فيلم “قانون السوق”..”ثمن” الأشياء و”قيمة” الإنسان

يمكننا أن نضع الفيلم الفرنسي La Loi du Marche أو “قانون السوق” للمخرج ستيفان بريزيه، ضمن أفضل الأعمال التى ترسم معاناة الطبقة العاملة، فى الدول الرأسمالية الغربية.

المنطلق هنا إنسانى واجتماعى وأخلاقى وليس أيدلوجيا. الفيلم حصل بطله فينسينت ليندون على جائزة أفضل ممثل فى مهرجان كان 2015.

صعوبة أداء ليندون البديع فى هذا التعبير المحايد الذى كان يرسمه على وجهه طوال الوقت، بينما هو يبحث عن عمل بلا جدوى، أو يستمع الى تعليقات وتقييمات من الآخرين حتى يفوز بوظيفة، أو عندما تحول الى مراقب وحارس يضبط الذين يسرقون فى السوبرماركت العملاق الذى عمل به، ويضيق عليهم الخناق قبل أن يعترفوا، فى كل هذه المواقف كان الوجه قناعا يخفى بركانا نشعر به ولا نراه، وقد نجح ليندون ببراعة فى الأمرين معا: أرتداء القناع المحايد، ونقل التوتر إلينا من بركان داخلى، يعانى منه طوال الوقت، وتعبر عنها لغة جسده.

تييرى الذى لعب دوره ليندون هو نموذج لكثيرين فقدوا وظائفهم فى سن متأخر، مما يصعب حصولهم على عمل بديل. فى الغالب لا يستطيعون أن يغيروا مهنتهم القديمة، ولا يمكنهم أن ينخرطوا فى برامح تدريب حديثة، كما أنهم مطالبون بالتزامات مالية مستمرة، وتسديد فواتير واقساط لا تنتهى.

تييرى أغلقوا مصنعه، فوجد نفسه عاطلا وهو فى العقد الخامس من عمره، لديه زوجة، وولد يعانى من صعوبات حركية وكلامية، لديه شقة يعيش فيها، والآن يجب عليه أن يبحث عن عمل، بعد أن كان يدير إحدى الماكينات.

رحلة عبثية

تبدو رحلة تييرى للبحث عن عمل عبثية، يتابع الفيلم فى بدايته لقاءات طويلة، يجيب فيها تييرى عن أسئلة مسؤولى التوظيف. هناك مشكلات كثيرة تتعلق بمدى قابليته للتدريب، يسألونه عن تفاصيل عمله السابق، فى لقاء عبر سكايب، لا نرى المسؤول، ولكن نرى رد فعل تييرى على الأسئلة، يحاول دوما أن يرتدى قناع الشخص المرن، الذى يمكن أن يقبل وظيفة لا تدر أجرا عاليا، إجاباته دبلوماسية ونموذجية، يقدم نفسه دائما باعتباره رجلا جادا، يتعمد المخرج بريزيه (المشارك أيضا فى السيناريو) أن يعطى تلك المقابلات المتكررة طابعا تسجيليا: حركة الكاميرا المهتزة، وعدم القطع إلا عند الضرورة، والوصول بممثليه الى هذه الدرجة الإحترافية، التى تشعرك أنهم يرتجلون، ويتكلمون بتلقائية، والتناقض بين وجه تييرى المحايد، ولغة جسده التى تعبر عن التوتر والقلق، كل ذلك منح الفيلم حيوية بالغة، وكأن الكاميرا تصور قطعة من الحياة، وكأن العدسات تختلس اللقطات اختلاسا، دون أن يشعر السائل، أو المسؤول.

يستمر هذا الأسلوب البصرى طوال الفيلم، سواء فى مشاهد منزل تييرى، وعلاقته مع زوجته، ومع ابنه بحالته الخاصة، أو حتى فى مشاهد تعلم تييرى الرقص، وكأنه يحاول أن يفرغ توتره ومعاناته الداخلية، فى مجهود حركى، يعيد إليه التوازن المفقود، وفى مشهد آخر مؤثر، نراه يرقص مع زوجته، وابنه فى المنزل. لكن هذا الأسلوب البصرى الذى يجعل الكاميرا تتلصص على شخصيات الفيلم، سيكتسب معنى أكثر بلاغة، عندما يعثر تييرى أخيرا على وظيفة مراقب وحارس فى أحد الاسواق العملاقة، التى يباع فيها كل شىء تقريبا.

ستنسجم حركة الكاميرا المتلصصة على بطلنا، مع أجهزة المراقبة التى يلاحظها تييرى، والتى  تتلصص بدورها على جميع مرتادى هذه الأسواق، إنها تسجل سكناتهم وحركاتهم، وتكشف أى محاولة لسرقة البضائع، سيتحول تييرى الى “عين” تراقب الجميع داخل المكان، هذه هى وظيفته الجديدة التى عثر عليها بعد طول صبر وإحباط، وبعد أن استمع فى هدوء لتقييم أشخاص عاديين، أحضروهم خصيصا لكى يقيموا إجابات الرجل، بينما يحاول هو دائما أن يتقبل كل الآراء، وأن يفتعل الثقة واللامبالاة وسعة الصدر.

ثمن العمل

لعل البعد الأعمق فى فيلم “قانون السوق” هو أنه فيلم عن العجز أو عدم القدرة على الفعل، وعن الإذلال والإمتهان النفسى، وعن الثمن الذى يمكن يدفع مقابل عمل ما.

تييرى ليس زعيما، ولا يدافع عن أيدولوجيا محددة، ولا نراه متحمسا لعمل إضراب مع زملائه، إنه الإنسان الفرد الذى لا تعنيه سوى أسرته الصغيرة، فى مقابل السوق الضخم الذى يباع ويشترى فيه كل شىء، سوق تتراجع فيه قيمة الإنسان، لأن الأيدى المستعدة للعمل، أكثر من الطلب عليها.

حصول تييرى على وظيفة المراقب، سيفتح له فرصة الحصول على قرض لا يتجاوز 2000 يورو، إنه لايريد سوى هذا المبلغ، مع أن لدى الموظفة سقفا للقروض أكثر من ذلك.

مشكلة تييرى لم تكن فى البطالة وحدها، ولكن فى إحساسه بالإمتهان، وفى تراجع شعوره بقيمته كإنسان، سواء فى بطالته أو عمله الجديد، ولذلك سينفعل لأول مرة، ويتخلى عن الوجه/ القناع، عندما يشعر بأن الرجل الذى وافق على شراء منزله ، يستغل حاجته وبطالته، ويريد أن ينقص الثمن الذى وافق عليه تليفونيا، هنا يعلن تييرى أمام الرجل وزوجته، أنه لن يبيع البيت.

المفارقة المؤلمة هى أن  وظيفة تييرى الجديدة ستزيد شعوره بالإمتهان والإذلال. ها هو العامل النشيط الذى كان يدير آلة، يتحول هو شخصيا الى آلة تتجسس على الآخرين، وتقيم كفاءته، بمدى قدرته على ضبط الآخرين، ها هو الرجل الذى كان يشعر بالضعف الإنسانى بسبب البطالة، يقوم هو نفسه بمحاصرة المذنبين، يراهم فى لحظات ضعفهم وعجزهم، يحاصرهم بالأسئلة حتى يحصل منهم على الإعتراف، بسرقة سلعة إضافية لم يسددوا ثمنها.

فى أحد أقوى مشاهد الفيلم، يعترف رجل بسرقة سلعة، يطلبون منه تسديد ثمنها، فيقول إنه لايمتلك المبلغ الضئيل، ولا يوجد فى المنزل أى نقود إضافية، نرى تييرى يتحرك بجسده، وكأنه قرر أن يسدد المبلغ نيابة عن الرجل، ولكن المخرج يقطع المشهد، ولايكمله، ليترك لنا مساحة للتخمين والشك فى مساعدة تييرى للرجل فى محنته.

تييرى سيقوم أيضا بتدريب موظفين آخرين على مهمة  المراقبة، وسيقوم بمراقبة زملائه داخل السوبرماركت. من خلال الكاميرات سيكتشف تلاعب زميلة فى تسديد حساباتها، السيدة فى منتصف العمر، وتعمل فى السوبر ماركت منذ عشرين عاما،. وهذه هى المرة الأولى (كما تدّعى)  التى تحتفظ لنفسها ببعض المكاسب المالية، ولكن أحدا لا يرحمها، ولكى يستمر تيييرى فى عمله ، لابد أن يكون يقظا فى كشف سرقات الزملاء أيضا، ولعلها فرصة لكى تتخلص الإدارة  من  بعض الموظفين، من أجل ضغط النفقات.

مسؤول الموارد البشرية يجتمع بالموظفين، يتحدث عن الموظفة المضبوطة وحياتها الخاصة، يقول للموظفين، ومعهم تييرى، إن المرأة كان لها ابن مدمن للمخدرات، ويبدو أنها كانت تحاول أن تحصل على المال من أجل الابن، فى المشهد التالى نرى قداسا على روح الموظفة، يترك لنا الفيلم كالعادة أن نخمن ما حدث لها، من الواضح أنها تخلصت من حياتها، بعد اكتشاف سرقتها، وفصلها من العمل.

تييرى الذى يحمل جهاز اللاسلكى، والذى يساعد ابنه على أن يحقق حلمه فى أن يكون طالبا متفوقا، تييرى الذى لم يعد عاطلا، سيكون مضطرا فى النهاية أن يواجه نفسه، وأن يراجع دوره كجاسوس ثم كشاهد على الآخرين: يترك مكانه فجأة، يخلع بدلة العمل، يضعها فى الدولاب الخاص به، يتجه الى سيارته، ينطلق بها فى نهاية مفتوحة تجعلنا نتساءل: هل سيترك عمله أم سيعود إليه تحت ضغط النفقات والقروض؟

هذا المنهج فى ترك مساحات للمتفرج يزيد من إشراكنا وتورطنا فى الشهادة على  غباء قوانين السوق، التى تتضاءل بسببها قيمتنا كبشر. ليس هدف الفيلم أن يتحول تييرى الى ثائر، أو أن ينفجر فى وجه من حرموه من وظيفته السابقة، أو فى وجه من استخدموه فى وظيفته الحالية، فربما لا تقوده ظروفه أو تركيبته الشخصية الى ذلك، ولكن الهدف أن نتأمل نحن ما تفعله فينا أخلاقيات البيع والشراء ، وأن ندين مهانة العمل والبطالة على حد سواء.

من هذه الزاوية الواسعة والعميقة، فإن فيلم “قانون السوق” سيحتل حتما مكانة رفيعة، بين تلك الأفلام، التى تكاد تترجم مقولة أوسكار وايلد الساخرة : “نحن فى زمن يعرف فيه الناس ثمنا لكل شىء، ولكنهم لايعرفون قيمة أى شىء على الإطلاق” . وما فيلمنا إلا  عن زمن يرتفع فيه  “ثمن” الأشياء، بينما تنخفض فيه “قيمة ” الإنسان.

Visited 64 times, 1 visit(s) today