة؟!

   لايزال كُثر في الوسط السينمائي المصري يتساءلون عن الأسباب الحقيقية وراء منع أو استبعاد فيلم “آخر أيام المدينة” من مسابقة مهرجان القاهرة السينمائي الدولي 15-24 نوفمبر الجاري، باحثين عن مبرر مُقنع لرفض المسؤولين فيه من إدراجه ضمن أي برامج موازية وخارج المسابقة الرسمية.

الأمر لم يتوقف عند حدود التساؤل وانما تجاوزه بوضع سيناريوهات عدة تحاول تفسير هذا الرفض المتعنت والإصرار على الاستبعاد بشكل مُجحف يُخالف المنطق والعقل. البعض مثل الناقد طارق الشناوي –عضو اللجنة الاستشارية العليا للمهرجان القاهرة – خرج ليُعلن في الصحف أن “الحكاية فيها إن”، متسائلاً: هل هى الحقيقة تماما أم أنهناك أشياء أخرى لم يأت بعد أوان إعلانها،” وهو تساؤل يشي بوجود معلومات ربما تكشف عن وجود أياد خفية لعبت دورها في منع عرض فيلم المخرج المصري المستقل تامر السعيد، “، وهو أحد الاحتمالات التي طرحها صناع الفيلم في بيانهم الأخير: “استنتاجنا الأخير هو أحد أمرين؛ إما أن ادارة المهرجان تطبق معايير مزدوجة بشكل واضح وصريح على حساب فيلمنا، أو أن هناك سببًا آخر غير معلن للاستبعاد لا تُفصح الادارة عنه. إن اصرار ادارة المهرجان على استبعاد الفيلم بدون ذكر أسباب عادلة أو منطقية أدي إلى فتح باب التساؤلات عن للأسباب الحقيقية وراء القرار، وما إذا كان قد مورس عليها أي ضغوط لتستبعد الفيلم؟ هذا ليس رأينا فقط بل هو رأي كثيرين ومنهم من هو قريب من المهرجان نفسه”

.

سيناريو الرقابة

   “هل للأمر علاقة بالرقابة؟” “هل مضمون الفيلم به شيء يُحرك الجهات الرقابية؟” تساؤلات تبادرت إلى الأذهان منذ بدأت الأزمة إذ كان هناك دائما سؤال يتكرر بين المثقفين والسينمائيين وحتى على صفحات الميديا بمختلف أشكالها المقروءة والمرئية، لكن إذا كان الأمر كذلك فلماذا تحركت الرقابة – فجأة – بعد شهر ونصف من الإعلان الرسمي للمهرجان الذي أكد فيه ضم “آخر أيام المدينة” للمسابقة الرسمية؟! لماذا جاء الرفض مباشرة بعد عرض الفيلم بمهرجان لندن الذي شارك فيه أيضاً فيلم “يوم للستات” لكاملة أبو ذكري والذي أنتجته وشاركت في بطولته الهام شاهين والذي ينافس هو أيضاً على جوائز المسابقة الرسمية بمهرجان القاهرة السينمائي الدولي إلى جانب كونه فيلم الافتتاح؟! وجدير بالذكر أن المنتجة وإحدى بطلاته وموزع الفيلم حضروا عرض الفيلم بمهرجان لندن بصحبة بعض أصدقاء المنتجة والممثلة الشهيرة.

   التساؤلات السابقة عن الرقابة كانت إجابتها المطروحة على الملأ: أنه لا توجد أسباب رقابية، وأن الرقابة لم تشاهد الفيلم بعد. أما في الكواليس فانقسمت الآراء بين مجموعة تُؤكد الرأي السابق، وثانية تطرح شكوكاً على أن للرقابة علاقة بالمنع والاستبعاد، وكانت حُجة أصحاب هذا الرأي هو صمت المسؤولين بالمهرجان وتحملهم لكل هذا النقد والهجوم الذي بلغ أن وصفهم أحد النقاد الكبار – والذي سبق له رئاسة المهرجان – بأن عملهم بهذا الأسلوب واستبعادهمللفيلم المصري “يُخالف الأصول المهنية”، فلماذا تحملوا كل هذا النقد من دون أن يُقدموا حججا منطقياً أو برهاناً يتسق والعقل يُبرر لجؤهم للتمييز المتعسف ضد الفيلم المصري؛ فأي الرأيين يُعبر عن الحقيقة، هل حقاً الإصرار على قرار الاستبعاد يتعلق بـ”جهات رقابية ما”أرادت ألا تُسفر أو تكشف عن وجهها؟ أم أنه مجرد حالة وتصرف غير مفهوم من شخصيات كان لابد لها أن تقاوم أي إجراءات أو محاولات للاستبعاد والمنع في سبيل ألا تتخلى عن مسؤوليتها الأخلاقية ووعودها تجاه الفيلم المصري وصُناعه حتى لو كان الثمن تقديم استقالتها احتجاجاً على مثل تلك الممارسات إن وُجدت؟ 

   لقطة من “آخر أيام المدينة”

لكن رئيسة المهرجان ماجدة واصف – في أحد تصريحاتها المتلفزة – مثلما أكدت بكلماتها على التمييز ضد الفيلم المصري واتباعها أسلوباً يعتمد على الازدواجية في تطبيق المعايير، نفت أيضاً أن يكون قرارها متعلقاً بالرقابة، مُؤكدة على أنها لا تعرف ما إذا كان مخرجه قد حصل على موافقة رقابية أم لا؟ من دون أن توضح “واصف” أن العرض بمهرجان القاهرة لا يشترط موافقة الرقابة، بل على العكس العرض على الرقابة للمصنفات الفنية والتدخل الرقابي من شأنه أن يكون له عواقب وخيمة على المهرجان القاهري من قِبل الاتحاد الدولي للمنتجين السينمائيين FIAPF، ومن هنا يمكن تخمين– في حالة صحة السيناريو الرقابي – لماذا لم يُفصح الرقيب عن وجهه لأنه في تلك الحالة سيكون قرار استبعاد الفيلم سببا في تعريض المهرجان القاهري للعقاب وربما سحب الشرعية الدولية منه مثلما حدث في أوائل الثمانينات، كما أنه في تلك الحالة كان لابد وأن يصطدم قرار الاستبعاد بالمجتمع الثقافي والسينمائي بأكمله وكان من الطبيعي أن يتضامن مع الفيلم أضعاف المناصرين له حالياً – محليا ودولياً – لأن الاستبعاد كان سيتحول إلى قضية تخص حرية الإبداع ومقص الرقيب.  

   قبل أن نُوضح مضمون الفيلم وبعض  النقاط التي قد تُثير حفيظة الرقابة لابد من توضيح أنه وفقاً للدراسات التاريخية فإن للرقابة أشكالاً عديدة بعضها يكون متنكراً وحريصاً على عدم الإفصاح عن نفسه، ومن ثم عندما تتم الإشارة للرقابة في حالة “آخر أيام المدينة” فليس المقصود بها جهاز الرقابة على الأفلام والمصنفات الفنية في شكله المباشر، لأن الأجهزة الرقابية عديدة ومتنوعة وبعضها غير معروف الشكل وغير معلن عنه، والتصاريح والموافقات بالعرض أو المنع لا تتوقف فقط على جهاز الرقابة في شكله المباشر.

  لماذا يبدو سيناريو التدخل الرقابي محتملاً؟ أولا؛ لأن المسؤولين بالمهرجان رفضوا تسوية الأمر بأي شكل من الأشكال، ورفضوا اقتراحات كبار المخرجين السينمائيين المصريين بالعرض خارج المسابقة أو بأحد البرامج الموازية، حتى أن المخرج والمونتير المصري أحمد عبد الله السيد كتب مقالاً مطولاً يحكي عن تجربة سابقة له مع المهرجان موضحاً أنه عندما رفضوا عرض فيلمه “ديكور” داخل المسابقة الدولية لأنه شارك بأحد المهرجانات، لكنهم في المقابل سمحوا له بعرض فيلمه خارج المسابقة، واقترح عبد الله أن يتم التعامل بالمثل مع “آخر أيام المدينة” حتى يُتاح للجمهور المصري مشاهدة الفيلم، ولتقليل خسائر المخرج الذي اعتذر للمهرجانات العربية الأخرى فأصبح منذ فبراير الماضي وحتى مايو المقبل لديه ستين دعوة دولية لعرض فيلمه لكنها تخلو جميعاً من أي مهرجان في المنطقة العربية التي خرج منها وهو ما يُؤثر سلبا على توزيع الفيلم الذي ينتمي للسينما المستقلة والخالي تقريبا من النجوم أي أنه سيواجه صعوبات جمة في توزيعه؟! 

   أما فيما يتعلق بمضمون الفيلم – والذي يُرجح سيناريو الرقابة – فهناك مشاهد قد تثير انزعاج بعض الجهات في مصر خصوصا في ظل الأوضاع الحالية المتزايدة السوء على الصعيد الاقتصادي وفيما يخص سقف الحريات، فالمخرج يرصد حصار تلك المدينة “القاهرة” بين شقي الأمن والتشدد الديني، وهو أثناء ذلك يُسجل عددا من المظاهرات المنتشرة في الشوارع المصرية قبل اندلاع ثورة 25 يناير والتي نددت بالتوريث والفساد في عهد مبارك، في ظل إحكام القبضة الأمنية ممثلة في سيارات الأمن المركزي المنتشرة في كل مكان والمحاصرة للمتظاهرين، والضرب المبرح الذي يناله أحد الشباب على أيدي رجال بزي مدني يوسعونه ضربا قبل أن يحملوه في سيارة للشرطة، إضافة إلى الهتافات المنددة بحكم العسكر: “يسقط يسقط حكم العسكر”  والمؤكدة على أحقية الشعب في التظاهر: “الإضراب مشروع مشروع، ضد الفقر وضد الجوع”… فهذه اللقطات كان يمكن لها أن تمر بسلام في أي فترة تاريخية سابقة حتى تحت دعوى التنفيث، لكن هل يُسمح لها أن تُعرض اليوم على الشاشات الكبيرة من دون اللجوء لاجتثاثها أو بترها؟!

الممثلة ومنتجة فيلم “يوم للستات” الهام شاهين  

السيناريو الثاني

أما السيناريو الثاني والمنتشر بقوة في الكواليس وطرحه البعض على الملأ – على صفحات التواصل الاجتماعي – فيضع احتمالا يتعلق بالمنافسة الشرسة التي جعلت المنتجة والممثلة الشهيرة تُصر على استبعاد فيلم “آخر أيام المدينة” حتى تطمئن على الجائزة، وهو الأمر الذي أصبح واضحاً للعيان بعد المداخلة المتلفزة لها التي أيدت فيها قرار الاستبعاد مستخدمة عبارات تبتز بها عواطف الجمهور مثل: “لازم شوية تضحية يا تامر علشان مهرجاننا” وعندما سألها المخرج: “تضحية بمن؟” لم تجبه واستطردت: لازم نعمل برستيج لمهرجان القاهرة، عاوزين نكبره، لأنه المهرجان بتاعنا وبيمر بظروف صعبة، فلازم نقف جنبه ونكبره، نحترمه وندي له وضعه.” ثم أضافت: “المهرجانات الكبيرة مثل كان لا تقبل أن يُعرض بها فيلم تم عرضه في أي مهرجان قبلها.” لكنها لم تقل لماذا تُطبق قواعد مهرجان “كان” على الفيلم المصري ويُستثنى منها الفيلم الأجنبي فيعرض ويشارك بالمسابقة الدولية إلى جوار فيلمها رغم أن بعض الأفلام الأجنبية عُرضت في 19 مهرجان سابق؟!

   اللافت في الأمر أن مخرجة “يوم للستات” كاملة أبو ذكري كانت مٌناصرة لحق فيلم السعيد في العودة للمسابقة، ووقعت على البيان المؤيد لذلك، اللافت أيضاً أن إحدى المشاركات في لجنة المشاهدة واختيار الأفلام بالمهرجان القاهري وهى المونتيرة والناقدة السينمائية صفاء الليثي هاجمت قرار الإدارة بالاستبعاد ودافعت عن حقها وحق زملائها في اختيار الفيلم مؤكدة أن الإدارة رفضت أن تمنحهم حق مشاهدة فيلم الافتتاح مُشيرة في أحد تصريحاتها على صفحات التواصل الاجتماعي أن “منتجة فيلم الافتتاح تحدثت باسم مصر وباسم المهرجان لتؤيد استبعاد الفيلم من المسابقة التي ينافس فيلمها على جوائزها، وأنها زايدت على تفضيلها لمهرجان مصر والتضحية بجوائز دولية من أجل مصر.”

  السيناريو السابق ربما يُؤكده تصريح أحد أعضاء اللجنة الاستشارية العليا للمهرجان والذي عبر فيه عن شكوكه بتدخل الرقابة، لكنه بدأ حديثه بأن “الحكاية فيها إن”، وأنه هناك أشياء لم يأت الأوان لذكرها.  

Visited 26 times, 1 visit(s) today