فيلم “صائد الثعالب”: الحلم الأمريكي المشوه!
صائد الثعالب هو الفيلم الثالث للمخرج الأمريكي بينيت ميللر، وهو فيلمه الأهم والأفضل، وجد فيه ميللر الحكاية التي تتلائم مع أسلوبه الإخراجي، فأسلوبه ذو الإيقاع الخاص، يتيح الفرصة للتأمل في تفاصيل وفراغات الحكاية ومنعطفاتها وإطارها ومعايشة الشخصيات ومتابعتها عن قرب، وفوق كل ذلك يتيح مستويات متعددة للتلقي. هذا الأسلوب القائم على البساطة والواقعية في استخدام الإضاءة وأحجام اللقطات والديكور، والمعتمد على اللقطات الموضوعة بجوار بعضها البعض بميزان دقيق، كان أكثر نجاحا وتفاعلا وتناغما في فيلم “صائد الثعالب” من فيلميه السابقين ” كابوتي ” Capote و” كرة المال Moneyball.
رغم أن أفلام ميللر تتفق جميعها في أنها مقتبسة من أحداث حقيقية، ورغم أن “صائد الثعالب” يتشابه مع فيلم ” كرة المال” في الملامح العامة للحكاية وهي علاقة الرياضة بالمال والرغبة في الشهرة والطموح ، إلا أن أفلامه الثلاثة إذا اتفقت في شيء حقيقي فسيكون في أنها أفلام عن الشخصيات وعن دوافعها وعما يدور بداخلها من أفكار وتطلعات وأحاسيس، أفلام تتيح الفرصة للتأمل والتأني والمشاهدة وإدخال التجربة الخاصة للمشاهدين لتحقيق الاستجابة النفسية المطلوبة مع الأحداث والشخصيات ولقراءة الصورة ذهنيا أكثر من مرة في نفس المشاهدة لاستيعاب أفكار الفيلم ومعانيه الأكثرعمقا.
وبهذا المعنى ففيلم “صائد الثعالب” أفضل أفلام بينت ميللر وأهمها حتى الآن وهو أيضا أكثر أفلامه تقديرا على مستوى الجوائز، فقد حصل الفيلم على جائزة الإخراج في مهرجان كان السينمائي، وترشح لخمس جوائز أوسكار منها جائزة الإخراج والسيناريو والممثل الرئيسي.
في المزرعة
الحكاية الحقيقية هي حكاية مزرعة ” فوكس كاتشر” التي يمتلكها رجل الأعمال المرتبط بدوائر السياسة “جون دي بونت” وهو من عائلة دي بونت الثرية والمرموقة. يقرر دي بونت أن يستضيف الفريق الوطني الأمريكي للمصارعة في المزرعة ورعايته للمشاركة في الأولمبياد المقامة في سول 1988، وعلى رأس هذا الفريق البطلان الأولمبيان الأخوان ديف ومارك شولتز.. ينجح ديف في إحراز ميدالية ذهبية في هذه الأولمبياد، وبعد ثماني سنوات يقوم دي بونت بقتل ديف شولتز في ظروف غامضة.
يعتمد السيناريو على فكرتين في تقديمه للحكاية وشخصياتها: الأولى هي تلاشي الحلم الأمريكي، حلم تحقيق الذات والشهرة والسعي نحو العظمة، حلم الفرص المتساوية والعدالة، الحلم الذي توارت خلفه كل المعاني الحقيقية للقيمة لينتج في النهاية أنماطا زائفة من نجوم المجتمع المثاليين والمصنوعين بواسطة الإعلام والنفوذ السياسي والأفكار الاستهلاكية وقيم المجتمع الطبقية المستقرة.. والفكرة الآخرى هي انعكاس هذا الفشل والتلاشي نفسيا على الشخصيات وتجليه في فكرة الآخر الذي نسقط عليه أوهامنا وهواجسنا ونحقق من خلاله الانعتاق من القيود والتخلص من محاصرة المجتمع ومحاصرة العائلة ومحاصرة أنفسنا.
الآخر إذن هو انعكاس للذات المحطمة، هو وسيلة الخلاص والتحقق والهرب وتحقيق الخلود وقد يصبح أيضا العقبة والقيد في طريق هذا التحرر، والهاجس الذي يذكرنا بالخوف والفشل والموت. فكرة عامة أولية موجودة في عمق الحكاية تخرج منها فكرة آخرى أكثر خصوصية وأكثر ارتباطا بشخصيات السرد، لا تغيب الأولى عن الأذهان ولا تطغي على الحكاية بتكلف، وتضفي الثانية الوحدة النفسية على الفيلم .
في مشهد البداية يذهب مارك شولتز الذي يؤدي دوره الممثل شاشنج توتم، لإحدى المدارس ويعرف نفسه للتلاميذ بأنه بطل أولمبي حائز على ميدالية ذهبية.. ثم وهو يتقاضى مبلغا ضئيلا من المال نظير عمله الدعائي تخلط الموظفة بينه وبين أخيه الأكبر المشهور وتقول:
-هل اسمك ديف أم ديفيد؟
– كلا، اسمي مارك شولتز. ديف هو أخي.
ويضيف بعد فترة من الصمت:
– فزنا كلانا بميداليات ذهبية..
بداية رائعة للغاية تدعم الحكاية على كافة مستوياتها، فمارك هو البطل الأولمبي الذي لا يعرفه أحد، فإحراز ميدالية ذهبية لا يكفي لتحقيق الشهرة والنجاح في المجتمع الأمريكي بل إن الأمر يتطلب شكلا معينا من النجاح ونمطا معينا من الشخصية، وقبل ذلك يحتاج الأمر وجود ماكينة إعلامية كبيرة كي تروج لهذا النجاح. ومن ناحية أخرى وعلى مستوى الدراما، يظهر من البداية أن الآخر الذي يسقط عليه مارك فشله وشعوره بالظلم والخيبة هو أخوه الأكبر ديف.
ثم ننتقل إلى صالة التدريب الفقيرة لنرى مشهدت آخر تتلخص فيه العلاقة المركبة بين ديف ومارك أثناء التدريب. القلق والتوتر يسيطران على المشهد، مارك لديه كم كبير من الغضب واليأس وعدم الرضا والاندفاع، وديف هادئ يحاول امتصاصه وتهدئته. علاقة مركبة من مشاعر كثيرة متناقضة يتداخل فيها الحب والعطف والشعور بالامتنان مع القسوة والتوتر وعدم الرضا والغيرة والطموح .
مارك يشعر أن ديف هو المثال الذي لا يستطيع الوصول إليه، هو دائما عند نقطة معينة لا يتخطاها، لا يشعر بالاكتمال الإ في وجود ديف فهو دائما الأخ الأصغر والمندفع والمتدرب والأقل ذكاء، وهذا الشعور هو المشكلة التي لا يعرف كيف يتعامل معها.
يظهر دي بونت الذي يؤدي دوره الممثل ستيف كاريل ويعرض على ديف وشولتز الانضمام للفريق الوطني الذي يستعد للأولمبياد القادمة. يرفض ديف ويقبل مارك. يتحول السرد نحو شخصية دي بونت، وبمرور الوقت تصبح هي الشخصية الرئيسية المسيطرة على الأحداث ولكن من مميزات السيناريو أنه لم يتحول عن فكرته الأساسية وهي تلاشي الحلم الأمريكي، والآخر الذي نسقط عليه أوهام هذا التلاشي، ذلك خلق الوحدة والانسجام بين الشخصيات جاعلا الحبكة تدور حول نفس المعاني وجعل السيناريو يقدم حكايته وشخصياته كأجزاء تتكامل وتتنوع في إطار عام له نفس المعنى والروح.
دي بونت بشكل أو بآخر هو ضحية الحلم الأمريكي أيضا، فهو ينتمي لعائلة عريقة لها تاريخ طويل في تجارة السلاح مما جعلها عائلة ثرية جدا وشديدة الارتباط بدوائر السياسة والسلطة في أمريكا. ورغم كل ذلك فهو يعشق المصارعة وكان يتمني أن يصبح مصارعا ولكن أمه ترى أنها لعبة وضيعة لا تليق بالعائلة التي ينبغي أن تكون هواية أفرادها الفروسية وشراء أجود أنواع الخيول وسباقات الخيول فهذا يليق بالعائلة وتاريخها ومزرعتها وأرستقراطيتها بينما المصارعة لعبة لا يمارسها الإ الفقراء. من الجائز أن نفهم تعلق دي بونت بالمصارعة تعبيرا منه عن الرفض تجاه العائلة وعملها ورغبته في التخلص من نمط حياته المحدد سلفا أكثر من كونه تعلق بالمصارعة في حد ذاتها، نشعر بذلك عندما نجد أنه لا يتابع اللعبة كثيرا ومعرفته بقوانينها بسيطة للغاية.
دي بونت- كما نراه في المشهد الأخير قبل القبض عليه- هو رجل محاصر دائما في نفق ضيق لا يستطيع الخروج منه ، يشعر بالاختناق وأنفاسه الخائفة تحاصره أكثر وأكثر. رجل محطم تماما داخليا.. أصبح بدون حلم أو معنى، لم يعد لديه سوى إسقاط مخاوفه وآماله على الآخر وتحقيق الانعتاق من خلال الآخر. يستخدم نفوذه لإغراء مارك الذي يتحمس أيضا رغبة منه في التخلص من شبح أخيه الذي يطارده. يظهر دي بونت في الصورة التي يريدها باعتباره المدرب والراعي ورجل الأعمال الوطني، ولا بأس من تنظيم بطولة للمصارعة لمن هم فوق الخمسين ولا بأس كذلك أن يفوز هو بهذه البطولة ولو عن طريق رشوة اللاعبين الآخرين .
يهمل مارك التدريب في المزرعة ويسرف في الشراب وتعاطى الكوكايين. يكتشف دي بونت أن مارك ليس رهانه الأفضل وأنه شخص محطم تماما مثله (وقد يكون لهذا اختاره من البداية مع علمه بأن ديف هو خياره الأمثل) وفي نفس الوقت تعود مشكلة مارك للظهورعلى السطح من جديد وهو شعوره بأنه لا يستطيع فعل شيء بدون أخيه.. يدعو دي بونت ديف مجددا، ينضم ديف إلى الفريق بعد أن يقبل دي بونت شروطه وتتوتر العلاقة بين ديف ومارك وبين دي بونت ومارك ويذهب الثلاثة للأولمبياد.
في لحظة معينة أصبحت العلاقة بين مارك ودي بونت تسير على نفس الخط رغم التوتر الخارجي الظاهر بينهما، ورغم ابتعاد مارك عن بؤرة الحدث قليلا، ورغم فرحة دي بونت بالفوز والانتصار الذي حققه ديف إلا أن الغضب واليأس والابتعاد والإحساس بالفشل قد تماهي بين مارك ودي بونت، وفي حين أظهره مارك جليا امتصه دي بونت كعادته في هدوئه وفي فرحته بالانتصار.
في المشهد الذي يقوم فيه دي بونت بإطلاق سراح الخيول تعبيرا عن التحرر لا تنطلق الكاميرا مع الخيول إنما تقف وراء الرجل وتبدو الخيول بعيدة ومنطلقة تحت السماء الباهرة، يعطي دي بونت ظهره للكاميرا ويحجب عنا منظر الخيول البعيدة. يبدو منزويا في الظلام ، شبحا أو ظلا بعيدا تماما عن الانعتاق والخلاص.
شخصية ديف التي أداها الممثل مارك رافالو هي الشخصية الأكثر تفاعلا مع المشاهدين لأنها الشخصية الأكثر وضوحا والأكثر طيبة، هي الشخصية المستقرة التي تسير على نفس الوتيرة من البداية للنهاية، الشخصية المريحة بين شخصيتين مضطربتين للغاية ومثيرتين للتساؤل والقلق، وقد أداها رافالو ببراعة ملفتة، لم يتكلف واستطاع أن يعبر عن شخصية أحادية بسيطة تقابل كل الحيرة والقتامة المسيطرة على الفيلم.
عن الأداء
رغم ذلك فالأداءان الآخران كانا أكثر إثارة وإتقانا لأن شخصياتهما بالأساس أعقد وأكثر تركيبا. قدم ستيف كاريل أداءً مذهلا واستطاع أن يمتص كل مشاعر الخيبة والإحساس بالفشل والضياع ويترجمها في شخصية ملموسة وحقيقية وغير منفعلة بنبرة صوته الرفيعة المتحفظة وملامحه الجامدة وشحوب وجهه ورأسه المرفوعة دائما وأنفه البارز، امتص بأدائه الحقيقي كل فراغات الحكاية ولحظات الصمت والتأمل مما ساعد ميللر كثيرا في أسلوبه الإخراجي والمعتمد بشكل كبير أيضا على التمثيل.
قدم تشاننغ تاتوم هو الآخر أداءا جيدا في شخصية مارك رغم أنه الأقل حضورا بين الممثلين الثلاثة ولم يترشح للأوسكار، ومع ذلك قدم أداءا جسديا رائعا وعبر بشكل واضح عن أزمة الشخصية ومشكلتها الرئيسية في القلق الناتج من عدم الرضا وعدم القدرة على الاستيعاب وقلة الثقة بالنفس والاندفاع والمبالغة في التعبير وفي ردود الفعل، والملفت للنظر أن كاريل وتانوم قدما أدائيين مختلفيين للغاية مقارنة بأدوراهما السابقة وعما اعتادا عليه من أدوار .
في النهاية “صائد الثعالب” فيلم عظيم ومتكامل إلى أبعد حد، فيلم بارد ومقبض في أجوائه و فيلم نفسي في تناوله لشخصياته، كل عناصره تدعم حكايته وتصنع فيلما يثير التأمل والتساؤل محققا وحدة وانسجام من خلال فكرة رئيسية في لب الحكاية وهي تلاشي الحلم الأمريكي والإحساس بالخطر الناتج من هذا التلاشي والرغبة في التحرر والانعتاق عن طريق الآخر سواء بالابتعاد عنه أو عن طريق استخدامه لتحقيق الهواجس والآمال أو حتى من خلال قتله والتخلص منه.