“فتاة المصنع” بين كوريسماكي ومحمد خان

ياسمين رئيس في "فتاة المصنع" لمحمد خان ياسمين رئيس في "فتاة المصنع" لمحمد خان

الاقتباس في السينما أمر مشروع ومألوف. والسينما المصرية مارست الاقتباس منذ نشأتها وحتى يومنا هذا. كان الاقتباس في البداية من المسرح العالمي، ثم من الأعمال الأدبية، المصرية والأجنبية، ثم من الأفلام الأميركية. وبعد أن اتجه الكثير من المخرجين المصريين إلى كتابة سيناريوهات أفلامهم بأنفسهم، ظهر الاقتباس من الأفلام الأوروبية إلى جانب الأميركية.

هناك قائمة طويلة من الأفلام المصرية المقتبسة، منها ما يذكر مصادر الاقتباس، ومنها ما يغفل الإشارة إلى المصدر خاصة عندما يكون المخرج أو من يكتب له السيناريو، قد اقتبس بتصرّف كبير، أي بعد الإضافة والحذف والتعديل والتحوير في الشخصيات والأحداث والمواقف، ولكن دون أن يطغى هذا كله على “العمود الفقري” للفيلم، أو هيكل بناه الدرامي، الذي يرتبط بوضوح بالأصل الأجنبي.

المقصود هنا، ليس نقل مشهد من فيلم ما، أو اقتباس أسلوب إخراج مشهد آخر، بل الاستناد -كما أشرت- إلى “العمود الفقري” للفيلم، أي الهيكل العام لسيناريو الفيلم. هناك على سبيل المثال فيلم “الإمبراطور” الذي اقتبسه كاتب السيناريو فايز غالي بالكامل، كفكرة وشخصيات رئيسية وبناء درامي، في ما يمكن أن نطلق عليه “التمصير” وليس فقط الاقتباس. فهو منقول حرفيّا من الفيلم الأميركي ذائع الصيت “الوجه ذو الندبة”Scarface  (1984) لبريان دي بالما، وقد أخرجه في النسخة المصرية، طارق العريان وقام ببطولته أحمد زكي أي في نفس الدور الذي قام به في النسخة الأميركية آل باتشينو.

ننتقل الآن إلى فيلم محمد خان ما قبل الأخير “فتاة المصنع”، فهل اقتبست كاتبة سيناريو الفيلم وسام سليمان بالتعاون بالطبع مع محمد خان، هذا الفيلم من فيلم أجنبي؟

كان محمد خان دون أدنى شك، من أكثر المخرجين المصريين إقبالا على مشاهدة الأفلام الأجنبية، فقد كان منذ مطلع شبابه، مشاهدا عظيما للأفلام، ثم أصبح أيضا جامعا كبيرا للأفلام من جميع الأصناف والأنواع والاتجاهات والجنسيات. والمؤكد أنه شاهد الفيلم الفنلندي “فتاة مصنع الثقاب” The Match Factory Girl.

كان الحس الشخصي لمحمد خان يميل إلى الفكاهة والمرح، والمقصود الفكاهة التي تنبع من التناقض والمفارقة، أي تتمتع بالذكاء والقدرة على التعبير الساخر Ironical أي من دون مباشرة فجة، ومن دون افتعال أو مبالغة في الإضحاك والرغبة في إثارة الضحك على طريقة “الفارص” farce الذي ميّزت عروض الفودفيل المسرحية، قبل أن تنتقل إلى الأفلام الأميركية والمصرية خاصة كوميديات حسن فايق وإسماعيل ياسين التي كانت تعجب الجمهور في الخمسينات من القرن الماضي. لكن هذا موضوع آخر.

تأمل ساخر

حياة مليئة بالملل في "فتاة مصنع الثقاب"
حياة مليئة بالملل في “فتاة مصنع الثقاب”

“فتاة مصنع الكبريت” هو الفيلم الذي كتبه وأخرجه (عام 1990) المخرج الفنلندي أكي كوريسماكي الذي يعتبر الموهبة الأكثر بروزا على المستوى العالمي التي جاءت من فنلندا، تلك الدولة الباردة الصغيرة الواقعة في أقصى شمال غربي القارة الأوروبية.

شقّ كوريسماكي طريقه اعتمادا على موهبته الخاصة الفريدة، في بلد يكاد يكون بلا صناعة سينمائية حقيقية، وقيل إنه احتل بأفلامه منذ أن بدأ الإخراج في الثمانينات، نصف حجم الإنتاج السينمائي الفنلندي. هذا المخرج الذي يتميّز بأسلوب سينمائي شديد الخصوصية، انتقل بين مهن عدة، من غسل الصحون، إلى توصيل الرسائل، إلى كتابة الانطباعات السريعة عن الأفلام لصحيفة محلية في هلسنكي، ثم استعان به شقيقه ليشاركه الإخراج فتعلّم الكثير من أصول الحرفة. وفي 1983 قرر أن يعدّ ويخرج فيلما عن رواية ديستويفسكي “الجريمة والعقاب”، ولكن بتركيز على أزمة البطل- القاتل النفسية، أي في فيلم فارغ من الأحداث الكبيرة المعقّدة، بل يميل بوضوح إلى التأمّل الساخر.

هذا التأمّل الساخر تحديدا سيصبح السمة السائدة في أفلام كوريسماكي، وبوجه خاص في ثلاثيته التي تدور في أوساط الطبقة العاملة أو حول أشخاص ينتمون إلى تلك الطبقة الفقيرة في مجتمع يفترض أنه ضمن مجموعة بلدان الوفرة، وهذه الثلاثية تتكوّن من أفلام “ظلال في الفردوس” (1986) و”أريل” (1988) و”فتاة مصنع الثقاب” (1990). والفيلم الأخير تحديدا هو الذي يبدو أن وسام سليمان كاتبة سيناريو “فتاة المصنع” استندت إليه في الاقتباس.

يعتمد أسلوب كوريسماكي في فيلمه على اللقطات الطويلة بالكاميرا الثابتة، والتحكّم بصرامة كبيرة في أداء الممثلين، والاكتفاء بالإيماءات وتبادل النظرات أكثر من الحوار، وتبسيط المشهد كثيرا والابتعاد عن أي ألاعيب بالكاميرا. لدينا هنا فتاة حزينة تدعى “أيريس” تشعر بالسأم من عملها الرتيب المملّ في مصنع أعواد الثقاب، تبحث عن الحب لكنها لا تجده بل إن حياتها كلها سلسلة من الإحباطات. إنها تجلس تحدق طويلا في الفراغ، تعبيرات وجهها جامدة تجعلنا أحيانا نشعر بأنها توشك على البكاء بل هي تنهار باكية بالفعل في أكثر من مشهد، فهي تبكي بعد أن تشاهد مشهدا من أحد أفلام هوليوود في الأربعينات يقوم ببطولته همفري بوغارت الذي تعلّق صورته على حائط غرفتها.

أما فيلم محمد خان “فتاة المصنع” فاسمه يبدو مترجما ترجمة حرفية عن الفيلم الفنلندي، بعد استبعاد كلمة الثقاب أو الكبريت، فقد جعله مصنعا للمنسوجات لكي يتلاءم مع غلبة العاملات من الفتيات اللاتي يعملن عادة في هذا النوع من المصانع. وتعبير “فتاة المصنع” A Factory Girl ليس تعبيرا سائدا في مصر فالسائد هو “عاملة المصنع” أو “العاملة” وهو ما يقوي فرضية أنه متأثر بعنوان الفيلم الفنلندي.

بين الفتاتين

كان محمد خان دون أدنى شك، من أكثر المخرجين المصريين إقبالا على مشاهدة الأفلام الأجنبية، فقد كان منذ مطلع شبابه، مشاهدا عظيما للأفلام، ثم أصبح أيضا جامعا كبيرا للأفلام من جميع الأصناف والأنواع والاتجاهات والجنسيات. والمؤكد أنه شاهد الفيلم الفنلندي {فتاة مصنع الثقاب}
كان محمد خان من أكثر المخرجين المصريين إقبالا على مشاهدة الأفلام الأجنبية

“هيام” بطلة “فتاة المصنع”، مثلها مثل “أيريس” بطلة فيلم كوريسماكي، تعيش أيضا مع أمها “عايدة” ذات الشخصية القوية، وزوج أمها الفظ. لكن أمها أكثر رحمة وتعاطفا من أم أيريس في الفيلم الفنلندي، ففيلم محمد خان ذو نفس “نسائي”، يحرص صانعه على تصوير المرأة في صورة إيجابية، ويؤكد على فكرة تضامن النساء في أحلك الظروف. لكن هيام مثل أيريس، تتطلّع للحب وتبحث عن الرجل المناسب الذي تحبه ويبادلها الحب. وهي تعثر على فارس أحلامها في “صلاح” مُشرف العمال الجديد في المصنع. وعندما تتبادل معه قبلة تعتقد أنه قبل أن يبادلها الحب.

أما أيريس فهي تتعرّف في أحد المراقص على شاب هو “آرن” هو الذي يبادر ويطلب مراقصتها، ثم تقضي ليلة معه تنتهي بأن يغادر منزله الفخم ويترك لها مبلغا من المال، أي أنه يتعامل معها كعاهرة. ومع ذلك تقبل أيريس المبلغ ثم تعتقد أنها يمكن أن تقيم معه علاقة عاطفية. وعلى حين يكتسب الفيلم الفنلندي ملامح ولو خافتة، للتناقض بين الطبقات، ولا يحاول مخرجه أن يثير عواطفك أو يجعلك تنشغل بتوقع ماذا سيحدث، يبتعد الفيلم المصري عن الإشارات السياسية والتعليق الاجتماعي، ويهتم أكثر بالجوانب الدرامية المثيرة، والتعبير عن المشاعر الجارفة والعواطف والانفعالات وردود الفعل كما تنعكس على الشخصيات المختلفة. فزميلات هيام اللاتي يشعرن بالغيرة منها يطلقن إشاعة أنها حامل، وتترك هي لهذه الإشاعة الفرصة للانتشار دون أن تكبحها وكأنها تستمتع بها، وربما تريد إيهام حبيبها “صلاح” أنها قد أصبحت له من دون أن تكون قد مارست الجنس معه!

صلاح يرفض هذا العرض الشغوف بالحب، تماما كما يفعل آرون حبيب أيريس، إلا أن الفتاة في كلا الفيلمين لا تريد أن تتخلى عن الفكرة الرومانسية التي لا وجود لها سوى لديها ربما كنتاج لحياتها البائسة. أيريس في “مصنع الثقاب” تذهب إلى بيت آرون وتعرض عليه نفسها أكثر من مرة إلى أن يقول لها بوضوح إن ما بينهما لا يمثل شيئا عنده، وهيام تفرض نفسها على أسرته وتدخل بيته لرعايته وهو مريض، وتلحّ إلحاحا من أجل الحصول على تعاطفه وعاطفته، وتتقرب من والدته وتتعامل مع أسرته على أنها قد أصبحت خطيبته دون أن يكون بينهما أي اتفاق.

تحمل أيريس من آرون وتتصوّر أنه إذا علم بأمر طفلهما القادم، يمكن أن يغيّر موقفه منها، لكنه ينصحها بالتخلّص من الجنين، ويوضّح لها أن ما بينهما علاقة عابرة وقد انتهت. أما هيام فهي تترك إشاعة حملها  (الكاذب) من صلاح تنتشر دون أن تكون قد “فرّطت في بكارتها” أصلا. وهي القضية التي يتمحور حولها فيلم محمد خان لينتهي مثل كثير من الأفلام التقليدية المصرية، كميلودراما عن الشرف المهدور، وكيف يمكن أن تتحوّل الإشاعة إلى كارثة تنزل بالفتاة دون أن تكون قد أذنبت.

وبينما تصبح قضية هيام إثبات أنها لم تفرّط في شرفها ولم تسقط كما تتصوّر أسرتها أي تصبح في حالة دفاعية، تخطط أيريس للهجوم، أي للانتقام من كل من أساؤوا لها في حياتها: آرون وأمها وزوج أمها والشاب الفظ الذي يحاول التقاطها في البار ويعاملها كما لو كانت عاهرة رخيصة. إنه انتقام الطبقة الهامشية من ذلك القطيع الهمجي الطفيلي الذي لا يعرف المشاعر. ولعل كوريسماكي يختصر نهاية فيلمه في فكرة أن “من يلعب بالكبريت يحترق”.

لقطة عامة من “فتاة المصنع” لمحمد خان

عادية الشخصيات

الفيلم الفنلندي ذو إيقاع هادئ، عبارات الحوار فيه قليلة للغاية، فيه نزوع واضح تجاه السخرية السوداء، شخصياته عادية تماما، وتبدو غريبة في سلوكياتها بل إننا نشعر بأن أيريس أقرب إلى البلاهة، إلا أن غرابتها تأتي من “عاديتها”. وبينما يهتم كوريسماكي بالصورة في طابعها البسيط دون حاجة إلى الزخرفة والحشو، مع تعاطف ولو من طرف خفي، مع بطلته التي تقبل على تحقيق انتقامها الخاص وهي تعلم مسبقا أنها ستنتهي نهاية سيئة، يحتفي محمد خان كثيرا ببطلته ويحيطها بالسمو ويجعلها ضحية الجهل والتخلّف والعادات العتيقة ولكن المفارقة أنه لا يجعلها تتمرّد على تلك العادات بل تخضع لها.

وبعد أن كادت تفقد حياتها نتيجة المعتقدات البالية، نراها فجأة، في النهاية، تضحك وترقص لترتفع فوق الشعور بالإحباط والفشل.

أيريس في “فتاة مصنع الثقاب” ليست شخصية مأساوية فهي شخصية سلبية بكل معنى الكلمة. ترضخ لوالدتها، تعمل وتمنح معظم راتبها لأمها وزوجها، تطهي لهما الطعام، تنظف المنزل الضيق، ترضى بالاستلاب مرتين، في المصنع حيث تحوّلت إلى ما يشبه قطعة في آلة عمياء صماء، وفي المنزل حيث تعامل كما لو كانت آلة بدائية صدئة تقوم بالأعمال البدائية.

في العمل، تفتقد القدرة على تبادل حوار حقيقي مع زميلتها. وعندما تذهب إلى المرقص لا تلفت نظر. وبعدما تشتري فستانا أحمر يصفعها زوج أمها ويصفها بـ”العاهرة”. وهي تنعزل مع نفسها لتقرأ الروايات الرومانسية الإنجليزية، وتستمع إلى الأغاني العاطفية التي يحفل بها شريط الصوت ويجيد كوريسماكي تقطيعها واستخدامها للتعليق على المواقف المختلفة في الفيلم، بحيث يخلق تناقضا يدعو إلى الضحك.

كوريسماكي لا يسعى إلى أن يجعلك كمتفرج تتعاطف مع بطلته. فهي في الحقيقة بلا قضية. فلديها فقط رغبة داخلية غامضة في الحب، أو في الحصول على الاعتراف، ثم في تدمير الذات. وعندما نراها تتطلع إلى مشاهد قمع السلطات الصينية لمظاهرات الطلاب في ساحة تيانامن في بكين (أبريل 1989) نشعر بأنها تتألم وهي ترى القمع مجسدا، وتدرك أن وقوف طالب أمام دبابة لن يوقف المذبحة.

ولعل من أفضل ما ينطبق على هذا الفيلم كما على سائر أفلام كوريسماكي، ما ذكره أحد النقاد ذات مرة حينما قال إنك “أنت لا تعرف ما إذا كان يريدك كوريسماكي أن تضحك مع شخصياته، أو تبكي عليها. ربما الأمران معا”. وربما يكمن في هذا الجمع سرّ عبقريته!

https://www.youtube.com/watch?v=2BVqzw6YtUQ
Visited 95 times, 1 visit(s) today