فيلمان فى مهرجان القاهرة عن “الموت الرحيم”
عرض مهرجان القاهرة السينمائى فى دورته السابعة والثلاثين فيلمين من الدانمرك يناقشان فكرة “الموت الرحيم”، لأولئك المرضى الميئوس من شفائهم. الفيلم الأول وعنوانه ” silent heart” أو “قلب صامت” هو الأفضل والأهم من كل الوجوه، فمخرجه هو بيل أوجست صاحب الأفلام الهامة مثل ” بيلى المنتصر” و”أفضل النوايا”، والسيناريو يجعل فكرة الموت فرصة لاكتشاف أفراد أسرة صغيرة لأشياء خفية عنهم، وعن الآخرين، كما أن أوجست يقود فريقا من الممثلين الممتازين، وقد فازت الممثلة بابريكا شين بجائزة أحسن ممثلة عن دور هايدى فى هذا الفيلم، وذلك فى مهرجان سان سباستيان.
أما الفيلم الدانمركى الثانى الذى يناقش فكرة الموت الرحيم فهو بعنوان in your arms” أو ” بين ذراعيك” . إنه العمل الروائى الطويل الأول لمخرجه سامانو أشيشى ساهلستروم، وقد عرض فيلمه لأول مرة فى مهرحان جوتنبرج، وفاز بجائزتى “أفضل فيلم من شمال أوربا”، وبجائزة النقاد الدولية “الفيبريسى”، ولكن العمل المميز بأداء بطله الرئيس، يعانى من مشكلة واضحة فى السيناريو، وهى عدم وضوح الشخصية النسائية، التى تلعب دورا هاما وأساسيا فى إنجاز فكرة “الموت الرحيم” لبطل الفيلم .
أسرار عائلية
فى فيلم “قلب صامت”، والتعبير يمكن فهمه أيضا بمعنى السكتة القلبية الناجمة عن منع وصول الأكسجين إثر تناول حبوب الإنتحار، يقدم السيناريو أبطاله وأسرارهم وسبب لقائهم معا بصورة قوية ومؤثرة. فى كل مشهد نكتشف جديدا، وتنقل إلينا من خلال براعة الممثلين مشاعر معقدة ومركّبة تدعو الى التأمل. لا تزيد القصة عن دعوة الأم إيستر وزوجها بول، لابنتيها ولحفيدها، ولرجلين مرتبطين بالإبنتين، ولصديقة عمرها. الدعوة تستهدف وداع إيستر التى قررت، بموافقة كل هؤلاء، أن تنتحر فى بيت الأسرة يوم الأحد، بعد أن أصيبت بشلل فى ذراعها الأيسر، من مضاعفات مرض ميئوس من شفائه، يؤدى فى مضاعفاته الى ضمور العضلات، وعدم القدرة على البلع، وشلل فى كل الأطراف. نحن إذن أمام عملية “انتحار رحيم” تتم بمباركة أفراد العائلة التى تجتمع فى منزل كبير، وسط طبيعة صامتة، تشهد على نهاية الأم.
ولكن السيناريو يبنى أحداثه، ويكشف عن أسراره شيئا فشيئا، وكأنه يرسم لوحة لشخصيات متنوعة، تتغير تصرفاتها بتغير ألوان المشاعر الإنسانية، ورغم كثرة الشخصيات إلا أنها قدمت بتفاصيل لا تنسى : الزوجة إيستر التى تبدو كسيدة رقيقة للغاية، تعشق أسرتها، ولكنها تعانى من خذلان الجسد، ورغم قوتها الظاهرة، إلا أنها تخاف الموت كلما اقتربت من ساعة الإنتحار، والزوج بول ، الطبيب الذى يوافق على قرار إيستر لمعرفته بأن حالتها ستتدهور سريعا، ولكنه يترك أمامها فرصة التراجع، والابنة الكبرى هايدى التى وافقت على قرار أمها، ولكنها تصارع فى داخلها رغبة فى الإحتفاظ بالأم، والابنة الصغرى سانى ، التى تبدو غير مستعدة على الإطلاق لكى تفقد امها، سان مضطربة ومكتئبة وتعتمد على أمها فى أدق شؤون حياتها، وعشيقها دينيس لا يمكن الإعتماد عليه، فهو يتعاطى الحشيش، ويبدو كطفل كبير، يحتاج لمن يرعاه، أما مايكل زوج هايدى فهو يؤمن بحق والدة زوجته فى اختيار الموت، ولا يعلن عن رأيه الخاص، وكأنه يشاهد حدثا يتعلق بأشخاص لايعرفهم، ويتفهم الحفيد المراهق يوناثان قرار جدته، وينشغل بالتواصل مع عالم افتراضى إليكترونى، بينما تودع ليزابيث صديقة إيستر صديقتها بتأثر شديد، وكأنها ستفتقد جزءا من نفسها.
ولكن الأمور لا تظل ثابتة أو راكدة، فالمفارقة التى يلعب عليها بيل أوجست فى أداء ممثلية هى ارتداء أقنعة الإحتفال، بينما يخيم على المكان شبح الموت. إيستر نفسها تمتلىء بالحنان والطيبة، وهى تصر على أن يكون الإحتفال أقرب الى عشاء عيد الميلاد الذى لن تحضره إذا انتحرت، بل إنها تقرر تدخين الحشيش، ومعها كل أفراد الأسرة، فتنحل عقدة الصمت، ويغنى الجميع ويعزفون، وتبقى سانى وحدها رافضة للقرار، بل إنها تقول لعشيقها، إنها ستبلغ الإسعاف إذا تناولت أمها الحبوب القاتلة، وفى أحد أجمل مشاهد الفيلم، تحتضن إيستر ابنتها الباكية سانى مثل طفل صغير، ولكن الأم لا تتراجع أبدا عن القرار.
هناك مزيد من الأسرار: هايدى تشاهد والدها وهو يقبّل ليزابيث، فتشك فى أنه غير عادل فى موافقته على قرار زوجته إيستر، هنا فقط تتراجع هايدى عن دعم قرار إنتحار الأم، فى حين بدأت سانى فى الرضوخ، ويبقى سر أخير يغير المواقف، عندما تقول إيستر إنها صاحبة فكرة تقارب زوجها مع أعز صديقاتها، حتى لا يعيش وحيدا بعد رحيلها.
ينتهى فيلم “قلب صامت” بمغادرة الضيوف للمنزل، لقد وافقوا تماما على قرار إيستر، التى تتناول الحبوب من يد زوجها بول، ويبقى هو وحيدا خارج البيت. ينحاز الفيلم بالطبع الى فكرة “الموت الرحيم”، ولكنه أعمق من ذلك بكثير، إنه عن جدل الموت والحياة الذى يحدد مصيرنا، عن العائلة وأفرادها، وعن العواطف الإنسانية المتقلبة ، وعن الإنسان الكائن المعقد والمرّكب، وعن حرية الإنسان فى أن يواجه ظروفه الخاصة، ورغم أن الكاميرا لا تخرج من البيت إلا فى مشاهد قليلة، إلا أننا لا نشعر بلحظة ملل واحدة، ويزيد التأثير مع قوة أداء الممثلين جميعا، ومع التوظيف الجيد للموسيقى فى لحظات محددة، وبطريقة مكثفة ومدروسة، بل إننا نظل حتى الدقائق الأخيرة فى حالة من الشك حول تنفيذ قرار الأم الغريب. ومثل “كارت بوستال”، تظل فى ذاكرتنا صورة صامتة لأشجار بدون أوراق، وكأنها حياتنا التى يعريها الموت، مثلما يعرى النفوس، والقلوب الصامتة.
لقطة من فيلم “بين يديك”
ملاك القتل
أما فيلم “بين ذراعيك” فهو أكثر خفة من الفيلم السابق، إذ أنه يحول ممرضة شابة من ملاك للرحمة، الى ملاك يساعد شاب مريض فى التخلص من حياته، ولأن الدانمرك لا توجد بها مراكز للموت الرحيم، فإن الفيلم يصور رحلة تقوم بها الممرضة، لمرافقة الشاب الى سويسرا، التى تسمح بمثل هذه المراكز.
الممرضة اسمها ماريا، جميلة و شابة فى سن الخامسة والثلاثين، جاءت من بلدها السويد لتعمل فى كوبنهاجن، وهى تعتنى بمريض ميئوس تماما فى شفائه يدعى نيلز. الشاب يبدو غريب الأطوار، يعيش طوال الوقت مع صوت الموسيقى الصاخب، ثم يحاول الإنتحار داخل حجرته بالمستشفى، ولكن ماريا تنجح فى إنقاذه. مرض الشاب ميئوس منه، إنه جليس لمقعد متحرك، فقد حتى قدرته الجنسية، ومن الواضح أنه يعانى أيضا من الإكتئاب. تعرف ماريا من خلال أم نيلز وعن طريق شقيقه أن نيلز يريد أن يذهب الى سويسرا، حيث حصل على موافقة أحد مراكز “الموت الرحيم” على استقباله، لقد قرر أن يتخلص من حياته نهائية، وبمساعدة آخرين، بعد أن فشل هو فى تحقيق ذلك. الأم والأخ يرفضان الفكرة، ولكن ماريا توافق على أن ترافق نيلز فى رحلة اختار فيها الموت، بعد أن فقد تقريبا كل قدراته الجسدية، وتحوّل الى بقايا إنسان.
تقود الرحلة الغريبة الثنائى نيلز وماريا الى التوقف فى مدينة هامبورج فى طريقهما الى سويسرا. فى المدينة الألمانية التى عاش فيها نيلز خمس سنوات عندما كان صحيح الجسم، حيث كان يعمل فى مجال إصلاح السيارات القديمة، ستكتشف ماريا أن نيلز له طفل صغير من صديقته الألمانية، وأن أم الطفل ترفض أن يعرف الابن الصغير والده الذى يقترب من الموت، ورغم فظاظة نيلز الواضحة، وميوله العدوانية ضد ماريا، وكأنه ينتقم منها جراء ما فعله معه المرض، إلا أن ماريا تتعاطف بشدة مع نيلز، وتتيح له فرصة رؤية ابنه للمرة الأخيرة. المفاجأة الأكبر فى انحياز ماريا الى جانب نيلز فى فكرته بالتخلص من حياته، بينما كنا نظن أنها وافقت على مرافقته، لكى تجعله يتراجع عن فكرته، وهو الأمر الأقرب الى منطق الشخصية.
فى سويسرا، يدخل نيلز مركز الموت الرحيم، المكان والأشخاص يتصرفون ببساطة كأنهم يستقبلون مريضا فى مستشفى. من الواضح أن ماريا ( الخارجة توا من حياة عاطفية فاشلة ) قد أحبت نيلز ، الذى ما زال مصمما على الموت. فى مشهد طويل هام، تجلس ماريا وهى تراقب نيلز الذى يشرب أولا سائلا يمنع مقاومة الجسم للدواء القاتل، ثم يشرب الدواء الذى سيجعله نائما، وبعد لحظات، ينسحب الأوكسجين من الجسم، فيموت نيلز، يحدث ذلك على خلفية الموسيقى التى أحضرها نيلز معه. فى النهاية تظهر ماريا وهى تلقى بنفسها فى الماء، فلا نستطيع أن نجزم بأنها تحاول الإنتحار، أو أن ما فعلته هو محاولة رمزية للعودة الى دوامة الحياة بعد أن تغيرت، وبعد أن أصبحت قادرة على الفعل. الحقيقة أن مشكلة سيناريو الفيلم فى أنه بينما تبدو شخصية نيلز المكتئب والعاجز واليائس والعدوانى واضحة وقوية، فإن شخصية الممرضة ماريا غامضة وضبابية، وغير مفهومة التصرفات، إذ من الصعب أن تتحول ممرضة أنقذت مريضها من الإنتحار، الى مرافقة تحضر جلسة موته الرحيم، والتى يحرص القائمون على المركز على تصويرها صوتا وصورة. لم تكن هناك أيضا مقدمات لتعلّق ماريا العاطفى بالمريض نيلز ، الذى يتعمد أن يكون شرسا وقاسيا معها، ولم نفهم بالضبط هل مشكلة ماريا فى الوحدة، أم فى الهجرة، أم فى فشلها فى حياتها الخاصة، أم فى عجزها عن الفعل، فى مقابل قدرة نيلز على الفعل، رغم عجزه البدنى؟! وحتى لو استنتجنا بكثير من الجهد شيئا ما عن ماريا، فإن ذلك لا يكفى لتتحول من تشجيع نيلز على الصمود (بسبب ما قد يكتشف مستقبلا من أدوية لعلاج حالته) الى مباركة ومشاركة فى اختياره للموت!
ولكن الفيلم يمتلك بعض العناصر الفنية المتفوقة حقا مثل أداء ممثله الرئيس بيتر بلوجبرج فى دور نيلز الصعب والمؤثر، إنه شخصية عاجزة جسديا، ومعقدة نفسيا فى نفس الوقت، كما أن ليزا كارلهد كان رائعة فى فى مشهد جلسة الموت الرحيم، ولكنها ظلت حائرة عموما بسبب الطريقة المشوشة التى رسمت بها الشخصية. كانت لها مشاهد جيدة، ولكنها لم تستطع أن تمنح الشخصية شكلا مفهوما ومتسقا. من العناصر المميزة أيضا التصوير، وقد اختار المخرج اللقطات القريبة جدا التى تكشف عن أدق التعبيرات فى وجوه منهكة ومتعبة، وغلب اللون الرمادى والأبيض على معظم المشاهد، بينما لجأ المخرج الى اللون الأحمر فى لحظات محاولة نيلز استعادة الحياة فى شوارع هامبورج الخلفية.
تظل مسألة “الموت الرحيم” معقدة فى أبعادها الإجتماعية والإنسانية والدينية والفلسفية والنفسية، وكل فيلم يعرضها من زاويته، ويترك لمشاهده حرية التأمل والتفكير، وليس هناك فن مثل السينما يستطيع أن يختبر البشر وأفكارهم فى تلك المواقف الصعبة، حيث الحد الفاصل البسيط بين حب الحياة، أو اختيار الموت.